تُشاهد هنا -داخل المربع في مركز الصورة- واحدة من العينات المعدنية موضوع الدراسة، وهي النيوبيوم ثنائي السيلينيد (niobium diselenide)، أثناء إعدادها لتجربة حيود الأشعة السينية.
مصدر الصورة: جامعة شيكاغو/مختبر أرغون الوطني
عندما اختُرع الترانزستور في العام 1947، في مختبرات بيل، استطاعت قلةٌ توقع الأثر المستقبلي للجهاز. لقد كان هذا التطور الأساسي في العلم والهندسة حاسمًا لاختراع أجهزة الراديو المحمولة، وأدى إلى الحوسبة الحديثة، كما أتاح الحصول على تقنيات كالهاتف الذكي. هذا واحدٌ من أوجه أهمية البحوث الأساسية.
وعلى نحوٍ مماثل، يُركز فرعٌ من فروع أبحاث الفيزياء الأساسية، وهو دراسة ما يسمى "الإلكترونات المترابطة" (correlated electrons)، على التفاعلات بين الإلكترونات في المعادن.
إن مفتاح فهم هذه التفاعلات والخصائص الفريدة التي تَنتُج عنها المعلومات التي قد تؤدي إلى تطوير مواد وتقنيات جديدة، هو التحقق التجريبي من وجودها، وسبر هذه التفاعلات مادياً على المقاييس المجهرية. ولتحقيق هذه الغاية، قام "توماس أف روزنباوم" (Thomas F. Rosenbaum)، من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، وزملاؤه في جامعة شيكاغو ومختبر أرغون الوطني، مؤخرا، باستخدام مصدر سينكتروني (synchrotron) للأشعة السينية للتقصي عن وجود تقلبات في ترتيب الإلكترونات في المعادن، تبعاً لدرجة الحرارة والضغط، ولتحديد كيف تنشأ هذه الاضطرابات بدقة للمرة الأولى.
وروزنباوم، أستاذ الفيزياء ورئيس كرسي صندوق سونيا وويليام دافيدو Sonja and William Davidow Presidential Chair [صندوق وقفي لدعم معهد كالفيورنيا للتكنولوجيا]، هو المؤلف المُعقب على الورقة العلمية التي نشرت في 27 يوليو/تموز 2015، في مجلة نيتشر الفيزياء.
يقول يون فنغ Yejun Feng، من مختبر أرغون الوطني، والمؤلف المشارك في الورقة: "لقد أمضينا أكثر من 10 سنوات في تطوير الأدوات لإجراء هذه الدراسات". ويضيف "لدينا الآن قدرة فريدة جداً نتجت عن العلاقة طويلة الأمد بين الدكتور روزنباوم ومرافق مختبر أرغون الوطني".
تنتظم الإلكترونات، داخل الذرات، في أغلفة، وأغلفة فرعية مدارية (subshells). وعلى الرغم من أنها غالباً ما توصف بأنها كيانات مادية، فإن المدارات في الواقع تمثل التوزيعات الاحتمالية -مناطق في الفضاء حيث يُرجح بشكل محدد العثور على الإلكترونات في عنصر معين على درجة طاقية معينة. ويُفسِر الترتيب الإلكتروني الخاص لعنصر ما الخصائص المميزة لهذا العنصر.
يبحث مجال العمل على الإلكترونات المترابطة في مجموعة فرعية من الإلكترونات. على سبيل المثال، في المعادن هناك مدارات خارجية شاغرة تتيح للإلكترونات حرية الانتقال من ذرة إلى أخرى. ولذلك، تُعد المعادن موصلات كهربائية جيدة. وعندما تحتشد ذرات المعدن بإحكام في شبكيات (أو بلورات) فإن هذه الإلكترونات تمتزج معًا في "بحر" من الإلكترونات. أما عنصر الزئبق المعدني، فيكون في حالة سائلة عند درجة حرارة الغرفة، ويرجع ذلك جزئياً إلى توزيعه الإلكتروني، كما أنه يُظهر مقاومةً ضئيلةً للغاية للتيار الكهربائي بسبب ترتيبه الإلكتروني. وعند أربع درجات حرارية فوق الصفر المطلق (بالكاد فوق -460 درجة فهرنهايت)، يفرز الترتيب الإلكتروني للزئبق، وغيره من الخصائص، إلكترونات مشتركة لا تُبدي أي مقاومة للتيار الكهربائي، وهي حالة تعرف باسم "التوصيل الفائق" (superconductivity).
تعود قدرة التوصيل الفائق للزئبق، وغيرها من الظواهر المشابهة، لوجود كثيرٍ من أزواج الإلكترونات المترابطة. ففي حالة التوصيل الفائق، تقترن الإلكترونات المترابطة في أزواجٍ لتشكيل حالة جماعية مرنة، وذلك من خلال إثارة في شبكية الكريستال تعرف باسم "الفونون" (phonon) (على وجه التحديد، إثارة جماعية دورية للذرات). بعد ذلك، تستطيع الإلكترونات التعاون على التحرك في الحالة المرنة عبر المادة دون فقدان الطاقة.
تستطيع الإلكترونات، الموجودة في البلورات، التفاعل بطرق متعددة مع البنية الدورية للذرات التي تتضمنها. وأحياناً، تُعدل الإلكترونات نفسها دورياً في الفضاء. وهذا يثير التساؤل حول ما إذا كان "نظام الشحن" هذا مستمداً من التفاعلات بين الإلكترونات والذرات، وهي نظرية اقترحت للمرة لأولى منذ أكثر من 60 عاماً، أو أنها مستمدةٌ فقط من التفاعلات بين بحر الإلكترونات نفسه. لقد كان هذا السؤال محور الدراسة التي أجرتها مجلة نيتشر الفيزياء. بالإضافة إلى ذلك، تتصرف الإلكترونات كمغناطيسات مجهرية، كما أنها تستطيع إظهار "نظام اللف الذاتي" (spin order)، وهو أمر يثير أسئلة مماثلة حول أصل "المغناطيسية المحلية" (local magnetism).
وللنظر أين ينشأ نظام الشحن، توجه الباحثون إلى مصدر الفوتون (Photon Source) المُتقدم في مختبر أرجون. ومصدر الفوتون، هو سنكرترون (cyclotron) (من أقرباء جهاز تحطيم الذرة)، يُشتهر باسم "محطم الذرة" (atom-smasher). تُولد هذه الأجهزة حزماً من الأشعة السينية المكثفة التي يمكن استخدامها في دراسات حيود الأشعة السينية. وفي حيود الأشعة السينية، تُستخدم أنماط من الأشعة السينية المنتشرة، لتقديم معلومات حول البُنى المتكررة مع الأطوال الموجية على المقياس الذري.
استخدم الباحثون، في هذه التجربة، حزم الأشعة السينية للتقصي عن تأثيرات نظام الشحن في معدنيْن، هما الكروم والنيوبيوم ثنائي السيلينيد، عند قوة ضغط تتراوح بين 0 (فراغ) إلى 100 كيلوبار (kilobar) (وهو ما يعادل 100،000 مرة من الضغط الجوي العادي)، وعند درجات حرارة تتراوح من 3 إلى 300 كلفن (أو -454 إلى 80 درجة فهرنهايت). وقد اختير النيوبيوم ثنائي السيلينيد، لأن درجة نظام الشحن لديه عالية، بينما اختير الكروم في المقابل، لأن درجة نظام اللف الذاتي لديه عالية.
وقد وجد الباحثون أن هناك علاقة ترابطية بسيطة بين الضغط وكيفية تنظيم الإلكترونات الجماعية لأنفسها داخل البلورة. وتتصرف المواد ذات الأنماط المختلفة تماماً من البُنى الكرستالية بطريقة مماثلة. ويقول روزنباوم "إن هذه الأنواع من ظواهر الشحن واللف الذاتي معروفة منذ زمن طويل، لكن الآليات الكامنة ورائها لم تُفهم حتى الآن".
أما المؤلفان المُشاركان في الورقة، وهُما جاسبر فان فيزيل Jasper van Wezel، الذي كان يعمل لدى مختبر أرغون الوطني سابقاً، ويعمل حالياً لدى معهد الفيزياء النظرية في جامعة أمستردام، وبيتر ليتلوود Peter Littlewood، وهو أستاذ لدى جامعة شيكاغو ومدير مختبر أرغون الوطني، فقد ساعدا على توفير تصورٍ نظري جديد لتفسير النتائج التجريبية.
يشير روزنباوم وزملاؤه إلى عدم وجود تطبيقات عملية فورية لهذه النتائج. إلا أن روزنباوم يُقرّ بأنه "يجب أن يكون هذا العمل قابلاً للتطبيق على المواد الجديدة، علاوة على أنواع التفاعلات المفيدة في خلق الحالات المغناطيسية التي تمثل الشروط المسبقة (antecedents) للموصلات الفائقة".
يقول روزنباوم "إن جاذبية هذا النوع من الأبحاث تكمن في طرح الأسئلة الأساسية الكلية عن الطبيعة". ويضيف: "أعتقد أنه تقليد أصيل لمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، أن يحاول تطوير أدواتٍ جديدة، تستطيع استنطاق المواد بطرقٍ من شأنها تسليط الضوء على الجوانب الأساسية للمشكلة"، ويوضح أن "هناك قوة حقيقية في القدرة على الحصول على استبصارات مجهرية عامة، من أجل تطوير اختراقات أقوى".
المؤلفون المشاركون في هذه الورقة، التي كان عنوانها "التقلبات في كثافة الموجة المتنقلة عند النقاط الكلاسيكية والكمومية الحرجة" (Itinerant density wave instabilities at classical and quantum critical points)، هم يون فنغ وبيتر ليتلوود، من مختبر أرغون الوطني، وجاسبر فان فيزيل، من جامعة أمستردام، و دانيال أم سيلفيتش ويانغ وانغ، من جامعة شيكاغو، وفيليكس فليكر، من جامعة بريستول. وقد مُوِل العمل المنجز في مختبر أرغون الوطني من قِبل وزارة الطاقة الأمريكية. أما العمل المنجز في جامعة شيكاغو، فقد مولته المؤسسة الوطنية للعلوم. كما قدمت المنظمة الهولندية للأبحاث العلمية دعماً إضافياً للعمل.