توضيح الصورة الأولى: يظهر في هذه الصورة أحد أنواع الخفافيش المعروف باسم خُفّاش بيبيستريل أو خُفّاش الوادي (canyon or pipistrelle bat)، أثناء تسجيل صوته باستخدام ميكروفونٍ حديثٍ يعمل بالموجات فوق الصوتية.
المصدر: Wikicommons photo.
توصّل علماء الفيزياء في جامعة كاليفورنيا في بيركلي إلى إنجازٍ جديد تمثّل في استخدام الغرافين (graphene) في صناعة مُكبّرات صوتٍ وميكروفوناتٍ خفيفةِ الوزن تعمل بالموجات فوق الصوتية. من خلال هذه الأدوات الجديدة، سيتمكن البشر من مُحاكاة قُدرة الخفافيش والدلافين على استخدام الصوت لأغراض التواصل، وتقديرِ المسافات، وتحديدِ سُرعة الأجسام من حولها.
وقد جاءت أجهزة الموجات فوق الصوتية اللاسلكية لتقوم بما لا تستطيع أجهزة البث الإذاعي العادية القيام به، إذ تعتمد هذه الأجهزة الجديدة على استخدام الموجات الكهرومغناطيسية في المناطق التي يُعدّ استخدام الراديو فيها غير عمليّ، كما هو الحال تحت الماء. هذا وتتميز الأجهزة فوق الصوتية الجديدة بأنها أدقُّ بكثير من أجهزة الموجات فوق الصوتية أو السونار الحالية. كما يُمكن استخدام أجهزة الموجات فوق الصوتية في التواصل عبر الأجسام التي لا تستطيع الموجات الكهرومغناطيسية اختراقها، كالفولاذ.
وفي هذا الصدد يقول أليكس زيتل Alex Zettl، عالم الفيزياء في جامعة كاليفورنيا في بيركلي: "من المعروف أن الثدييات البحريةَ والخفافيش تستخدم الأصوات ذات الترددات العالية في التواصل وتحديد المواقع عن طريق الصدى، لكنّ البشر لم يتمكنوا بعد من استغلال هذه الطريقة بشكل تام، وذلك في رأيي راجعٌ لعدم توفر التكنولوجيا اللازمة لذلك". وأضاف: "حتى الآن لا نمتلك أجهزةً جيدةً لإرسال أو استقبال الموجات فوق الصوتية عريضة النطاق. بالتالي، تُعتبر هذه الأجهزة الحديثة فُرصةً كبيرةً في عالم التكنولوجيا".
يُستخدَم في كلٍ من مُكبرات الصوت والميكروفونات أغشيةٌ تُصنّع في العادة من الورق أو البلاستيك، وتهتز عند توليدِ أو رصدِ الأصوات. أما الأجهزة الحديثة فتَستخدم أغشيةً مصنوعة من رقائق الغرافين ذات سُمكٍ لا يتعدّى سُمكَ ذَرةٍ واحدة. كما تتمتع أغشية الغرافين بخليطٍ من الميزات حيث تجمع بين الصلابة، والقوة، وخفة الوزن، وذلك لكي تتمكن من الاستجابة للترددات التي تتراوح ما بين الموجات تحت الصوتية (أقل من 20 هرتز)، والموجات فوق الصوتية (أكثر من 20 كيلوهرتز). باستطاعة الإنسان سماع الموجات التي يتراوح ترددها بين 20 و 20,000 هرتز، في حين تسمع الخفافيش في نطاق الكيلوهرتز فقط، أي من 9 إلى 200 كيلوهرتز. أما مُكبّرات الصوت والميكروفونات العاملة بالغرافين فيُمكنها التقاط تردداتٍ تتراوح بين أقلّ من 20 هرتز بكثير إلى أكثر من 500 كيلوهرتز.
يتكوّن الغرافين من ذرات كربون مُتراصّة ضمن ترتيبٍ سُداسيٍ على هيئة نمط سلك الدجاج (chicken-wire)، وينتج عن هذا لوحٌ قويٌ خفيفُ الوزن ذو خواصّ إلكترونية فريدة تَحمَّس لها علماء الفيزياء حول العالم على مدى العشرين سنة أو أكثر الماضية.
ويقول زيتل، وهو أحد كبار العلماء في مختبر لورنس بيركلي الوطني Lawrence Berkeley National Laboratory، وعُضو معهد كافلي للطاقة والعلوم النانوية Kavli Energy NanoSciences الذي يُدار بالتعاون بين جامعة كاليفورنيا بيركلي ومختبر بيركلي: "هنالك الكثير من الأقاويل التي تدور حول استخدام الغرافين في مجال الإلكترونيات وأجهزة مقياس النانو الصغيرة، ولكنّها جميعاً لا تزال بعيدة كل البُعد عن التطبيق العملي". ويُكمل حديثه قائلاً: "يُعدّ الميكروفون ومُكبر الصوت أكثر الأجهزة قابليةً للتطبيق على المستوى التجاري. ولأننا توصّلنا إلى كيفية صُنع الغرافين وتركيبه، فلن يكون صعباً علينا تكبير حجمه وتركيبه على الأجهزة".
من جهة أخرى يصِفُ تشين جو Qin Zhou، زميل زيتل في مرحلة ما بعد الدكتوراة في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، وزملاؤه أجهزة الميكروفون والراديو التي تعمل بالموجات فوق الصوتية والمصنوعة من الغرافين، وذلك في بحثٍ نُشِر على شبكة الإنترنت خلال هذا الأسبوع في مجلة وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم Proceedings of the National Academy of Sciences.
أجهزة الراديو ومُعيّنات المدى
قبل عامين، صنع جو مجموعة من مُكبرات الصوت، حيث استخدم لوحاً من الغرافين لصناعة غشائها. ومنذ ذلك الحين وهو يعكِف على تطوير الدوائر الإلكترونيّة لصناعة ميكروفونٍ له غشاء غرافين مُماثل.
أحد المميزات العظيمة للغرافين هو أن اللوح الذي لا يتجاوز سُمكُه ذرّةً واحدة له وزنٌ خفيفٌ جداً، بحيث يستجيب للنّبضات الإلكترونية بشكل فوري على عكس ميكروفونات ومُكبرات الصوت الكهرضغطية المًستخدمة حالياً. وهذا يجعل من الغرافين خياراً مُناسباً عند استخدام أجهزة الإرسال والاستقبال فوق الصوتية لإرسال كمّياتٍ كبيرةٍ من المعلومات عبر العديد من القنوات التردّدية المختلفة في الوقت نفسه، أو لقياس المسافات كما هو الحال في تطبيقات السونار.
ويقول جو: "لأن الغِشاء الذي صنعناه خفيفٌ للغاية، فإنه قادر على الاستجابة لنطاقٍ واسعٍ جداً من الترددات، وقادرٌ كذلك على توليد نبضاتٍ حادّة وقياس المسافات بدقة تفوق الطرق التقليدية بكثير".
كما تُعدّ أغشية الغرافين أكثر فعالية، حيث تُحوّل ما يزيد عن 99% من الطاقة التي تُشغّل الجهاز إلى صوت، في حين لا تُحوّل مُكبرات الصوت وسمّاعات الرأس التقليدية سوى 8% فقط من طاقتها إلى صوت. هذا ويتوقع زيتل أن أجهزة الاتصال في المستقبل، كالهواتف المحمولة، لن تستخدم الموجات الكهرومغناطيسية (الراديو) فحسب، بل أيضاً الأصوات السمعية أو فوق السمعية التي بوسعها أن تكون اتجاهية وطويلة المدى إلى حد كبير.
ويقول أيضاً: "الغرافين مادة سحريّة، فقد أثبتت نجاحها في جميع الجوانب المتعلقة بأجهزة الاتصال".
وَطوَطة الخفافيش
عندما أخبر جو زوجته جينغ لين جنغ Jinglin Zheng بأمر الميكروفون الذي يعمل بالموجات فوق الصوتية، اقترحت عليه محاولة التقاط صوت الخفافيش وهي تُوَطوِط ضمن تردداتٍ تفوق بكثير ما يمكن للبشر سماعه. وبالفعل، قاموا بنقل الميكروفون إلى حديقة في ليفرمور ثم قاموا بتشغيله. وعندما قاموا بإبطاء سرعة التسجيل إلى عُشر السرعة الأصلية لتحويل الترددات العالية إلى مدىً صوتي يُمكن للبشر سماعه، أذهلتهما الجودة والدّقة التي أظهرتها أصوات الخفافيش.
وتعليقاً على هذا يقول جو: "هذا الميكروفون خفيفُ الوزن بما يكفي لتثبيته على أحد الخفافيش وتسجيلِ ما يُمكن للخُفاش سماعه".
ويقول خبير الخفافيش مايكل يارتسيف Michael Yartsev، والذي يعمل أيضاً كأستاذٍ مُساعدٍ في الهندسة الحيوية تم تعيينه مؤخراً في جامعة كاليفورنيا، والعُضو في معهد علم الأعصاب هيلين ويلز Helen Wills Neuroscience Institute: "ستكون تلك الميكروفونات الحديثة قيّمة للغاية فيما يتعلق بدراسة الإشارات السمعيّة عند ترددات عالية، كتلك المُستخدمة من قِبل الخفافيش. ويُتيح استخدام الغرافين لمؤلفي الدراسة الحصول على استجابات ترددية مُستوية للغاية في إطار واسعٍ من الترددات، بما في ذلك الموجات فوق الصوتية. وسوف يسمح هذا الأمر بتنفيذ دراسةٍ مُفصّلة حول النّبضات السمعية المُستخدمة من قِبل الخفافيش".
هذا وقد أشار زيتل إلى أن عُشاق الموسيقى سيقُدّرون أهمية مُكبرات الصوت وسمّاعات الرأس التي تستخدم الغرافين لما لها من قدرة كبيرة على الاستجابة المستوية عبر كامل النطاق الترددي المسموع.
كما يقول زيتل: "قبل عدة سنوات، كان من شبه المستحيل صناعة هذا الجهاز لصعوبة صناعةِ رقائق غرافين قائمة بحد ذاتها". ويُضيف: "لكن على مدى العقد الماضي، تعاوَن مُجتمع خبراء الغرافين على تطوير تقنياتٍ تهدف إلى تنمية ونقل وتركيب الغرافين، وبالتالي فإن صناعة جهازٍ كهذا اليوم هو أمر سهل جداً، والتصميم أيضاً بسيط".