تعد ميكانيكا نيوتن جوهر الفيزياء الكلاسيكية، وتعود ميكانيكا نيوتن إلى جانب الديناميكا الحرارية، ونظرية الأمواج في البصريات، ومعادلة ماكسويل في النظرية الكهرومغناطيسية إلى نظام الفيزياء الكلاسيكية، ويمكن استخدام ذلك كله في تفسير مجال واسع من الظواهر الكونية على المستوى العياني المنظور (macroscopic الظاهر للعين المجردة). تفشل هذه النظريات بشكل ذريع لدى تطبيقها على الظواهر في النظام الذري والنووي، كتناثر (بروتون- ذرة)، وحركة الإلكترونات في أنصاف النواقل.
ولهذه الأسباب بالذات تعد ميكانيكا الكم أفضل النظريات العلمية التي ظهرت على الإطلاق والتي غيرت نظرتنا إلى العالم كلّيًّا، وقد كان تفسير إشعاع الجسم الأسود والفعل الكهرضوئي من الأمور التي سلطت الضوء على فشل الفيزياء الكلاسيكية. وقدّم كل من ماكس بلانك Max Planck وألبرت أينشتاين Albert Einstien تفسيرات لكلا الظاهرتين تعتمد على الفرضية الكمومية ولهذا اعتُبرا مؤسِّسا الفيزياء الكمومية.
يعود منشأ ميكانيكا الكم إلى منتصف عشرينيات القرن الماضي. حين صاغها في البداية كل من فيرنر هايزنبرغ "Werner Heisenberg" وماكس بورن "Max Born" وباسكال جوردان "Pascual Jordan" على شكل ميكانيكا مصفوفة، ثم على شكل ميكانيكا موجية فيما بعد من طرف إرفن شرودينغر Erwin Schrödinger ولويس دو بروكلي Louis de Broglie وأخيرًا على شكل إحصاء كمّي للجسيمات ما دون الذرية على يد فيرمي- ديراك Fermi-Dirac وبوز- أينشتاين Bose-Einstien. وبالجمع بين ميكانيكا النسبية وميكانيكا الكم، صاغ ديراك معادلته في ميكانيكا النسبية الكمومية في الثلاثينيات من القرن الماضي.
يعد مبدأ الشك حجر الزاوية في ميكانيكا الكم، ويحطم الدور الذي تلعبه العشوائية في العمليات الفيزيائية الكلاسيكية الأسطورة القائلة بحتمية الكون. فالعالم الكمومي هو عالم من غير الممكن التنبؤ به بالمفهوم الكلاسيكي ويدحض فكرة الكون المجرد المدرك بالحواس. ويبقى تفسير كوبنهاغن الصيغة الشكلية لميكانيكا الكم والمقبولة حاليًا على أوسع نطاق بين الفيزيائيين. تدعم نظريات ميكانيكا الكم الروح الكونية السائدة في الكون والعلاقات الداخلية بين مكونات هذا العالم.
كلمات مفتاحية: natural phenomena ظاهرة طبيعية، classical physics الفيزياء الكلاسيكية، quantum physics فيزياء الكم، determinism الحتمية، uncertainty principle مبدأ الشك أو عدم اليقين، quantum philosophy الفلسفة الكمومية، nature of reality طبيعة الواقع.
مقدمة
منذ بداية التاريخ قام العلماء والفلاسفة بدراسة الظواهر الطبيعية. وحتى مطلع القرن العشرين كان الاعتقاد السائد مبني على أساس الفيزياء الكلاسيكية وأدى إلى الاعتقاد بالحتمية. determinism وهي عقيدة لها جذورها في التفكير الفلسفي لديكارت الفرنسي. حيث اعتقد ديكارت أن الكون عبارة عن ساعة عملاقة تتحرك بشكل مضبوط إلى الأمام بدون هوادة، نحو الأبدية. ووفقًا لتفسيره، فالمستقبل هو أمر مسبق ومن الممكن توقعه تمامًا. ووصفت كل الظواهر الطبيعية بدقة باستخدام القوانين الفيزيائية، ومن حيث المبدأ، يمكن التنبؤ بها وبدقة بدءًا من الماضي وباتجاه المستقبل في إطار عمل الفيزياء الكلاسيكية.
في العقود الأولى من عشرينيات القرن الماضي، كانت هناك مفاجأة كبيرة بانتظار العلماء والفلاسفة حين تداعت نظرتهم نحو العالم، واُقتلعت وأُطيح بها بواسطة نظرية فيزيائية تدعى ميكانيكا الكم. فباستطاعة الفيزياء الكلاسيكية أن تقدم تفسيرًا لمجال واسع من الظاهر العيانية المنظورة، كحركة كرات البلياردو والصخور الفضائية، ولكنها فشلت فشلا ذريعًا حين طُبقت على الظواهر المجهرية، كتناثر بروتون-ذرة proton-atom scattering، أو حركة الإلكترونات في أنصاف النواقل. فالعالم الحقيقي ليس هو العالم الذي تدركه حواسنا. إذ يقبع خلف الثبات الظاهري للأجسام التي نصادفها يوميًا عالمٌ لظلٍّ غريب من الاحتمالية وعدم اليقين. وكما سنرى، تختلف التعاريف البسيطة لهذا العالم منذ نشوئه عن تجاربنا اليومية.
وقد شكّل هذا الانتقال من العالم المجهري microworld إلى العالم العياني المنظور macroworld معضلة بالنسبة للعلماء و الفلاسفة معًا، إذ كيف نشأ العالم العياني من العالم المجهري؟ وتدّعي النظرية التي تفسِّر كيفية عمل العالم المجهري بميكانيكا الكم؛ فهي النظرية العلمية الأكثر نجاحًا حتى الآن وقد غيرت بالكامل وجهة نظرنا إلى العالم. ومع كل نجاحها، بقيت مجالات من نظرية الكم محيرة تمامًا، حتى بالنسبة لفيزيائيين كأينشتاين و ريتشارد فينمان "Richard Feynman" الذي قال بالحرف : "أعتقد أنني أستطيع أن أقول بأمان تام أنه لا أحد يفهم ميكانيكا الكم". ووفقا لستيفن وينبرغ Steven Weinberg والذي صرح: "برأي، لا يوجد الآن تفسير مرضٍ تماما لميكانيكا الكم".
دور الفيزياء الكلاسيكية والحتمية
في الفيزياء الكلاسيكية، يمكن معرفة كل خصائص جسيم أو منظومة بدقة غير متناهية. حيث يستخدم الفيزيائي الكلاسيكي مسارات لتحديد موضع وزخم (كمية حركة) جسيم ما: حيث يعطينا التابع [r(t),p(t);t>t0]
المسار في اللحظة t، حيث الزخم الخطي يعرف بالمعادلة:
\(p(t) = md/dtr(t)= mv(t)\)
حيث \(m\) كتلة الجسم و \(v\) سرعته.
وفي الفيزياء النيوتونية تعد المسارات هي (واصفات للحالة state descriptors). ويمثل تطور حالة جسيم ما بمساره. ولمعرفة المسار في لحظة زمنية t>t0، نحن بحاجة معرفة (V(r,t، الطاقة الكامنة للجسيم وموضعه الابتدائي في اللحظة t0.
ومن قانون نيوتن الثاني في الحركة:
\(md^2/dt^2 r(t)=-V(r,t)\)
ومن الشروط الابتدائية، بإمكاننا التنبؤ بمواقع كل الجسيمات وزخمها-عمليًا، وللكون بأكمله. بالتالي فإن الفيزياء الكلاسيكية تنسب إلى الكون حقيقة موضوعية، ووجود خارجي ومستقل عن المراقبين البشريين. وطبيعة الكون الكلاسيكي يمكن التنبؤ بها وأدت إلى فكرة الحتمية، التي تدعمها الميكانيكا النيوتونية والفلاسفة الفرنسيون (كديكارت وآخرون) وهيمن هذا الاعتقاد حتى قدوم نظرية الكم.
فلو كان الكون حتميًا، فلابد من وجود سبب وراء كل تأثير. وكان مبدأ السببية causality هو الصخرة التي ارتقت عليها الفيزياء الكلاسيكية في القرن التاسع عشر. وهو يتنبأ بإعادة انتاج النتائج التجريبية. فيسلك الكون سلوك آلة عملاقة ضخمة وغير واعية وليس للإرادة الحرة أية دور لتلعبه.
ففي هذا الكون، تغدو الأمور التي نحبها وآمالنا وأحلامنا مجرد أوهام وطموحاتنا البشرية لا طائل منها. ويماثل ذلك نظرية الكارما الهندوسية، فكل حدث مقرر ومقدر مسبقا. فالحتمية هي فلسفة غير إنسانية. وأدت إلى صعود الماركسية في أوروبا. فهي مملة أضف إلى أنها خاطئة.
انهيار الفيزياء الكلاسيكية
(أ) إشعاع الجسم اﻷسود: فشلت الفيزياء الكلاسيكية في تفسير الطيف الاشعاعي للجسم اﻷسود على جميع نطاقات التردد، و التي أصبحت تعرف باسم كارثة الأشعة فوق البنفسجية. فقد كان هناك تناقض بين النظرية والتجربة. وبشكل كلاسيكي، وصفت كثافة الطاقة الإشعاعية بالمعادلة التالية: \(dp(v,T) = 8πK_BTv^2dv/c^3\)
وتثبت المعادلة أعلاه أنه كلما ازداد تردد الضوءv تزداد كثافة الطاقة الاشعاعية لتقترب من اللانهاية كما هو مبين في المخطط. ومع ذلك، فإن النتائج التجريبية تتناقض مع النظرية. وعمليًا، تبين ومن خلال التجارب أن كثافة الطاقة الإشعاعية تميل إلى الانخفاض مع زيادة التردد في طيف الأشعة فوق البنفسجية.
عند المقارنة بين النماذج الكلاسيكية والكمومية لإشعاع الجسم الأسود. يفسر النموذج الكمومي القيم التجريبية في جميع مجالات التردد، بينما يفشل النموذج الكلاسيكي عند الترددات العالية. ويتفق النموذجان عند الترددات المنخفضة.
سنة 1900 تمكن ماكس بلانك "Max Planck" بنجاح من تفسير إشعاع الجسم اﻷسود واشتق معادلة قادرة على وصف النتائج التجريبية بدقة (انظر إلى الشكل 1).
(dρ(v,T)=8\(π\)h/c3 (v3 dv/(ehv/κ BT)-1
كان بلانك قادرًا على استخلاص هذه الصيغة بافتراض أن طاقات التذبذب تقاس كميًا حسب المعادلة التالية: E=nhv
حيث h ثابتة بلانك وقيمته: h=6.626×10-34 j.s.
وكان تكميم بلانك للطاقة افتراضًا ثوريًا ومؤشرًا لبداية مجال جديد من فيزياء الكم.
(ب) التأثير الكهروضوئي Photoelectric Effect: استُخدِمَ منهج فيزياء الكم لشرح النتائج التجريبية للتأثير الكهروضوئي، والذي هو ببساطة طرد الإلكترونات من سطح معدني حين تسلط حزمة من الضوء عليه. وينبغي أنْ نعرف أنَّ الفيزياء الكلاسيكية تصف الضوء كموجة لها سِعة وتردد محددين حيث ترتبط السعة بالشدّة. وكان التفسير الكلاسيكي هو أنّ إلكترونات المعدن ستتذبذب نتيجة الضوء لتُنتَزع في نهاية المطاف مبتعدة عن السطح مع طاقة حركية تعتمد على شدة الإشعاع الوارد. ومع ذلك، تُظهِر الملاحظات التجريبية أنّ الطّاقة الحركية للإلكترونات الخارجة مستقلّة عن شدة الإشعاع. في الواقع، لن يخرج أي من الإلكترونات، بغض النظر عن كثافة الإشعاع الوارد، إذا كان تردد حزمة الضوء هو أقل من تردد العتبة المحدد لهذا المعدن.
واستخدم مفهوم بلانك للطاقة الكمية من قبل آينشتاين في شكل معدل لوصف النتائج التجريبية للتأثير الكهروضوئي. حيث اقترح أينشتاين أن الضوء يمكن أن ينتقل في حزم كمية صغيرة من الطاقة (الفوتونات) بدلًا من أن يسلك وبشكل مقيّد سلوك موجة كلاسيكية. وبيّن أينشتاين أنّ الطاقة الحركية للإلكترونات الخارجة تساوي طاقة الفوتون الوارد ناقص حد الطاقة (المعروف بتابع العمل φ) واللازم لتحرير إلكترون من هذا المعدن بالذات. ويوصف هذا التفسير بالمعادلة التالية:
\(KE=1/2mv^2=hv-φ \)
وهكذا كان نموذج آينشتاين قادرًا على حساب جميع النتائج التجريبية بالكامل بما في ذلك عدم اعتماد طاقة الفوتونات الخارجة على شدة الإشعاع الوارد. إنّ فشل بعض ترددات الضوء لإخراج أي فوتونات من السطح المعدني مبني على حقيقة أن الفوتونات الواردة لديها طاقة أقل من قيمة تابع عمل المعدن.
استخدم التأثير الكهروضوئي من قبل أينشتاين لتحديد قيمة ثابتة بلانك تجريبياً، والتي أُثبت أنها هي نفسها التي حددها بلانك. وقد أعطى هذا مصداقية لفكرة الطاقة الكمية ولفيزياء الكم ككل، ورغم ذلك تابع العديد من العلماء بما في ذلك أينشتاين النظر إليها بشك.