أخيرًا، يفهم العلماء كيفية عمل الليثيوم في علاج الاضطراب ثنائي القطب

لا يمكنك علاج شيء ما لم تفهمه.

بعد خمسينَ سنة من بدء استخدام الليثيوم لعلاجِ المرضى في الولاياتِ المتحدة، يظن العلماء أنهم قد اكتشفوا أخيرًا الآلية الجزيئية وراء فعاليته في علاجِ أعراضِ الاضطرابِ ثنائي القطب (والمعروف أيضًا بالاضطراب ذي الاتجاهين) bipolar disease [1].

يُعَدُّ هذا اكتشافًا كبيرًا؛ أن واحدًا من أكبر المشاكلِ التي تواجهنا في السعي إلى الحصول على علاج أأمن وأشد فعاليةً للاضطراب ثنائي القطب هو عدمُ فهم العلاجات الموجودةِ حاليًا.

يقول رئيسُ الباحثينَ إيفان سنايدر (Evan Snyder) من معهدِ سانفورد بيرنهام بيربيز للاكتشافاتِ الطبية Sanford Burnham Perbys medical discovery institute: "إن الطريقة الوحيدة لجعلِ العلاج أفضل هي فهمُ كيفيةِ عملِهِ في البداية".

يصيب هذا المرض نحو 5.7 ملايين بالغ في الولاياتِ المتحدةِ فقط، ويُعد العامل السادس من حيث التسبب في الإعاقة حول العالم. ويَظهر هذا المرض المسبب للعجز على شكل تغيرات حادة في المزاج تتراوح بين الارتفاع في المزاج (الهوس) وبين انخفاضات كبيرة في المزاج (اكتئاب)، ما قد يمنع المرضى من ممارسة حياتهم الطبيعية.

وما يجعل الأمور أسوأ أن العلاجات المتوفرة تُعد بدائية نسبيًا ولا يمكنُ الاعتمادُ عليها.

الليثيوم فعالٌ تقريبًا في ثلث المرضى، وحتى لو كان فاعلًا، فهناك مخاطر أعراضه الجانبية التي تتضمن الغثيان، وارتعاش العضلات، والخدر العاطفي، وزيادة الوزن، وعيوب خلقية في المواليد.

أما بالنسبة لثلثي المرضى الذين لم يستجيبوا للعلاج بعد محاولاتٍ عديدةٍ طويلة معتمدة على التجرِبةِ والخطأ، فإنهم يبحثون عن بدائل في العلاج مثل مضاداتِ الذهان، ومضاداتِ الاكتئاب، وحتى العلاج بالصدمات الكهربائية.

الأمر الجيد هنا أنه في حال أُكِّدت صحة البحث وعرفنا الهدف الجزيئي لعقارِ الليثيوم، سيتكمن الباحثون من بدءِ البحث عن علاجات أخفّ ضررًا وأكثر كفاءة. كما أن هذا يفتحُ البابَ لإمكاناتِ إيجاد طرق جديدة لإيجاد فحوص للحالة وتوقع الشخص الذي سيستجيب للعلاج.

كما يوضحُ سنايدر: "يستعمل الليثيوم لأجيال من أجل علاج الاضطراب ثنائي القطب، لكن حتى الآن، فإن عدم معرفتنا لسبب فعالية العلاج أو فشله في مريض معين أدى إلى استخدام جرعات غير ضرورية وإلى التأخُرِ في إيجادِ العلاجِ الفعال. كما أن أعراضه الجانبية لا يتحملُها الكثيرُ من المرضى مما أدى إلى الحد من استخدامه والحاجة الماسة إلى علاج أفضل وذي أعراضٍ جانبية أقل. المهم أن اكتشافاتنا تفتحُ الطريقَ لإيجادِ أدويةٍ آمنة وفعالة، مثل أنها ساعدت في إعطائنا فكرة عن الآليات التي تسببُ مشاكل نفسية مثل هذه".

 

 

ولمعرفة كيفية تأثيرِ الليثيوم في الدماغ، وضع الباحثون مخططًا توضيحيًّا لسبيل الاستجابة الجزيئية لليثيوم عن طريقِ خلايا سُميت بخلايا الإنسان الجذعية المحفزة المتعددة الإمكانات Human induced pluripotent stem cells واختصارًا (hiPS) وهي خلايا عادية مأخوذةٌ من مرضى مصابين بالاضطراب ثنائي القطب الذين استجابوا أو لم يستجيبوا للعلاجِ بعقارِ الليثيوم من قبل، ثُم تبرمجُ هذه الخلايا لتتصرف مثل الخلايا الجذعية بالضبط.

اكتشفَ الباحثون أن نوعًا من البروتينات يُسمى (CRMP2) يُوجد بصورةٍ خاملة عند مرضى الاضطرابِ ثنائي القطب وهو نوع من البروتينات له علاقةٌ بالتواصل بين الخلايا العصبية.

وعند إضافة الليثيوم الى خلايا (hiPS) المأخوذة من أشخاصٍ استجابوا سابقًا للعلاج بالليثيوم، لوحظ أن فعالية بروتين (CRMP2) قد رجعت لطبيعتها.

تؤدي هذه النتيجة إلى استنتاج أن آلية المرض ليست جينيةً بالضرورة، أي بعكس ما افترض الباحثون سابقًا، لكن بدلًا من هذا فإن لها علاقةً بكيفية تنظيم عمل بروتين (CRMP2) في الخلايا.

هذه بشرى سارة، لأنها توضحُ أن بالإمكان علاج المرض باستخدامِ الأدويةِ الصحيحة.


يقول سنايدر: "لقد أدركنا أن دراسة الاستجابة لعنصرِ الليثيوم يمكن أن تستخدم مثل فتاحة العلب على المستوى الجزيئي، والذي يمكن أن يستخدم لفهم آلية المرض المعقد، والتي لوحظ أنها ليست بسببِ خللٍ جيني بل بسببِ عملية تنظيمية تالية لترجمة الجين (وهي إضافة الفوسفور) لأحد منتجات الجين، وهو البروتين CRMP2 في هذه الحالة، وهو بروتينٌ داخليٌّ ينظم اتصالات الشبكة العصبية. إن مبدأ "فاتح العلب الجزيئي هذا" باستخدام عقارٍ فعالٍ لا تُعرف كيفية فعاليته بالضبط، سمح لنا بفحص كيفية عمل هذا المرض وفهمها".

أكد أعضاء الفريق نتائجهم عن طريق أخذ عينات دماغٍ من جثث أشخاصٍ كانوا مصابين بالاضطرابِ ثنائي القطب، حيث لوحظ أن خلاياهم العصبية تحتوي على بروتينِ CRMP2 ذي فعالية أقل من الطبيعي. كما أثبتوا أن الآلية ذاتها كانت موجودة في الحيواناتِ المخبرية والخلايا العصبية النامية تحت الظروف المخبرية. وأيضًا، حَدَّدَ الفريق التأثيرات الأولية والنهائية للهدف، وكوَّنوا خريطة لما يسمى (طريق استجابة الليثيوم).

حتى الآن، هذه هي الدراسة الوحيدة، والطريق الجزيئي يجب التأكد من صحته عن طريق فرقٍ مستقلة قبل أن نعيد صياغة الكتب الدراسية. كما أنه من المحتمل وجود أكثر من سببٍ لهذا المرض؛ ومن ثم، ليس من المرجح أن تكون هذه الآلية قادرةً على الإجابة عن جميع حالاتِ الإصابة بالاضطراب ثنائي القطب.

لكن أيَّ علمٍ من شأنه أن يساعدنا في الاهتمام بالملايين حولَ العالم من الذين يعيشون بمشاكل عقلية يُعَدُّ خطوةً كبيرة نحو الاتجاه الصحيح.

الخطوة القادمة للفريق هي البحث عن أدويةٍ جديدة تستهدف الطريق الجزيئي نفسه، ولكن مع أعراضٍ جانبيةٍ أقل، أو أكثر فعاليةً من الليثيوم.

يشرح سنايدر في الفيديو أعلاه أنه إذا كان بالإمكانِ ترشيح دواء معين جرى استخدامه مسبقًا، يصير بالإمكان إدخاله في تجارِبَ سريريةٍ في خلال سنة أو سنتين.

نشر البحث في دورية Proceedings of the National Academy of Sciences.

 

الملاحظات


[1] الاضطرابِ ثنائي القطب bipolar disease: هو مرض نفسي يتميز بأعراض اكتئابية وأخرى هوسية متناوبة فيما بينها.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات