كيف تتسبب مضادات الاكتئاب في إثارة المخاوف والقلق؟

فحص مجموعة من الباحثين في كلية الطب في جامعة كارولينا الشمالية دارة القلق في الدماغ وحددوها، واستخدموا مُركّبًًا للحد من سلوك الخوف وهو أحد الأعراض الجانبية الحادة والشائعة لتناول مضادات الاكتئاب من نوع "المثبطات الانتقائية لاسترداد السيروتونين" SSRIs.


الدكتور توماس كاش
الدكتور توماس كاش

يتناول أكثر من مئة مليون شخص حول العالم مضادات الاكتئاب من مجموعة "المثبطات الانتقائية لاسترداد السيروتونين" SSRIs كأمثال البروزاك Prozac والزولفت Zoloft التي تستخدم لعلاج الاكتئاب والقلق وحالات أخرى مشابهة إلا أن لهذه الأدوية أعراض جانبية شائعة وغامضة أحيانًا من شأنها زيادة حدة القلق في الأسابيع الأولى من استخدام الأدوية مما يدفع المرضى لإيقاف العلاج بالكامل. وبناء على ذلك قام علماء من كلية الطب في جامعة كارولينا الشمالية ببحث دارة القلق الموجودة في الدماغ والتي يتحكم فيها السيروتونين في محاولة للحصول على تفسير لهذه الأعراض الجانبية وللتوصل لحلول للتخلص منها.

ويقول أحد كبار الباحثين البروفيسور توماس كاش Thomas L. Kash الحاصل على بروفيسورية جونز أندروز الامتيازية في مجال دراسات الكحول والذي يعمل في كلية الطب والصيدلة في جامعة كارولينا الشمالية: "أملنا هو التوصل لعقار يُؤخذ في الأسابيع الأولى من تناول مضاد الاكتئاب بإمكانه إيقاف دارة القلق لتجاوز هذه المشكلة. وبشكل عام، تمنحنا هذه النتائج فهمًا أعمق لشبكات الدماغ التي تتسبب بإثارة القلق والمخاوف في الثدييات".

هذا وتم نشر دراسة جديدة في مجلة نيتشر Nature تُعارض وجهات النظر الدارجة القائلة إن السيروتونين ناقل عصبي يعزز المشاعر السعيدة فقط، فالمعتقد الشائع هو أن مضادات الاكتئاب والتي يتناولها واحد من بين كل عشرة أشخاص في الولايات المتحدة الأمريكية ونحو واحدة من بين كل أربع نساء في الأربعينيات والخمسينيات من أعمارهن تُحسّن الحالة المزاجية عن طريق زيادة نشاط السيروتونين في الدماغ، وتلك حقيقة، فهناك دارات في الدماغ تؤثر مادة السيروتونين إيجابًا فيها مما يؤدي لتحسين الحالة المزاجية. كما أثبتت دراسات عديدة علاقة الاكتئاب بالمعدلات المنخفضة من السيروتونين إلا أن نوبات القلق قصيرة الأمد التي تثيرها مضادات الاكتئاب عند الكثير من المرضى والتي تسبب أحيانًا في إثارة الأفكار الانتحارية خاصة عند المرضى الأصغر سنًا تدل على أن بإمكان السيروتونين التسبب بمشاعر سلبية تؤثر في المزاج حسب الدارة التي يؤثر السيروتونين فيها. 

وفي ذات الدراسة، والتي شاركت فيها الباحثة كاثرين ماركينكيويتش Catherine A. Marcinkiewcz، وهي بروفيسورة في جامعة كارولينا الشمالية، وطالب الدراسات العليا كريستوفر مازوني Christopher M. Mazzone، استخدم الباحثون مجموعة من الأساليب المتطورة بما في ذلك علم البصريات الوراثي المتطور وأساليب الكيمياء الوراثية المتطورة لتتبع مسار تنشيط السيروتونين في أدمغة الفئران، وهو المسار المسبب لسلوك القلق. 

أوضح فريق الباحثين أنه في البداية تم تعريض أيدي الفئران إلى صدمة كهربائية بسيطة وهو أسلوب عادة ما يُستخدم لإثارة الخوف والقلق وهو الأمر الذي يؤدي إلى تنشيط الخلايا العصبية المسؤولة عن إفراز السيروتونين في منطقة تدعى "نواة الرفاء الظهرانية" The dorsal raphe nucleus (DRN) وهي منطقة في جذع الدماغ مسؤولة عن المزاج والاكتئاب، ويمتد أثر هذه الخلايا العصبية المفرزة للسيروتونين لمنطقة أخرى في الدماغ اسمها "النواة العميقة للسطر الانتهائي" The bed nucleus of the stria terminalis (BNST) والتي تبين في دراسات سابقة أنها تلعب دورًا في تأثير السيروتونين السلبي على مزاج القوارض. وعند زيادة العلماء للنشاط في العصبونات الموجودة بين منطقتي DRN وBNST زاد شعور القلق لدى الفئران. 


ووجد علماء جامعة كارولينا الشمالية أن السيروتونين الناتج من الخلايا العصبية في منطقة نواة الرفاء الظهرانية يحفز الخلايا العصبية المستهدفة في منطقة النواة العميقة BNST عبر مستقبلات محددة تُعرف باسم مستقبلات 2C وبعد ذلك تقوم هذه الخلايا العصبية في منطقة النواة العميقة BNST التي حفزها السيروتونين بتثبيط نشاط مجموعة أخرى من الخلايا العصبية والتي بالمقابل تمتد لـ"باحة السقيفة البطنانية" The ventral tegmental area (VTA) و"الوطاء الجانبي" Lateral hypothalamus (LH) وهي مناطق رئيسة في شبكات الدماغ المرتبطة بمعالجة الثواب والدافعية والتنبّه.

كما أثبتت الدراسات السابقة أن المسارات الممتدة من منطقة النواة العميقة BNST إلى باحة السقيفة البطنانية VTA والوطاء الجانبي LH من شأنها تحسين الحالة المزاجية والتخفيف من القلق. وأثبت الباحثون أن تحفيز نشاط هذه المسارات من شأنه التقليل من سلوكيات الخوف والقلق التي تسببها الصدمات الكهربائية الموجهة لأقدام الفئران. وفي المقابل، فإن محاولة تثبيط هذه المسارات عن طريق الخلايا العصبية المثارة بمادة السيروتونين في منطقة النواة العميقة تؤدي إلى ارتفاع نسبة القلق. 

وعند فحص أثر مضادات الاكتئاب، عرّض الباحثون مستقبلات الخلايا العصبية الموجودة في منطقة النواة العميقة BNST لعقار الفلوكسوتين (المعروف باسم البروزاك) والذي يزيد من مستويات السيروتونين في العصبونات التي تفرز السيروتونين، ازداد الأثر التثبيطي لهذه الخلايا على كل من باحة السقيفة البطنانية VTA والوطاء الجانبي LH، ما زاد من سلوكيات القلق والخوف عند الفئران.

إذًا كيف يمكن إيقاف هذا التأثير؟ لاحظ كاش Kash وفريقه أن الخلايا العصبية الواقعة في النواة العميقة والمسببة للقلق ذات ارتباط بعامل الهرمون المطلق لمُوجّهَة القِشرة corticotrophin releasing factor (CRF) والمسبب للقلق وعندما قاموا بإضافة مركب لمنع نشاط هذا العامل CRF لاحظوا أن معدل الخوف الذي أثاره عقار الفلوكسوتين قد قل كثيرًا. 


أما الهدف من الخطوات اللاحقة فهو إثبات أن دارات القلق التي يثيرها السيروتونين والموجودة في منطقتي نواة الرفاء الظهرانية والنواة العميقة موجودة أيضًا عند البشر وتعليقًا على ذلك يقول كاش: "من المنطقي أن تكون تلك الدارات موجودة عند البشر طالما أننا نعرف أن مضادات الاكتئاب قد تثير القلق عند الأشخاص وأن المسارات العصبية في مناطق الدماغ تتشابه عند البشر والفئران". 

ويتبع ذلك خطوة أخرى مستقبلية لاختبار العقاقير المستخدمة لأغراض متنوعة والتي غالبًا ما تعتمدها جمعية الغذاء والدواء الأمريكية FDA لمعرفة مدى تأثيرها على دارات القلق في الدماغ، وبالتالي معرفة مدى قدرتها على حجب القلق الذي تجلبه مثبطات استرداد السيروتونين. ونظريًا، فإن استخدام مادة تحصر أثر الهرمون المطلق لموجهة القشرة CRF-blocker قد يكون ذي فائدة. فعلى مدى سنين عديدة حاولت شركات الأدوية تصنيع حاصرات للـCRF لعلاج الاكتئاب والقلق والإدمان، إلا أنه على أرض الواقع لم تنجح هذه الحاصرات في التجارب السريرية. وعلى الأرجح فإن أقرب أمل لنا في دواء مرخص من الـFDA سيكون بعد عدة سنوات.

ويقول كاش: "يعمل باحثون آخرون على تحسين مركبات تثبط الـCRF، وتلك خطوة في المسار الصحيح إلا أن هناك خطوات أخرى يجب اتخاذها. إننا نبحث حاليًا في بروتينات كثيرة تدخل في تكوين الخلايا العصبية في النواة العميقة ونأمل أن نستطيع التعرف على مُستَقبِلة تركز عليها العقاقير الموجودة، فأحدها قد يكون نافعًا حين يبدأ الناس بتناول مثبطات استرداد السيروتونين".

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات