الأمواج الثقالية المكتشفة ناجمة عن ثقبين أسودين متصادمين

أكدت تجربة LIGO ما تنبَّأ به أينشتاين بوجود تموجات في الزمكان وتعِدُ ببدء عصرٍ جديدٍ في الفيزياء الفلكية.
 

قبل حوالي 1.3 بليون سنة دار ثقبان أسودان حول بعضهما، وظلا يقتربان من بعضهما حتى تحطَّما بانفجارٍ له هيجان شديد. يحمل كلُّ ثقبٍ أسود منهما كتلةً تصل إلى 30 ضعف كتلة الشمس، في حجمٍ ضئيل، وتصادما مواجهةً وهما يقتربان من بعضهما بسرعةٍ تُقارب سرعة الضوء. قوة الاندماج الهائلة ولَّدت ثقبًا أسودَ جديدًا فنشأ حقلٌ ثقالي من الشدَّة بحيث أنه شوَّه الزمكان وولد موجاتٍ انتشرت عبر المكان حاملةً قوة تفوق خمسين ضعفًا تقريبًا جميع النجوم البرَّاقة والمجرات المتوهجة المشاهدة في كوننا المرصود. والمثير للدهشة أن العلماء يعتقدون أن مثل هذه الأحداث كثيرة الوقوع في الفضاء، لكن هذا التصادم كان الأول الذي يُرصد وتُلتقط موجاته. لقد أعلن العلماء في مرصد الأمواج الثقالية بمقياس التداخل الليزري Laser Interferometer Gravitational-Wave Observatory والمعروف اختصارًا باسم LIGO في الحادي عشر من شباط/فبراير من العام الحالي في مؤتمرٍ صحفي في العاصمة الأمريكية واشنطن أن نصف قرنٍ من البحث عن الأمواج الثقالية قد وصل أخيرًا إلى مبتغاه.
 

يصِف ديفيد رايتزه David Reitze المدير التنفيذي لمرصد LIGO خلال المؤتمر الصحفي الإنجاز العلمي الهائل الذي تحقق، مشبّهًا إياه بالهبوط على القمر.
 

ويُضيف أحد أعضاء فريق مرصد LIGO، والفيزيائي في جامعة كولومبيا بأن هناك من كرَّس حياته بالكامل لهذا البحث، وبعضهم قضى نحبه قبل أن تُتاح له الفرصة برؤية النتائج. إنه لشعورٌ رائعٌ بأن تحصد ثمار الجهد الهائل المبذول. وليست الروعة بأنك اكتشفت شيئًا وحسب، بل بأنك منحت شيئًا لكل الناس، للجنس البشري برمته.
 

تنبَّأ ألبرت أينشتاين بالأمواج الثقالية في العام 1916 استنادًا إلى نظريته في النسبية العامة، لكنه لم يكن متأكدًا حقًا من وجودها. شرَع العلماء بالبحث عن هذه التموجات في الزمكان في ستينيات القرن الماضي، لكن أحدًا لم ينجح في تحديد تأثيراتها على الأرض. اكتشاف المرصد LIGO الذي قبلته مجلة Physical Review Letters المرموقة للنشر لا يُمثِّل الدليلَ المباشرَ الأول وحسب، بل إنه يفتح الباب على مصراعيه للاستفادة منها في دراسة الأحداث الكونية العنيفة التي تُسبب مثل هذه الأمواج. ويشرح أحد الفيزيائيين من معهد Perimeter الكندي للفيزياء النظرية أهمية الاكتشاف واصفًا إياه بالصفقة الرابحة، لأنه سيدفع النظرية الأساسية للثقالة قُدُمًا بخطواتٍ مديدة وسيمنحنا أداةً عظيمة النفع لسبر أغوار الأسئلة الموغلة في مجاهل الكون.
 
 
 
شارك أكثر من ألف عالمٍ في تجربة LIGO التي وصلت كلفتها حوالي البليون دولار، وتولت مؤسسة العلوم الوطنية الأمريكية National Science Foundation تمويلها. استعان المشروع بكاشفين اثنين، أحدهما موجودٌ في ولاية واشنطن، والآخر في لويزيانا، ليتمكنا من تحسُّس التشوُّهات في الفضاء لدى مرور الأمواج الثقالية عبر الأرض. أخذ كلُّ كاشفٍ شكل حرف L عملاق، يمتد كل طرفٍ من أطرافه مسافة أربعة كيلومترات. ينطلق شعاع الليزر جيئةً وذهابًا خلال طرفي الحرف L، منعكسًا على المرايا الموضوعة، وتقيس ساعاتٌ ذريةٌ غايةٌ في الدقة القدر الذي يستغرقه في رحلته. في الوضع الطبيعي تكون كِلتا الساقين المُشكِّلتين للحرف بالطول نفسه تمامًا، وعليه سيستغرق الضوء الوقت عينه تمامًا ليُتمَّ رحلته فيهما. ولو أن موجةً ثقاليةً اجتازته لاستطال الكاشف والأرض تحته قدرًا بالغ الضآلة باتجاهٍ واحد، ولما عادت الساقان المتعامدتان متساويتا الطول. وبهذا سيصل ضوء أحد الليزرين بفارقٍ ضئيلٍ متأخرًا عن الآخر.
 

ينبغي أن تكون التجهيزات في التجربة LIGO مرهفة الحساسية فتقيس هذا التغيُّرَ في طول الساق، الذي لن يزيد عن جزء من عشرة آلاف جزء من قطر البروتون، أي أقل من حجم كرة القدم إذا ما قورنت بامتداد مجرة درب التبانة. ولعل هذه المنظومة إحدى أعقد المنظومات التي بناها الإنسان، فالكثير من الأشياء عليها أن تتراصف للوصول إلى هذه الحساسية. وفي الواقع فإن التجربةَ دقيقةٌ لدرجة أن أي حدثٍ عابر مثل تحليق طائرة فوقها، أو سفح الرياح للمبنى، أو اهتزاز زلزالي ضئيل للأرض تحت الكاشف يمكن أن يُسبب اضطرابًا في الليزرات يُشابه ما كانت ستحدثه الإشارات الثقالية. بل إنه حتى لو أن أحد العلماء الموجودين في غرفة التحكم صفَّق بيديه لرأيت أثر ذلك على الشاشات. لهذا حرص الباحثون على استبعاد مثل هذه الإشارات المُفسدة، كما أنهم استغلوا حقيقة وجود كاشفٍ في واشنطن والآخر في لويزيانا، فمن غير المحتمل أبدًا أن يتأثَّرا معًا بالمُفسد نفسه في الوقت عينه. فعن طريق مقارنة ما يَرِدُ من الكاشفين يمكننا التيقُّن من أن ما نراه هو شيءٌ قادم من خارج الأرض.
 

بدأت تجربة LIGO أول تشغيلٍ لها في العام 2002، وظلت حتى العام 2010 تُطارد الأمواج الثقالية دون أن تتمكن من الإمساك بها. عندها أوقف العلماء تشغيل التجهيزات، وشرعوا بترقيتها، فشملت الترقية كل مكونات الكواشف تقريبًا، بما فيها مُعزِّزات الطاقة في الليزرات، كما استبدلوا المرايا في التشغيل التالي، الذي أسمَوه Advanced LIGO، والذي بدأ رسميًا في 18 سبتمبر/أيلول عام 2015. لكن التجربة بدأت فعليًا قبل ذلك التاريخ. ففي الساعة 5:51 من صباح يوم 14 من سبتمبر/أيلول بتوقيت شرق الولايات المتحدة، وصلت للكاشف الموجد في لويزيانا الإشارة قبل وصولها للكاشف القابع في واشنطن بسبعة ميلي ثواني. كانت التجهيزات في Advanced LIGO أفضل بثلاثة أضعاف من تجهيزات LIGO، وهي مصممة لتُصبح حتى أكثر حساسيةً بعشر مرات خلال بضعة سنوات.
 

الزمن الطويل قادم


كان الدليل الأقوى على الأمواج الثقالية يأتي بشكلٍ غير مباشر من أرصاد النجوم النيوترونية الدوارة فائقة الكثافة، والتي تحمل اسم النباضات pulsars. فقد اكتشف جوزيف تايلور الإبن Joseph Taylor, Jr. ورسل هالس Russell Hulse نباضًا يدور حول نجمٍ نيوتروني، وأظهرت المراقبات التالية أن مدار النبَّاض يصغُر. استنتج العلماء أن النبّاض لا بد أنه يفقد الطاقة في شكل أمواجٍ ثقالية. ونال تايلور وهالس على هذا الاكتشاف جائزة نوبل في الفيزياء للعام 1993. وظلَّ منذ ذلك الحين الأملُ يحدو الفلكيين باكتشاف الأمواج نفسها. حتى أن تايلور علَّق بأنه كان ينتظر هذا الحدث ردحًا من الزمن، وهناك تاريخٌ مديد، وأعتقد أن المشروع الذي يستغرق كل هذا الوقت حتى يؤتي ثماره يحتاج قدرًا هائلًا من الصبر. فالمسألة مسألة وقت.

 


لم يكن الاكتشاف برهانًا على الأمواج الثقالية وحسب، بل إنه كان التأكيد الأقوى حتى الآن على وجود الثقوب السوداء. فالعلماء يعتقدون بأن الثقوب السوداء قابعةٌ هناك، وقد كان بين أيديهم دليلٌ قوي جدًا على وجودها، لكنه ليس بالدليل المباشر. ولكن مع معرفتنا بأن شيئًا لا يمكن أن يصدُر عن الثقوب السوداء سوى الأمواج الثقالية، فهذا يُعدُّ طريقةً مباشرةً للتدليل على وجود الثقوب السوداء.

 


ستسمح قدرة LIGO على دراسة مميزات الأمواج الثقالية للعلماء بدراسة الثقوب السوداء بطريقةٍ جديدةٍ كليًا. سيكون بمقدور الباحثين معرفة التفاصيل عن الكيفية التي يتصادم بها ثقبان أسودان، وعمَّا إذا كان سينشأ عن ذلك ثقبٌ أسود جديد كما تقتضي النظرية. تشرح إحدى العالمات النظريات من جامعة كولومبيا من غير المشاركات بالمشروع بأننا نتحدث عن جرمين لا يصدُر عنهما الضوء، فهما مظلمان تمامًا. ومن خلال التفاصيل التي نرصدها بالأمواج الثقالية يمكننا رؤية تشكُّل الثقب الأسود الجديد. وسيكون المرصد قادرًا أيضًا على رصد الأمواج الثقالية المتولِّدة عن الأحداث العنيفة من قبيل انفجارات المستعرات الفائقة (السوبرنوفا) أو اصطدام نجمين نيوترونيين.

 


كذلك سيسمح مرصد LIGO وتجارب الأمواج الثقالية المستقبلية للفيزيائيين بوضع النظرية العامة في النسبية موضع الاختبار. فقد صمدت هذه النظرية ونجحت في اختبار الزمن وبلغت من العمر المئة عام، لكنها ما تزال تتعارض مع ميكانيكا الكمّ الذي يحكُم العالم دون الذري. ويدرك العلماء أن النسبية العامة لا بد لها أن تنهار عند نقطةٍ معينةٍ، والطريقة التي ستنهار بها سترتقي بنظريتنا إلى مستوىً أرقى تكون فيه على درجةٍ أعلى من الكمال. والأمواج الثقالية ستدفع النظرية لتخضع لاختباراتٍ أعلى بست مراتب مقارنةً بأقوى الاختبارات السابقة، التي كانت من خلال رصد النباضات.

 
 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • مقياس التداخل (interferometer): عبارة عن أداة تقوم بقياس التداخل (Interferometry)

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات