اكتشاف مجرة خالية من المادة المظلمة

صورة ملونة مركبة للمجرة (NGC1052-DF2)، رُكِّبَت الصورة بواسطة عمليات الرصد التي أجراها مقياس الطيف جيميني للأجرام المتعددة (Gemini Multi Object Spectrograph)، اختصاراً (GMOS)، الموجود على متن مرصد جيميني الجنوبي على جبل موناكيا في هاواي. وقد رُصِدت المجرة فائقة الانتشار (ultra-diffuse galaxy) من خلال التصوير العميق باستخدام المرشحات g و I. حقوق الصورة: Gemini Observatory/NSF/AURA/Keck/Jen Miller.

تترافق المجرات والمادة المظلمة معاً، فعادة لا يوجد أحدهما دون الآخر، لذا فقد صُدِمَ الباحثون عندما اكتشفوا المجرة، المعروفة بـ (NGC1052-DF2)، ووجدوها خالية تقريباً من المادة المظلمة.

وقد صرح المؤلف الرئيسي للورقة البحثية من جامعة ييل (Yale University) بيتر فان دوكام Pieter van Dokkum قائلاً: "لم يكن من المتوقع العثور على مجرة بدون مادة مظلمة، لأن تلك المادة غير المرئية والغامضة هي الجانب المهيمن على أي مجرة"، وأضاف: " اعتقدنا لعقود أن المجرات تبدأ حياتها كفقاعات من المادة المظلمة، وعقب ذلك تحدث كل الأشياء الأخرى، إذ يسقط الغاز في هالات المادة المظلمة، ومن ثمَّ يتحول الغاز لنجوم ويتراكم ببطء، لينتهي الأمر في النهاية بمجرات مثل مجرة درب التبانة. لكن (NGC1052-DF2) تتحدى الأفكار القياسية حول اعتقادنا عن كيفية تشكُّل المجرات".

نُشِر البحث في عدد 29 آذار/مارس من مجلة (Nature) جامعاً البيانات من كلا المرصدين جيميني الجنوبي ودبليو. إم. كيك (W. M. Keck) الموجودين على جبل موناكيا في هاواي، إلى جانب تلسكوب هابل والتلسكوبات الأخرى حول العالم.

ونظراً لحجمها الهائل ومظهرها الخافت، يصنف الفلكيون المجرة (NGC1052-DF2) كمجرة فائقة الانتشار (ultra-diffuse galaxy) وهو نوع جديد نسبياً من المجرات كان قد اكتُشِف للمرة الأولى عام 2015، وللمفاجأة تعتبر المجرات فائقة الانتشار شائعة، ولكن لا تفتقر أي من المجرات المكتشفة حتى الآن إلى المادة المظلمة على هذا النحو.

وفي هذا السياق، يقول شاني دانييلي Shany Danieli طالب التخرج من جامعة ييل وأحد أعضاء الفريق: "إن (NGC1052-DF2) مجرة شاذة حتى بين هذا الصنف من المجرات غير العادية الأخرى".

وللتمعن أكثر في هذه المجرة الفريدة، استعان الفريق بمقياس الطيف جيميني للأجرام المتعددة (Gemini Multi Object Spectrograph)، اختصاراً (GMOS)، لالتقاط صور تفصيلية لـ (NGC1052-DF2) لتقييم هيكلها والتأكد من عدم وجود إشارات الآن لتفاعل هذه المجرة مع مجرة أخرى.

وتعليقاً على هذا الأمر، يقول دانييلي: "بدون صور جيميني التي تشرح بدقة تركيب المجرة، كنا سنفتقر لاتساق بقية البيانات"، وأضاف: "سيساعدنا تأكيد جيميني أيضاً على عدم (NGC1052-DF2) تفاعل حالياً مع أي مجرة أخرى، على الإجابة عن الأسئلة حول الظروف المحيطة بتشكُّلها".

اكتشف فان دوكام وفريقه (NGC1052-DF2) لأول مرة باستخدام مصفوفة اليعسوب المقربة (Dragonfly Telephoto Array)، وهو تلسكوب معدٌّ خصيصاً في نيو مكسيكو ومصُمّم لاكتشاف تلك المجرات الشبحية، لقد أبدت (NGC1052-DF2) تناقضاً صارخاً عندما أُجرِيت المقارنات بين الصور الملتقطة بواسطة مصفوفة اليعسوب المقربة والماسح الرقمي للسماء سلووان (Sloan Digital Sky Survey)، اختصاراً (SDSS)، وأظهرت صور اليعسوب جرم خافت "يشبه الانتفاخ"، بينما كشفت بيانات (SDSS) عن مجموعة من المصادر النقطية الساطعة.

إلى جانب عمليات رصد جيميني ولتقييم أوسع لهذا التناقض، حلل الفريق الضوء القادم من عدة مصادر ساطعة تقع ضمن (NGC1052-DF2) باستخدام مصور الأجرام المتعددة النائية الطيفي في كيك (Deep Imaging Multi-Object Spectrograph) اختصاراً (DEIMOS)، ومطياف التصوير منخفض الدقة (Low-Resolution Imaging Spectrometer) اختصاراً (LRIS)، لتحديد 10 عناقيد كروية والتي هي عبارة عن مجموعات هائلة معقدة من النجوم التي تدور حول المركز المجري.

وقد كشفت البيانات الطيفية القادمة من تلسكوبات كيك أن العناقيد الكروية كانت تتحرك أبطأ بكثير من المتوقع، فكلما كانت حركة الأجرام أبطأ في نظام ما، كلما قلت الكتلة في ذلك النظام. وتُظهر حسابات الفريق أنه يمكن أن تُعزَى تلك الكتلة الكلية للمجرة إلى كتلة النجوم، ما يعني عدم وجود مادة مظلمة تقريباً في (NGC1052-DF2).

على الجانب الأيسر: المجرة فائقة الانتشار غنية بالعناقيد الكروية، وهي تحمل المفتاح لفهم كتلة الجرم الغامض وأصله، وعلى الجانب الأيمن: نظرة عن كثب لأحد العناقيد الكروية بداخل المجرة الساطعة على غير العادة، والعنقود الأكثر تألقاً يُصدِر تقريباُ قدراً من الضوء كأكثر العناقيد سطوعاً في مجرة درب التبانة، ويُظهِر الطيف الذي حصلنا عليه من مرصد كيك خطوط الامتصاص المستخدمة لتحديد سرعة هذا الجرم، وقد رُصدت 10 عناقيد قدمت البيانات المطلوبة لتحديد كتلة المجرة ولتكشف عن افتقارها إلى المادة المظلمة.  حقوق الصورة:Gemini Observatory / NSF / AURA / W.M. Keck Observatory / Jen Miller / Joy Pollard
على الجانب الأيسر: المجرة فائقة الانتشار غنية بالعناقيد الكروية، وهي تحمل المفتاح لفهم كتلة الجرم الغامض وأصله، وعلى الجانب الأيمن: نظرة عن كثب لأحد العناقيد الكروية بداخل المجرة الساطعة على غير العادة، والعنقود الأكثر تألقاً يُصدِر تقريباُ قدراً من الضوء كأكثر العناقيد سطوعاً في مجرة درب التبانة، ويُظهِر الطيف الذي حصلنا عليه من مرصد كيك خطوط الامتصاص المستخدمة لتحديد سرعة هذا الجرم، وقد رُصدت 10 عناقيد قدمت البيانات المطلوبة لتحديد كتلة المجرة ولتكشف عن افتقارها إلى المادة المظلمة. حقوق الصورة:Gemini Observatory / NSF / AURA / W.M. Keck Observatory / Jen Miller / Joy Pollard


وفي هذا الصدد يشرح فان دوكام: "إن كانت هناك أية مادة مظلمة، فستكون كميتها قليلة للغاية"، ويضيف: "يمكن للنجوم في المجرة أن تُمثِّل الكتلة كافة، ويبدو أن لا مكان لوجود المادة المظلمة".

ومن جهة أخرى، قال فان دوكام: "إن كيك عبارة عن مجموعة صغيرة من التلسكوبات التي تحاول إجراء عمليات الرصد تلك، إذ أنك تحتاج تلسكوباً كبيراً لقياس تلك السرعات الدقيقة"، وأضاف: "إنّ لكيك أحد أفضل المقاييس الطيفية في العالم لقياس سرعات الأجسام الخافتة، وفي متناول أيدينا الفرصة للفحص والتأكد من حصولنا على النتائج ذاتها في حالة الشك، وقد أعطانا ذلك الثقة بالقيام بالأمورعلى النحو الصحيح".

تُظهِر نتائج الفريق أن المادة المظلمة قابلة للانفصال عن المجرات، وفي هذا الشأن يقول فان دوكام: "أظهر ذلك الاكتشاف حقيقة أن المادة المظلمة لها كيانها المنفصل بمعزل عن المكونات الأخرى للمجرات".

لقد أربكت البنية الاستثنائية لـ (NGC1052-DF2) وعناقيدها الكروية الفلكيين الذين يتطلعون لتحديد الظروف التي تشكَّلت في ظلها المجرة.

ويضيف فان دوكام: "إن الأمر يشبه تناولك مجرة وكل ما لديك هو الهالة النجمية والعناقيد الكروية، وبطريقة ما نسيت أن تصنع بقية الأشياء الأخرى، ولا توجد نظرية تنبأت من قبل بتلك الأنواع من المجرات. وتمثل المجرة غموضاً كلياً، فكل ما يحيط بها غامض كلياً، وتناول تشكُّل واحدة من تلك الأشياء هو أمر مجهول كلياً".

على أية حال، لدى الباحثين بعض الأفكار، إذ تقبع (NGC1052-DF2) على بُعد 65 مليون سنة ضوئية تقريباً في مجموعة من المجرات التي تهيمن عليها المجرة البيضاوية الهائلة (NGC 1052) إضافة إلى أن عملية تشكُّل المجرة هي عملية مضطربة وعنيفة، ويقترح فان دوكام احتمال لعب نمو المجرة الضخمة الوليدة منذ مليارات السنين دوراً في نقص المادة المظلمة بالمجرة (NGC1052-DF2).

وتقترح فكرة أخرى أن يكون حدث اجتاح المجرة الغريبة، كولادة عدد لا يُعَدّ ولا يُحْصْى من النجوم الضخمة، أو قد أُبْعِد كل الغاز والمادة المظلمة موقفاً عملية تشكُّل النجوم.

ويضيف الباحثون أن كل تلك الاحتمالات تبقى تخمينية، فهي لا تشرح الخصائص الكلية للمجرة المرصودة.

هذا ويواصل الفريق عملية البحث عن مجرات أخرى تعاني نقصاً في المادة المظلمة، ويحللون صوراً من هابل لـ 23 مجرة أخرى منتشرة، ويبدو أن ثلاثاً منها تشترك في أوجه التشابه مع (NGC1052-DF2)، التي يعتزم فان دوكام متابعتها في الأشهر المقبلة باستخدام مرصد كيك.

ويختم فان دوكام تصريحه قائلاً: "كل المجرات التي عرفناها سابقاً احتوت مادة مظلمة، وكلها تندرج تحت فئات مألوفة مثل المجرات الحلزونية أو البيضاوية، ولكن، ما الذي ستحصل عليه إذا لم توجد مادة مظلمة على الإطلاق؟ ربما هذا هو ما ستحصل عليه".

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • المجرة (galaxy): عبارة عن أحد مكونات كوننا. تتكون المجرة من الغاز وعدد كبير (في العادة، أكثر من مليون) من النجوم التي ترتبط مع بعضها البعض، بوساطة قوة الجاذبية. و عندما تبدأ الكلمة بحرف كبير، تُشير Galaxy إلى مجرتنا درب التبانة. المصدر: ناسا

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات