جُهزت مركبة جونو Juno بأدوات تسمح لنا بتعلم المزيد عن الجزء الداخلي للمشتري حتى مع غياب قدرتنا على النظر مباشرةً داخل الكوكب، إذ يُمكن لحركة وكثافة التغيرات الحاصلة أسفل السحب -الناتجة عن وجود فقاعة سميكة ومتماوجة من الغاز- أن تؤثر على الحقل الثقالي gravitational field الموجود فوق السطح مباشرة. وعبر رصد مثل هذه التأثيرات الصغيرة، تستطيع جونو تقديم المساعدة لمعرفة ما يوجد في الداخل. يُمكن للمركبة الفضائية أيضاً أن تقيس الحقل المغناطيسي Magnetic field للمشتري، وعبر فعلها لذلك، فهي تُحدد حجم القلب الصلب الموجود في المركز، أو تساعدنا في معرفة فيما إذا كان موجوداً أساساً.
لماذا المشتري؟
هناك العديد من الأفكار المتعلقة بكيفية نشأة المشتري، ويعتقد بعض العلماء أنه بدأ على شكل تكتل صلب من المواد الثقيلة مثل الصخور والجليد. ومع قيام جاذبيته بجمع ذلك الحطام معاً، نمت تلك الجاذبية وزاد سحبه الثقالي. وفي النهاية، أصبح كبيراً لدرجةٍ حاز معها جاذبية كافية لجذب الغازات الخفيفة -على سبيل المثال: الهيدروجين- من السديم المحيط به. تنص إحدى الفرضيات البديلة على أن المشتري تشكل عندما تجمعت منطقة صغيرة من القرص الغازي حول الشمس الشابة، ومن ثمّ انهارت بشكلٍ مفاجئ على نفسها.
إحدى أقوى جوانب العملية العلمية هي قدرتها على صناعة التنبؤات المتعلقة بكيفية عمل الكون. إذ تقول العديد من النظريات المرتبطة بتشكل المشتري أشياء مختلفة حول الشكل الذي وجب على الكوكب اتخاذه. على سبيل المثال، تتنبأ إحدى النظريات بأن المشتري يمتلك قلباً مكوناً من المواد الصلبة الثقيلة -المؤلفة من عناصر مثل الكربون والنيتروجين والأكسجين والسيليكون- ونسبتها أكثر من تلك الموجودة على الأرض بثلاث مرات. في حين تقترح نظرية أخرى أنه يمتلك كمية من المواد مكافئة لتلك الموجودة في تسعة كواكب مثل الأرض، بل هناك فكرة تقول أن قلبه يزن ما يعادل حوالي 20 أرضاً. ولدينا أيضاً مجموعة مختلفة من النظريات التي تضع تنبؤات حول كمية المياه الموجودة فيه.
وعبر تحديد طبيعة قلب المشتري ومقدار المياه الموجودة في الكوكب، يُمكن للعلماء تضييق المجال أمام الأفكار العديدة التي تتحدث عن كيفية تشكل المشتري. وطالما أن تشكل المشتري يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتشكل الأرض، فجونو مهمة يتعلق جوهرها بفهم أصل وجودنا.
كيف تستكشف جونو المشتري؟
على الرغم من قيام بضعة مركبات فضائية بزيارة المشتري، وبصرف النظر عن وجود أفضل التلسكوبات في الفضاء والأرض، فلا يزال هناك الكثير الذي لا نعرفه حول العملاق الغازي. نحن نعرف أن 99% من الكوكب مكون من الهيدروجين والهليوم، لكنّ النسبة القليلة المتبقية تُشكل لغزاً لا زال مستمراً. ولسنا متأكدين أيضاً فيما إذا كان لدى الكوكب قلب صلب، أو كيف يولد المشتري حقله المغناطيسي القوي جداً. وضعنا العديد من الإجابات المحتملة لتلك الأسئلة، والعديد من أفكارنا تدعمها التجارب والمهمات الفضائية الأخرى. وبمساعدة جونو، سنتقدم بشكلٍ كبير على طريق الإجابة عن تلك الألغاز، مما يسمح لنا بفهم كيفية تشكل المشتري، وكيف أصبح الكوكب الذي نعهده اليوم.
البحث عن الماء
إحدى أكبر الأسئلة التي نواجهها حول المشتري يرتبط بنسبة العناصر الثقيلة الموجودة فيه، تلك الأثقل من الهيدروجين والهليوم. وحتى الآن، فإنّ أكثر تلك العناصر أهمية هو الأكسجين، الذي يُعتبر الماء شكله الأكثر رواجاً. يُعتبر الهيدروجين العنصر الثالث من حيث الوفرة في الكون، ونتوقع أنه يؤلف ما يزيد عن نصف محتوى المشتري من العناصر الثقيلة. وفي الحقيقة، فإنّ كمية الأكسجين الموجودة في المشتري قد تفوق نظريتها في الأرض بحوالي 20 مرة.
الغوص في أعماق المشتري
وفقاً للبيانات القادمة من المركبة الفضائية والتلسكوبات، يحتوي المشتري أيضاً مواداً أثقل من الهيدروجين والهليوم. وتشير معظم النظريات المتعلقة بالجزء الداخلي منه، إلى أنه يمتلك قلباً صلباً في مركزه، لكن وحتى الآن لم نتمكن من تأكيد وجوده. ولسنا متأكدين أيضاً فيما إذا كان القلب كرة صلبة لها سطح، أو أنه يتداخل مع بقية أجزاء الكوكب بشكلٍ تدريجي، حيث يصير الغاز الداخلي للمشتري أكثر كثافة ليصبح في النهاية صلباً في المركز. تطرح النظريات أو النماذج المختلفة المتعلقة بنشأة المشتري تنبؤات مختلفة مرتبطة بحجم وكتلة وتركيب النواة. وفي بعض النماذج، فإنّ ذلك القلب قد يصل وزنه إلى ثلاثة أو تسعة أو حتى عشرين ضعفاً من كتلة الأرض. وعبر تحديد ماهية القلب، ستساعدنا جونو في تضييق مجال الاحتماليات الصحيحة. وإذا ما اكتشفت جونو أن القلب هو شيء لم نتوقعه، فإنّ ذلك سيجبرنا على إعادة تمحيص أفكارنا حول كيفية تشكل الكواكب العملاقة مثل المشتري.
هناك غموض آخر يرتبط ببنية السحب والعواصف والنطاقات الدوارة للمشتري، فقد ترتبط إحدى التضاريس السطحية للمشتري، مثل البقعة الحمراء العظيمة (Great Red Spot)، ببنية وحركة الغاز الموجود في أعماق الكوكب. أو ربما تكون مجرد أنماط ضحلة موجودة في الطبقات الخارجية من الغلاف الجوي، مثل قطرات زيت في حوض من الماء. وبوجود جونو، سنكون قادرين على التعرف على بنية وحركة المواد في أعماق سحب المشتري لأول مرة في التاريخ.
استكشاف الحقل المغناطيسي
في أعماق المشتري، تسبب الوزن الهائل للكوكب في إيجاد درجات حرارة وضغط متطرفين. وقد أعاد الباحثون خلق ظروف مشابهة في المختبر (جرى ذلك لأجزاء من الثانية فقط). وتشير تجاربهم إلى أنه عند بعض النقاط داخل المشتري، على بعد ثلث إلى نصف المسافة من مركزه، تصبح درجة الحرارة والضغط شديدين لدرجة أن غاز الهيدروجين يتحول إلى سائل ويصبح موصلاً للكهرباء. ونعتقد أنه في هذه المنطقة، حيث يأخذ الهيدروجين هذا الشكل الغريب، يتولد الحقل المغناطيسي للكوكب.
لكنّ الظروف الموجودة هنا غريبة جداً إلى درجة أننا لا نملك أي فهم جيد لما يجري هناك. فربما ينشأ الحقل المغناطيسي بطريقة مشابهة لما هي الحال فوق الأرض. أو أنّ المحرك، الذي يُولد بفضله الحقل المغناطيسي، ربما يشابه تدفق المواد داخل الشمس. ولتحسين فهمنا للحقل المغناطيسي للمشتري، ستضع جونو خريطة لهذا الحقل، وتراقب كيف يتغير بمرور الزمن.
مع تدفق الجسيمات المشحونة والصغيرة في أرجاء الفضاء، قد يقوم الحقل المغناطيسي للمشتري بأسرها مما يساهم في تسريعها نحو القطبين الشمالي والجنوبي للكوكب. وعندما تصطدم هذه الجسيمات مع الأقطاب، فإنها تؤدي إلى ظهور ضوء شديد يُعرف بالشفق القطبي (aurorae) للمشتري؛ وهي مشابهة للأضواء الشمالية والجنوبية فوق الأرض.
تمّ تجهيز جونو بأجهزة قوية يُمكنها سبر الشفق القطبي واكتشاف تلك الجسيمات أثناء تدفقها. تُنتج هذه العمليات أيضاً إشارات راديوية تستطيع جونو الاستماع إليها باستعمال هوائياتها الراديوية، وستساعدنا البيانات القادمة من المهمة في فهم التفاعلات المعقدة الحاصلة بين دوران المتشري وغلافه الجوي وحقله المغناطيسي.