هل سيفسر

"يعترينا الخجل ونحن نفاضل بين عظمة منجزات الكمومية" فنحن لا نعرف كيف تحدث أو "لماذا توجد الكمومية أصلًا". 

جون ويلر John Wheeler، صحيفة نيويورك تايمز، 12/1/ 2000. 

حلم جوليو تشيريبيلا بصفته طالبًا بأن يكون مؤلفًا موسيقيًا، أحدًا يمكنه أن يسبغ الموسيقا بـ "الأفكار العميقة لعصرنا"، فدرس عزف البيانو في المعهد الموسيقي في مانتوفا في إيطاليا، حتى إنه شرع بالعمل لتحصيل شهادة في التأليف الموسيقي. ولكنه ما لبث بعدها أن بلغ حدًا فنيًا دفعه للقول: "شعرت بأنني أحتاج لكي أصبح فنانًا كاملًا أن أكون على دراية بأسس معرفتنا عن الكون، فكيف لي أن أتجاهل أسس الفيزياء وأسس كل ما نعرفه عن الواقع؟". 

هذا ما أفضى بتشيريبيلا ليكون الآن فيزيائيًا كموميًا في جامعة تشينغ هوا Tsinghua في بكين-الصين، درس الفيزياء والرياضيات وسرعان ما أسرَته؛ وقد قاده البحث عن أسس أعمق حتى الآن، هو وزملاؤه جياكومو مورو داريانو ‏Giacomo Mauro D'Ariano وباولو بيرينوتي Paolo Perinotti في جامعة بافيا Pavia في إيطاليا، إلى إعادة صياغة القواعد في صميم الفيزياء النظرية.

وقد حددوا خمسة مبادئ أساسية يمكن تعميمها على كل من "الفيزياء الكلاسيكية" التي تحكم كل الأجسام التي نراها في حياتنا اليومية من حولنا، وعلى "القواعد الكمومية الغريبة" التي تحكم سلوك الجسيمات في العالم دون الذريّ. وبالطبع، إنه عمل فذ يشابه إيجاد مجموعة أساسية من النغمات الموسيقية يمكن لأي سمفونية متقنة أن تتألف منها.

جوليو تشيريبيلا Giulio Chiribella - جامعة تشينغ هوا Tsinghua .
جوليو تشيريبيلا Giulio Chiribella - جامعة تشينغ هوا Tsinghua .

ووفقًا لهذا النموذج يتضاءل الفرق بين العوالم الكمومية والكلاسيكية إلى خاصية إضافية بسيطة واحدة، أطلقوا عليها "مبدأ النقاوة" Purification principle، وهي بديهية تنقل المحتوى المعلوماتي للأنظمة الكمومية إلى مرحلة مركزية، وإن استخدمت بشكل صحيح ستمكنهم من تفسير العديد من الخصائص الغريبة الأخرى التي نراها في التجارب الكمومية، ولماذا تعمل معادلاتنا الكمومية بشكل جيد.

كذلك يمكن لنتائجهم أن تساعدنا في فهم أصل اتجاه التطور الزمني (أو سهم الزمن) Time Arrow، وقد تحمل أيضًا مضامين تفيد الفيزيائيين الذين يطورون خوارزميات خاصة بالحواسيب الكمومية، التي يتوقع لها أن تتفوق على الآلات النموذجية المستخدمة حاليًا.
 

مشكلة محرجة


تعد ميكانيكا الكم واحدة من أكثر نظرياتنا الفيزيائية نجاحًا، فهي تمكننا من توصيف الجسيمات الأولية والقوى الأساسية، إضافة لفهم التفاعلات الكيميائية، وبناء أجهزة الليزر والترانزستورات والحواسيب، ومع ذلك يعتري هذه النظرية -حسب تعبير الفريق- "مشكلة محرجة"، فقواعد ميكانيكا الكم معضلة غامضة فهي ليست مشتقة من المبادئ المتفقة مع بديهتنا.

 

وبينما يمكنك وصف قوانين الميكانيكا الكلاسيكية -التي وضعها إسحق نيوتن قبل قرون- في ضوء مفاهيم سهلة الإدراك، كموضع وسرعة الجسيمات، فإن ميكانيكا الكم مبنية على مجموعة من البديهيات المجردة والمستوحاة من المشاهدات الرصدية والتجريبية الغريبة التي قام بها الفيزيائيون في أوائل القرن العشرين. ولكي تتعامل مع ميكانيكا الكم يمكنك فقط أن تقبل هذه الخصائص الغريبة كما هي دون أن تتبصر أعمق في كيف أو لماذا ظهرت، أو حتى إلى أي كينونات تشير قوانينها!

لخص تشيريبيلا وداريانو وبيرينوتي في ورقة علمية صيغتهم الجديدة عام 2012 قائلين: "من الصعب ألا تشك بأنه رغم تقدمنا التجريبي والتكنولوجي فإننا نفتقد الصورة الكاملة تمامًا، حتى إننا لا نستطيع أن نعرف على وجه التأكيد ما هي النظرية الكمومية دون اللجوء إلى اللغة المجردة، ماذا يعني هذا؟ لماذا يجب توصيف الطبيعة باستخدام هذا الجزء الاستثنائي من الرياضيات؟". 

لنقدّر فقط درجة غموض الرياضيات الكامنة وراء هذه النظرية، لا نحتاج للنظر أبعد من المعادلة المركزية التي يستخدمها الفيزيائيون لحساب كيف يتطور نظام كميّ ما قبل أن تطبق عليه عملية القياس، والتي طرحها في العشرينيات الفيزيائي النمساوي إيروين شرودينغر، وهو واحد من الآباء المؤسسين لنظرية الكم. يقول تشيريبيلا: "الطريقة التي اكتشف بها شرودينغر هذه المعادلة كانت مغامرة ". ولعل أحد أشهر غرائب الكمومية هي إظهار الجسيمات خصائص شبه موجية في بعض التجارب، على سبيل المثال، إنتاج الجسيمات لأنماط تداخل عند تفاعلها مع بعضها. 

أدرك شرودينغر بأن معادلات علم الضوء التقليدي (الذي يتعامل مع كيفية تداخل الموجات الضوئية interfere وانحرافها Diffract عندما تمر عبر شقوق أو على حواجز) بدت كأنها تصف حركة الجسيمات المفردة. وبالتالي، افترض معتمدًا على حدسه أن المعادلة التي تصف تطور نظام كمومي ستكون مشابهة، وكان محقًا. يقول تشيريبيلا: "تشكل هذه المعادلة واحدة من المسلمات المركزية لنظرية الكم، لكنها لا تقوم على أي مبادئ أساسية. إنها حيلة بارعة أثبتت نجاحها بفعالية، ولكننا نود الآن أن نفهم ما يعنيه هذا". 

حدد تشيريبيلا وداريانو وبيرينوتي في عام 2010 مجموعة من المسلمات البديلة الأكثر عمومية، يمكن أن تُشتق منها جميع الخواص الفيزيائية الأخرى (كلاسيكية أو كمومية). وكان هدفهم الرئيسي وجوب أن يكون المعنى الفيزيائي الأساسي وراء مسلماتهم سهل الفهم، فمثلًا مسلمتهم الأولى تتعلق بالسببية Causality وتقول بأن نتيجة تجربة ما، يجب ألّا تعتمد على عمليات تجرى بعد اكتمال القيام بالتجربة، وهو شيء يوافق عليه معظم الناس بناء على خبراتهم اليومية.


مبدأ النقاوة Purification principle


تسري بديهياتهم الخمس على كل من الأنظمة الكلاسيكية والكمومية، أما مسلمتهم السادسة المسماة بـ "مبدأ النقاوة" فتكمن في صميم النظرية الكمومية البديلة التي وضعها الفريق، وهي ستبين لماذا تتصرف الجسيمات بشكل مختلف جدًا على المستوى دون الذري مقارنة بالأجسام التي نراها حولنا.


يستهدف مبدأ النقاوة مباشرة محتوى معلومات نظام كميّ ما، ففيزيائيو الكم يميزون مسبقًا بين أنظمة في "حالة نقية " Pure State، وأنظمة في حالة "مختلطة" Mixed State، بناء على كمً من المعلومات يمكن الحصول عليها منها. ولفهم الفرق بين هذين النوعين من الحالات، يمكنك أن تستحضر خاصية التشابك الكمومي Entanglement التي تقول: يمكن في التجارب الكمومية تحضير جسيمين اثنين بطريقة يمكن للقياسات المنفذة فيها على أحدهما أن تؤثر مباشرة على خصائص قرينه.

 

وعندما يؤخذ هذان الجسيمان المتشابكان معًا، يقال إنهما في "حالة نقية " Pure State (وهذا يعني أنك تعرف كل ما يمكن معرفته عن النظام). ولكن إن درست تطور أي جسيم مفرد من هذه الأزواج المتشابكة بمعزل عن الآخر، فيقال بأنك تتعامل مع جسيم في حالة مختلطة Mixed State، إذ لا يمكنك معرفة ما يجب معرفته عن هذا الجسيم بمفرده دون أن تضم معلومات عن قرينه أيضًا. وتكمن الفكرة في "مبدأ النقاوة" أن كل نظام في حالة مختلطة (الذي لا يمكنك أن تعرف عن خصائصه بشكل كامل) هو جزء من نظام أكبر ذي "حالة نقية". 

وباستخدام مبدأ النقاوة والبديهيات الخمس الأخرى، اشتق الفريق القواعد الأساسية الأخرى -والغريبة - التي تحكم الأنظمة الكمومية، وهذا يشمل التراكب Superposition، وهي الخاصية التي تقول بأنه قبل أن يتم رصد جسيم كميّ، يمكنه أن يوجد في حالة تراكب من حالات متعددة، فيكون من المحتمل وجوده في مكانين مختلفين في نفس الوقت مثلًا.

 

وقد اشتقوا أيضًا القاعدة التي وضعها الفيزيائي الألماني ماكس بورن Max Born لحساب احتمال الحصول على نتيجة معينة عند القيام بقياس نظام كمي. وعلى النقيض، تقول الصيغة القياسية لنظرية الكم بأن قاعدة بورن يجب أن تكون مفترضة لتكون صحيحة.

يستقصي تشيريبيلا الآن عن الارتباط العميق بين "النقاوة" وديناميكا الكم، وخصائص أساسية أخرى لميكانيكا الكم مستعينًا بمنحة FOXi البالغة 50 ألف دولار. ومن المحتمل أن مبدأ النقاوة سيساعد في فهم الطبيعة الأساسية للزمن أيضًا، فإحدى الألغاز الكبرى التي تحير الفيزيائيين هي لماذا نرى اتجاه التطور الزمني Arrow of Time يتقدم باتجاه واحد فقط من الماضي إلى المستقبل، في حين أن المعادلات التي تحكم سلوك الجسيمات دون الذرية معكوسة؟ (بالمثل من المحتمل أن تكون إلى الأمام أو إلى الخلف في الزمن) فلماذا اتجاه الزمن محتم هكذا؟

يتجلى التفسير القياسي بالنظر إلى علم الحرارة وانتقال الطاقة، أي الديناميكا الحرارية، فمعادلات الديناميكا الحرارية غير قابلة للعكس، ويربط فيزيائيون بالتحديد بين اتجاه التطور الزمني Time Arrow والاتجاه الذي تزداد فيه أنتروبيا نظام أو اضطرابه. وفي حين تقدم الأنتروبيا تفسيرًا محتملًا عن منشأ اتجاه التطور الزمني، فإن هذا التباين بين العكوسية على المستوى الميكروسكوبي، واللاعكوسية على المستوى العياني، يقض مضجع مؤسسي هذا المجال.

 

يقول تشيريبيلا: "تعارضت الديناميكا الحرارية مع النموذج المسيطر في الفيزياء الأساسية، بأن المعادلات الديناميكية يجب أن تكون عكوسة على المستوى الأساسي".

لكن تشيريبيلا وزملاؤه يتساءلون: ماذا لو كان نظام ما يبدو غير قابل للعكس لأننا ندرس جزءًا من النظام (يقابل هذا حالة مختلطة)، وماذا لو أخذنا كامل النظام (المقابل لحالة نقية) بعين الاعتبار، فهل يكون تطوره عكوسًا عندئذ؟ يقول تشيريبيلا: "يوفر مبدأ النقاوة للفيزياء الأساسية إمكانية التوفيق بين التطور غير القابل للعكس -الذي نراه حقيقة- والهدف الرامي إلى كتابة المعادلات الأساسية بحيث تكون عكوسة بشكل تام".


وقد يكون هذا أيضًا مفتاحًا أساسيًا لفهم أصل معادلة شرودينغر، التي تصف كل الديناميكيات العكوسة (الرجعية) في ميكانيكا الكم. وبالفعل ينبثق عن بديهياتهم بشكل طبيعي أن التطور العكوس يمكن له أن يمتلك صيغة رياضية واحدة فقط، يقول تشيريبيلا: "وهذه الصيغة الرياضية هي صيغة معادلة شرودينغر". إذا، هذه أبسط إجابة عن السبب الذي يجعل هذا المعادلة تبدو كما هي عليه. لكن تشيريبيلا ينظر بعين أعمق، فسؤاله التالي: هل هناك علاقة بين ديناميكيات الأنظمة الكمومية كما هي معطاة بمعادلة شرودينغر، وخصائص الأنظمة الكمية التي تدعم الحوسبة الكمومية نظريًا؟ 

ولاستقصاء ذلك فكر الفريق بواحدة من خوارزميات الاستدلال Landmark Algorithms التي وضعها أصلًا عالم الحاسوب لوف جروفر Lov Grover في التسعينيات، والتي ساعدت في التعرف على مقدرة الحوسبة الكمومية. كان جروفر مهتمًا بمسألة البحث في صناديق عددها N، لإيجاد صندوق معين يحوي جسمًا يبحث عنه، سيتم تنفيذ البحث بالطريقة التقليدية بفواصل زمنية متساوية ووفق ترتيب العمليات التي عددها N (حيث تعادل كل عملية فتح صندوق واحد)، لإيجاد ذلك الصندوق المحدد، وهذا يعني أنه سيتوجب عليك البحث داخل كل صندوق، وكل منها في وقت معين بمفرده.
 
 
ولكن خوارزمية البحث الكمومية التي وضعها جوفر يمكنها أن تنفذ ذلك مستخدمة عمليات عددها تقريبًا \(\sqrt N\) [أي ما تنفذه التقليدية بمئة عملية، تنفذه الكمومية بعشر عمليات!]، وذلك لأن الحواسيب الكمومية يمكنها أن تبحث بفعالية في صناديق متعددة معًا في نفس اللحظة.

الحاسوب "النقي" و"العكوس"

هل يمكن لزيادة السرعة هذه أن تكون مشتقة من مبادئ أساسية، تقوم فقط على فكرة أن الحاسوب الكمومي "حاسوب نقي pure وعكوس reversible" كما يعبر عنها تشيريبيلا؟ هناك مؤشرات تدل على أن هذا يجب أن يكون ممكنًا.

 

إذا أُريدَ للحوسبة الكلاسيكية أن تكون قابلة للعكس، فيجب أن تبقي على اتصال مع كل المعلومات من الخطوة السابقة في عملية الحوسبة، ويجب أن تستمر بذلك طول الوقت وإلى النهاية. ولكن الخوارزمية الكمية ليس عليها أن تسلك نفس الطريق الصعب لأن الحاسوب يمكنه أن يكون "جاهلًا" بخاصية ما لا تهمك أنت، ويمكن أن يركز فقط على المعلومات التي ستقودك إلى إيجاد النتيجة فقط؛ وحسب تعبير تشيريبيلا: "الجهل يتحول إلى سرعة!".

يقول كاسلاف بروكنير Caslav Brukner وهو متخصص بفيزياء الكم في جامعة فينا-النمسا، أنه بمساعدة "مبدأ النقاوة" فإن من الممكن الآن طرح أسئلة عميقة لا يمكن صياغتها رياضيًا بوضوح دونه. لنقل أنك قست نظامًا كميًا باستخدام جهاز قياس وحصلت على نتيجة واحدة، ومن ثم يقوم "راصد فائق" بعملية قياس أخرى تشمل كلًّا من النظام الذي قسته أنت وجهاز القياس ذاته، فإن كانت ميكانيكا الكم تطبق على كل الأجسام، فلك أن تتوقع بأن تكون النتيجتان متوافقتين، ويقدم مبدأ النقاوة تفسيرًا واضحًا بأن: عملية القياس الأولى مناظرة للعمل مع حالة مختلطة، وأن عملية القياس الأكبر مناظرة للعمل مع الحالة النقية. ويقول بروكنير: "إن مسلمة النقاوة تعبير عميق يؤكد بأن هذين التوصيفين متوافقان مع بعضهما البعض".

وقد أذهل أيضًا هذا العمل لوسيان هاردي Lucien Hardy من معهد بيريميتر Perimeter في واترلو، أونتاريو- كندا، وهاردي ذاته عمل على مجموعة من البديهيات ليتم اشتقاق نظرية الكم منها، ويقول: "أوراقهم البحثية فنيًا أكثر رفعة ودقة من الأوراق التي سبقتها، وهناك الكثير من الأفكار النظرية الرائعة فيها".

أخيرًا، يريد تشيربيلا - معتمدًا على منحة FOXi - أن يرى إن كان بمقدوره إيجاد ارتباط عميق بين "النقاوة" وديناميكية الأنظمة الكمية، ونظرية المعلومات الكمومية،؛ وبالنسبة له فإن ما يدفعه للعمل بشكل أساسي هو جمالية "مبدأ النقاوة" المتحققة في العالم، والذي يشبه كثيرًا إحياء قطعة موسيقية مكتوبة بعزفها على البيانو. يقول تشيريبيلا: "إن كنت حقًا تحب الجمال في النظرية الرياضية، فالأجمل من ذلك بكثير أن ترى بأن هذا شيء يحدث فعليًا في العالم الفيزيائي".

 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • السببية (causality): تُشير إلى العلاقة الكائنة بين حدث (السبب) وحدث آخر (النتيجة أو التأثير)، حيث يكون الحدث الأول مسؤولاً بالضرورة عن ظهور الحدث الثاني.

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات