تصوّرٌ فنيٌّ لنجمٍ شابٍ محاطٍ بقرصٍ كوكبيٍ أولي حيث تتشكّل الكواكب (وتظهر هنا دون الاعتماد على مقياس للرسم)
Credit: ESO/L. Calçada
يقدم نموذجٌ جديد في نشوء النظم الكوكبية الشابة حلًا جديدًا للغزٍ حيّر علماء الفلك منذ أن كشفت تقنيات الاسكتشاف الجديدة وبعثات صيد الكواكب مثل تلسكوب الفضاء كبلر Kepler space telescope التابع لوكالة ناسا، عن آلاف الكواكب التي تدور حول نجومٍ أخرى. ففي حين تقع أغلبية هذه الكواكب الخارجية ضمن فئة تسمّى الأجسام الأرضية الفائقة super-Earth، وهي أجسامٌ لها كتلٌ تقع بين كتلة الأرض وكتلة نبتون، كان يُعتقد أن معظم السمات المرصودة في النظم الكوكبية الوليدة تستدعي وجود كواكبٍ أكبر كتلةً، كتلةٌ مماثلةٌ لكوكب المشتري أو بحيث يبدو قزمًا أمامها، وهو العملاق الغازي في نظامنا الشمسي .
وبعبارةٍ أخرى، فإن السمات المرصودة لكثيرٍ من النظم الكوكبية في المراحل الأولى من تشكّلها لا تبدو أنها تتطابق مع نوع الكواكب الخارجية التي تشكّل الجزء الأكبر من مجموع الكواكب في مجرّتنا.
يقول روبينغ دونغ Ruobing Dong، زميل ما بعد الدكتوراه في برنامج زمالة بارت جي. بوك في مرصد ستيوارد التابع لجامعة أريزونا والمؤلف الرئيسي للدراسة، التي نشرت في مجلة Astrophysical Journal: "نقترح سيناريو كان من المستحيل التفكير به في السابق، فكيف يمكن لأرضٍ عملاقةٍ حفر فجواتٍ متعددة في الأقراص الكوكبية". ويضيف: "هذه هي المرة الأولى، التي يمكننا فيها التوفيق بين مزايا القرص الغامض التي نرصدها وعدد الكواكب الأكثر شيوعًا في الموجودة في مجرّتنا".
ووفقًا لدونغ ما تزال كيفية تشكّل الكواكب، سؤالًا مفتوحًا مع عددٍ من المشاكل العالقة. ويفسّر ذلك قائلًا: "اكتشف كبلر آلاف الكواكب، إلا أنها جميعًا كانت معمّرةً جدًا، وتدور حول نجومٍ يصل عمرها إلى بضعة ملياراتٍ من السنين، كشمسنا، إذ يمكننا القول أننا نرصد فئة كبار السن في مجرتنا، لكننا لا نعرف شيئًا عن كيفية ولادتهم".
وللعثور على الأجوبة، يتجه علماء الفلك إلى الأماكن التي تتشكّل فيها الكواكب الجديدة حاليًا، أي أقراص الكواكب الأولية، بمعنىً آخر، الأخوة الأصغر لنظامنا الشمسي.
تتشكّل مثل هذه الأقراص بفعل تكثُّف سحابةٍ ضخمةٍ من الغاز والغبار بين النجميّ تحت تأثير الجاذبية قبل انهيارها إلى قرصٍ دواميٍ، ويتألق في مركز القرص الكوكبي الأولي نجمٌ شابٌ، يُقدّر عمره ببضعة ملايين من السنين فقط. والأمر يتم على هذا النحو، فحين تلتئم جزيئات الغبار المجهرية مع بعضها البعض مشكّلةً حبوبًا رمليةً، وتلتصق حبات الرمال معًا لتشكّل الحصى، وتتراكم الحصى لتصبح كويكبًا ومن ثم تتشكّل الكواكب في نهاية المطاف، ليولد نظامٌ كوكبيٌّ مثل نظامنا الشمسي.
يوضح دونغ قائلًا: "تتمتع هذه الأقراص بعمرٍ قصيرٍ جدًا، ومع مرور الوقت تتبدّد المواد، ولكننا لا نعرف بالضبط كيف يحدث ذلك، ما نعرفه هو أننا نرى الأقراص حول نجومٍ بعمر مليون سنةٍ، ولكننا لا نراها حول نجومٍ بعمر 10 ملايين سنة".
وفي السيناريو الأكثر احتمالًا، تتراكم الكثير من مواد القرص فوق النجم، فبعضها يعصف بها الإشعاع النجمي والباقي يدخل عملية تشكيل الكواكب.
وعلى الرغم من أنّ الأقراص الكوكبية الأولية قد رُصدت على مقربةٍ نسبية من الأرض، إلا أنه لا يزال من الصعب جدًا ملاحظة أيٌّ من هذه الكواكب التي قد تتشكّل ضمن هذه الحدود، وبدلًا من ذلك، اعتمد الباحثون على سماتٍ مثل الفجوات والحلقات لاستنتاج وجود الكواكب.
يقول شينغتاي لي Shengtai Li الباحث المشارك في مختبر لوس ألاموس الوطني في لوس ألاموس في ولاية نيومكسيكو: "ضمن التفسيرات التي تُقدّم لهذه الحلقات والفجوات، فإن تلك التي تتضمّن الكواكب هي بالتأكيد الأكثر إثارةً وتستقطب أكبر قدرًا من الاهتمام". ويضيف: "وحين يدور الكوكب حول النجم، سيغدو الأمر واضحًا، فمن الممكن أنه يشق طريقًا على طول مداره، لتنتج عنه الفجوة التي نراها".
إلا أن الواقع أكثر تعقيدًا بعض الشيء، كما يتضح من اثنتين من أبرز عمليات الرصد للأقراص الكوكبية الأولية، التي أجراها مرصد ألما ALMA، أو مصفوفة مرصد أتاكاما المليمترية الكبيرة وما دون الميليمترية Atacama Large Millimeter/submillimeter Array في تشيلي.
ويتكون مرصد ألما من مجموعة هوائيات راديو بقطرٍ يتراوح بين 7 و 12 مترًا وسيصل عددها إلى 66 لدى الانتهاء من تجميعها. وقد كشفت صور نجمي هل تاو HL Tau و تو هيدرا TW Hydra، التي تم الحصول عليهما في عامي 2014 و 2016، على التوالي، عن أدق التفاصيل حتى الآن في أيِّ قرصٍ كوكبيٍّ أوليٍّ، وتُظهر أيضًا بعض السمات التي يصعب، إن لم يكن من المستحيل، شرحها بالنماذج الحالية لتشكّل الكواكب وفقًا لدونغ.
فكما يوضّح دونغ: "من بين الفجوات في نجمي هل تاو و تو هيا الذَين اكتشفهما مرصد ألما، يظهر زوجان منها بشكلٍ ضيقٍ وقريبان للغاية من بعضها البعض. إذ تنص النظرية التقليدية، على صعوبة فتح الكوكب مثل هذه الفجوات في القرص، حيث لا يمكن لها أن تكون أبدًا بهذا الضيق والقرب من بعضها البعض لأسبابٍ فيزيائيةٍ تتعلق بالأمر".
وفي حالة نجمي تل تاو و تو هيا، سيحتج المرء على دوران كوكبين يتداخل مداراهما ببعضهما البعض بشكلٍ قريبٍ، وهذا السيناريو لن يكون مستقرًا على مرّ الزمن، وبالتالي فمن غير المرجح حدوثه.
وفي حين أن النماذج السابقة قد تمكّنت من تفسير وجود الفجوات الكبيرة والمفردة والتي يُعتقَد أن وجودها يدلّ على إزالة الكواكب للأنقاض والغبار في طريقها، إلا أنها فشلت في تفسير السمات الأكثر تعقيدًا التي كشفت عنها عمليات رصد ألما.
ونتيجةً للنموذج الذي أُنْشئ من قبل دونغ والمؤلفين المشاركين، نتج ما يدعوه الفريق بعمليات الرصد الاصطناعية synthetic observations، وهي محاكاةٌ تبدو تمامًا مماثلةً لمشاهدات مرصد ألما في السماء، إذ أنجز فريق دونغ هذا عن طريق تعديل المعاملات المدخلة في محاكاة القرص الكوكبيّ الأوليّ المطوَّر تدريجًا، مثل افتراض اللزوجة المنخفضة وإضافة الغبار إلى المزيج. واستندت معظم عمليات المحاكاة السابقة على ارتفاع لزوجة القرص وأُخذت بعين الاعتبار فقط من أجل المكون الغازيّ للقرص.
يقول لي: "قد تكون اللزوجة في الأقراص الكوكبية الأولية ناتجةً عن الاضطرابات والتأثيرات الفيزيائية الأخرى". ويضيف: "إنها كميةٌ غامضةٌ إلى حدٍّ ما، فنحن نعلم أنها موجودةٌ هناك، ولكننا لا نعرف أصلها أو قيمتها، لذلك نعتقد أن افتراضاتنا معقولة، باعتبارنا أنها تؤدي إلى النمط الذي رُصد فعليًا في السماء".
والأهم من ذلك أن عمليات الرصد الاصطناعية انبثقت من المحاكاة دون ضرورةٍ للاستعانة بنماذج العمالقة الغازية كالمشتري أو الأكبر منه. يقول دونغ: "لقد تبيّن أن واحدةً من (أرضٍ فائقةٍ) تكفي لإنشاء حلقاتٍ متعددة وفجواتٍ متعددة، ضيقةٍ كالتي نراها في عمليات الرصد الفعلية".
وحالما يكشف البحث في المستقبل عن المزيد من الأعمال الداخلية للأقراص الكوكبيّة الأوليّة، سينقّح دونغ وفريقه محاكاتهم مع بياناتٍ جديدة. أما في الوقت الراهن، تقدّم عمليات الرصد الاصطناعية سيناريو مثيرًا للاهتمام يوفّر حلقةً مفقودة بين السمات المرصودة في العديد من الكواكب الوليدة ونظرائها الأكبر.
نُشرت الدراسة في 13 تموز/يوليو في مجلة Astrophysical Journal، بعنوان "فجوات وحلقات القرص المتعددة التي تولدها أرض فائقة منفردة Multiple Disk Gaps and Rings Generated by a Single Super-Earth"، بقلم روبينغ دونغ، وشنتاي لي، ويوجين تشيانغ Eugene Chiang، وهوي لي Hui Li.