الماء على المريخ

حين تنظر إلى الكوكب الأحمر فسيبدو لك للوهلة الأولى كوكباً صحراوياً. تُسيطر عليه الصحارى الحجرية الحمراء في كل مكان، تلك التي تُهيمن عليها المواد القاتمة وحتى السوداء المؤلفة من الحجارة والرماد البركاني. ولدى المقارنة مع الأرض –الكوكب الأزرق– فإن المريخ سيبدو قاحلاً. وعلى الرغم من ذلك فإن هناك دلائل صريحة تشير إلى أن كميات كبيرة من الماء كانت موجودة على المريخ، ولا يزال جزءٌ منها موجود هناك حتى اليوم. هذا الموضوع هو من التعقيد بحيث يمكن لنا أن نؤلف كتاباً كاملاً حوله. ولذلك فسنقوم في هذه المقالة بالحديث عن الموضوعات المعقدة فقط في شكل موجز.

صورة عامة لكوكب المريخ. المصدر: ناسا
صورة عامة لكوكب المريخ. المصدر: ناسا


المريخ: خصائص فيزيائية هامة


حتى نتمكن من فهم سلوك الماء على المريخ في الماضي والحاضر، فلا بد أولاً من أن نقارن بعضاً من خصائصه الفيزيائية مع خصائص كوكب الأرض بشكل مختصر.

تُعادل كتلة المريخ عُشر كتلة الأرض فقط، أما الضغط الجوي على سطحه فهو أقل بمائة مرة من الضغط الجوي على سطح الأرض، وتعادل درجة الحرارة الوسطية على سطح المريخ حوالي 65 درجة مئوية تحت الصفر. يبدو من الواضح أن جميع هذه القيم تقع ضمن الهامش المقبول من الشروط الضرورية لوجود الماء على كوكب المريخ.


تعتبر قوة الجاذبية الضعيفة مسؤولة عن الغلاف الجوي الرقيق للكوكب الذي يؤدي بدوره إلى ضغط جوي منخفض على سطحه، فالضغط الجوي على سطح المريخ يعادل الضغط الجوي على ارتفاع ثلاثين كيلومتراً فوق سطح الأرض، وبسبب ضعف قوة الجاذبية فإن كوكب المريخ عاجزٌ عن الاحتفاظ بغلافٍ جوي كثيف لفترة طويلة كما هو الحال على الأرض. وكما سنشاهد لاحقاً، فقد كان الغلاف الجوي لكوكب المريخ حتى قبل ثلاثة مليارات عام تقريباً أكثر كثافة بشكل ملحوظ مما هو عليه اليوم، وبذلك فقد ساد مناخٌ لطيف سمح بوجود الماء بشكله السائل دون أي عوائق. ويمكننا التأكد من ذلك من خلال الآثار الواضحة التي خلفتها الكميات الكبيرة من الماء المتدفق على سطح المريخ في ماضي الكوكب.

وهذا السلوك للضغط ودرجة الحرارة، والذي يدعى بظروف الضغط والحرارة (pressure-temperature conditions) أو اختصاراً (P-T conditions)، يُشير إلى أن الظروف المتوفرة على المريخ في الوقت الحاضر لا تسمح بتواجد الماء على سطح الكوكب -على الأقل نظرياً- فالماء الذي يتسرب متدفقاً على سطح الكوكب يتبخر بشكل فوري، والجليد يتحول مباشرة من الحالة الصلبة إلى الحالة الغازية، وهي الآلية التي تدعى بالتصعُّد (sublimation). أما سبب وجود الماء بشكل جليديّ في أوقات معينة وبشكل سائل في أوقات أخرى، فسنتحدث عنه بالتفصيل في الفقرات القادمة.

الجليد على المريخ


يمكننا استخدام تلسكوب مخصص للهواة لرؤية أغطية بيضاء قطبية على المريخ، والتي يخضع حجمها لتبدلات دوريّة فصليّة. تتألف هذه الأغطية القطبية من جليد الماء وثنائي أوكسيد الكربون وتحتوي على جزء كبير من الماء الموجود حالياً على سطح المريخ. وقد تم إثبات وجود الماء بشكل قاطع في هذه الأغطية القطبية بواسطة المقياس الطيفي (OMEGA) المحمول على البعثة مارس إكسبرس (Mars Express) التابعة لوكالة الفضاء الأوروبية، وذلك في عام 2004.

تتألف هذه الأغطية القطبية من طبقات متناوبة من الجليد والغبار. ويمكن لطبقة رقيقة من الغبار فوق طبقة الجليد أن تحمي الكتل الجليدية من التصعّد. وتبين الصورة أدناه كيف تبدو عليه منطقة الغطاء القطبي الشمالي.

الغطاء القطبي الشمالي على كوكب المريخ. المصدر: G. Neukum - ESA/DLR/FU Berlin
الغطاء القطبي الشمالي على كوكب المريخ. المصدر: G. Neukum - ESA/DLR/FU Berlin


تتوفر على المريخ الكثير من الأدلة التي تشير إلى وجود بنى جليدية. حيث تتواجد الأنهار الجليدية ذات التشكلات المختلفة بدءاً من القطبين وحتى خطوط العرض المتوسطة، وتعتبر الفوهة التي يشبه شكلها الساعة الرملية والمبينة في الصورة أدناه من الدلائل النموذجية على هذه البنى، وتتألف هذه البنية من فوهتين متجاورتين ممتلئتين بالجليد. وقد تبيّن أن مستوى إحدى هاتين الفوهتين أعلى بشكل طفيف من مستوى الفوهة الأخرى بحيث ينحدر الجليد المنزلق متدفقاً نحو الفوهة الأعمق.

الفوهة بشكل الساعة الرملية على المريخ. المصدر: G. Neukum - ESA/DLR/FU Berlin
الفوهة بشكل الساعة الرملية على المريخ. المصدر: G. Neukum - ESA/DLR/FU Berlin


ويُمكن بسهولة رؤية التشكيلات المتكونة نتيجة تدفق الماء في الاتصال الضيق بين الفوهتين. كما تُشاهد مؤشراتٌ على وجود فعالية جليدية في الفوهة ذات المستوى الأخفض، وتظهر البنى الناتجة عن التدفق بشكل واضح على حواف الفوهتين، وهذه الأشكال المجوفة لا يمكن أن تكون ناتجة عن الارتطامات النيزكية، وإنما نتحدث هنا عما يُدعى بمنخفضات التصعد (sublimation pits) -كما يفترض العلماء-

وبسبب الضغط الجوي المنخفض فإن النهر الجليدي يتحول في مكانه من الحالة الفيزيائية الصلبة إلى الحالة الغازية (ما يدعى بالتصعد) ولا يحدث تصعدٌ كامل للكتلة الجليدية لأنها تكون مغطاة بطبقة رقيقة من الغبار لا تتجاوز سماكتها بضعة ميكرومترات، كما هو الحال في الأغطية القطبية، ويساعد ذلك في المحافظة على الكتلة الجليدية.

وقد شوهدت آثارٌ كتل جليدية كبيرة على السفح الغربي لجبل أوليمبوس (Olympos Mons)، والتي لا يتجاوز عمرها مليوني سنة حسب تقديرات العلماء. وبذلك فإنه من الممكن القول أنه حديثاً قد تواجد نشاط جليدي على سطح المريخ. وفي هذه الحالة فإن مصطلح "حديثاً" يُستخدم لدى الاختصاصيين بعلوم الكواكب للإشارة إلى الأحداث التي وقعت قبل حوالي خمسة ملايين سنة من الآن. أما لدى علماء البيولوجيا فإن مصطلح أشكال الحياة "الحديثة" يشير إلى الحياة التي لا تزال موجودة اليوم والتي لم تنقرض بعد.

ويتواجد جزءٌ آخر كبير من ماء المريخ كطبقات جليدية مستديمة (ما يُدعى بالجليد الدائم) تحت سطح المريخ. وهذا الجليد قد يكون مرتبطاً بالجزء الأكبر من الماء الذي كان متدفقاً في الماضي على سطح الكوكب (انظر فيما بعد). وقد تسرب هذا الماء في الواقع في بداية تاريخ المريخ إلى داخل الأرض. ويمكننا العثور على الجليد الدائم قرب المناطق القطبية بدءاً من بضعة سنتيمترات تحت سطح المريخ، وقد يمتد أحياناً لعدة كيلومترات تحت السطح.

وقد تم الحصول على البراهين من مصدرين. المصدر الأول من المدار، وذلك بواسطة المسبار مارس إكسبرس (Mars Express) التابع لوكالة الفضاء الأوروبية والمركبة المريخية المدارية (Mars Reconnaissance Orbiter) التابعة لناسا (NASA) حيث أجريت قياساتٌ بواسطة أشعة الرادار التي تمتلك القدرة على اختراق سطح المريخ لتنعكس بعدها عند حدود الطبقات الجليدية. وقد أتاحت هذه الطريقة العثور على طبقات جليدية حيث ظهرت كانعكاسات ساطعة. أما الدليل الآخر المباشر فقد تم الحصول عليه من سطح المريخ مباشرة، وذلك من بعثة فينيكس (Phoenix) التابعة لناسا، والتي حطت على سطح المريخ قرب القطب الشمالي. وقد قام هذا المسبار بحفر سطح المريخ بواسطة ذراعه الآلية، وتصعّد الجليد الذي أصبح مكشوفاً في غضون بضعة أيام.

الماء بشكله السائل


هناك الكثير من الدلائل الجيولوجية على وجود الماء السائل، والتي يجب أن تكون قد تدفقت على سطح المريخ بكميات كبيرة في الماضي. وسنتطرق في هذه المقالة فقط إلى بضعة أمثلة من النماذج المتوفرة حول هذا الموضوع.

من الواضح أن الكميات الأكبر من المياه الجارية قد تسربت من تحت الأرض بشكل تدفقاتٍ هائلة في الوديان، ويحدث ذلك دائماً بالآلية نفسها:حيث يؤدي تسخين الطبقات الموجودة تحت الأرض بتأثير الفعالية البركانية –أو ما يدعى بالنقاط الساخنة (hot spots) (وهي مناطق موضعة تنصهر فيها طبقة المعطف الصخرية الخاصة بالكوكب مما يؤدي إلى صعود الصّهارة البركانية إلى القشرة)– إلى ذوبان كميات كبيرة من الجليد الدائم الموجود في منطقة معينة. ويتدفق الماء خارجاً إلى سطح الكوكب في مناطق الاضطراب هذه مؤدياً إلى مدٍ مائي هائل، والذي يحفر ودياناً طويلة يصل طولها إلى عدة آلاف من الكيلومترات.

لنتذكر الآن ما تحدثنا عنه في بداية المقالة حول درجات الحرارة الوسطية على المريخ. بعد خروج الماء إلى سطح المريخ فإن عليه أن يتجمد سريعاً. والنتيجة هي أن هذا الماء المتدفق خارجاً سيتواجد بشكله السائل في منابع الجريان، أما في الأجزاء المتوسطة والنهائية من هذه الأنهار فتشاهد آثارٌ واضحة على الفعالية الجليدية، والتي نذكر منها مثلاً الندبات الجليدية (glacier scars). وتشاهد على المريخ كذلك الحالة المعاكسة، حيث تقوم الأنهار الجليدية بتوليد الماء في الأجزاء النهائية منها، وذلك لدى تحول الركام الجليدي في نهاية هذه الأنهار إلى الماء.

وتظهر الصورة التالية الواديين المعروفين باسم داو (Dao Valles) ونيغر (Niger Valles) كأمثلة على أقنية التدفق النموذجية.

واديا داو ونيغر. المصدر: G. Neukum - ESA/DLR/FU Berlin
واديا داو ونيغر. المصدر: G. Neukum - ESA/DLR/FU Berlin


يمكن العثور على وديان نهرية جافة تماماً في بعض المناطق ضمن الهضبة الجنوبية. حيث يُبدي بعض هذه المناطق خصائص شكلية مشابهة لشبكات المنابع المائية على الأرض، أما البعض الآخر فيُبدي دلائل على بنى متعرجة. ويعتبر وادي نانيدي (Nanedi Valles) من الأمثلة المعروفة على أنظمة الجريان على المريخ.

وادي نانيدي. المصدر: G. Neukum - ESA/DLR/FU Berlin
وادي نانيدي. المصدر: G. Neukum - ESA/DLR/FU Berlin


وفي الواقع لا يمكن للماء في الوقت الراهن أن يتواجد بشكله الفيزيائي السائل إلا في الوديان العميقة، كما هو الحال مثلاً في وادي المريخ الكبير (Valles Marineris) أو في سهل هيلاس المنخفض (Hellas Planitia)، وذلك لأن الضغط الجوي يكون في هذه الأماكن من الارتفاع يمكن أن يسمح بوجود الماء السائل. ورغم ذلك فإن إحدى البنى الموجودة على سطح المريخ ترتبط بوجود الماء السائل لفترة قصيرة على الأقل على سطح المريخ بدءاً من شباب المريخ وحتى الوقت الحاضر، ألا وهي الأخاديد (gulleys).

والأخاديد: هي عبارة عن خنادق تآكلية تتميز بجدرانها المنحدرة للأسفل وأسطحها المتآكلة، والتي تذكرنا بالمسطحات الرسوبية (alluvial fans) الموجودة على الأرض. ويُمكن قياس أعمار هذه البُنى من خلال تحديد التوزع التكراري لأحجام الفوهات فوق هذه المساحات، والذي يُظهر أن هذه الأخاديد لا يمكن أن تكون أقدم من بضعة مئات آلاف السنين.


مقارنة بين الأخاديد المريخية (على اليمين، المصدر: ناسا) والخنادق التآكلية الأرضية (على اليسار، المصدر: Christian Leu).
مقارنة بين الأخاديد المريخية (على اليمين، المصدر: ناسا) والخنادق التآكلية الأرضية (على اليسار، المصدر: Christian Leu).


تظهر الصورة أدناه أحد الأخاديد على المريخ مقارنة مع أحد الخنادق التآكلية على الأرض الذي تشكل على تلة من الحصى في مقلع حجري. علماً ان هذه الخنادق التآكلية تظهر في نفس الارتفاع تقريباً، بحيث تغذيها المياه الجوفية كما هو مفترض.
 


بخار الماء


تشاهد السحب بشكل منتظم في الغلاف الجوي للمريخ، وهي تتألف من ثنائي أوكسيد الكربون بالإضافة إلى الماء والتي تشير الى حقيقة مثيرة للاهتمام وهي أن الغلاف الجوي للمريخ مشبع بالماء. وبذلك فإن نسبة الرطوبة تبلغ هناك 100%، ويسود على سطحه جو رطب للغاية وذلك نسبة لدرجات الحرارة.

ويشكل هذا الإشباع المائي سبباً آخر يفسر كلاً من التصعد الجزئي وليس الكامل للكتل الجليدية، وتواجد الماء لفترات قصيرة على سطح الكوكب، فالغلاف الجوي قادرٌ بالكاد على احتواء المزيد من بخار الماء. ولنفس السبب فإن الغسيل المُعلق على الشرفة لن يجف حين تكون معدلات الرطوبة في الجو مرتفعة.

عرضيّة الأحداث البيولوجية على المريخ


تشير الكشوفات الحديثة إلى أن الأحداث الجيولوجية مثل الفعالية البركانية والفيضانات الكارثية لم تحدث بشكل مستمر وإنما بشكل عرَضي. وقد حدثت مثل هذه الزيادة العرَضية في الفعالية الجيولوجية قبل 3.5 وكذلك قبل 1.5 مليار سنة، وكذلك قبل 400-800 وقبل 200 وقبل 100 مليون سنة. وقد تزامن هذا الاشتداد في الفعالية الجيولوجية في أول حالتين، أي قبل 3.5 وقبل 1.5 مليار سنة، مع حقبة الاصطدامات النيزكية المريخية.

الخطط المستقبلية


سيكون استكشاف الماء المتواجد على المريخ بشكل جليد دائم أحد المكوّنات العلمية الأساسية لأهداف الكشوفات المستقبلية. وستشكل إمكانية الاستفادة من المستودعات المائية الموجودة على المريخ أهمية جوهرية في البعثات المريخية المأهولة في المستقبل.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • الأيونات أو الشوارد (Ions): الأيون أو الشاردة هو عبارة عن ذرة تم تجريدها من الكترون أو أكثر، مما يُعطيها شحنة موجبة.وتسمى أيوناً موجباً، وقد تكون ذرة اكتسبت الكتروناً أو أكثر فتصبح ذات شحنة سالبة وتسمى أيوناً سالباً

اترك تعليقاً () تعليقات