حقبة جديدة في فيزياء النيوترينو (neutrino physics) في الولايات المتحدة على وشك البدء، ويلعب مختبر ماديسون للعلوم الفيزيائية في جامعة واشنطن UW–Madison's Physical Sciences Laboratory او اختصاراً (PSL) في ستوتن (Stoughton) دوراً رئيسياً في ذلك.
مرفق النيوترينو ذي الحوض الطويل (The Long-Baseline Neutrino Facility) اختصاراً (LBNF) وهو موطن تجربة الكشف عن النيوترينو عميقاً تحت الأرض (Deep Underground Neutrino Experiment) اختصاراً (DUNE) ذات كلفة الملياري دولار- سيرسل الجسيمات أخيراً لمسافة 800 ميل (1287.كم) عبر الأرض من مختبر خارج شيكاغو (Chicago) إلى كاشف على عمق ميل تحت الأرض في منجم للذهب خارج عن الخدمة في بلاك هيلز (The Black Hills) جنوب داكوت (South Dakota).
لا يزال ما نعرفه عن النيوترينات قليلاً، إلا أن دورها في فهم المادة وديناميكا الكون يتعاظم مع استمرار العلم في معرفة المزيد عن الجسيمات الغامضة من خلال مجموعة من الاكتشافات الجديدة والغريبة، بما في ذلك التجربة الجديدة لكشف النيوترينو عميقا تحت الأرض (DUNE). وستُقام احتفالات لا مثيل لها في مرفق النيوترينو طويل الحوض في الوقت نفسه في مختبر سانفورد (Sanford lab) في جنوب داكوتا، في مختبر فيرمي (Fermi lab)، في إلينوي (Illinois).
إذ سيُمِدُّنا المرفق بشعاع النيوترينو والبنية التحتية التي ستدعم أجهزة الكشف في تجربة الكشف عن النيوترينو مستفيداً من مجموعة مُسرِّع الجسيمات الفعالة في مختبر فيرمي ومناطق مختبر سانفورد العميقة تحت سطح الأرض داخل أنفاق طويلة وقائمة منحوتة منذ أيام تعدين الذهب في ثلاثينات القرن العشرين.
وبمجرد تشغيل أول مجرفة للأرض، ستُخرِج طواقم العمل أكثر من 800,000 طن من الصخور، وهذا يقارب وزن ثماني ناقلات للطائرات، لإنشاء كهوف ضخمة تحت الأرض وتجميع أجهزة الكشف الهائلة عن الجسيمات، كل ذلك لفهم أفضل للنيوترينو الغامض.
لقد تم تخيُّل وتصميم تجربة الكشف عن النيوترينو، كما ستُبنَى على يد فريق من 1000 عالم ومهندس من أكثر من 30 بلداً و 160 مؤسسة بما في ذلك مختبر ماديسون في جامعة واشنطن. وفي الواقع عندما تصبح تجربة الكشف عن النيوترينو عميقاً تحت الأرض عاملةً بعد سنوات من الآن، ستعتمد على مجموعات لوحات الآنود (APAs) المبنيَّة في مختبر ستوتن في جامعة واشنطن.
كما ستتألف الكاشفات من لوحات كبيرة (مجموعات لوحات الأنود) التي ستُغمَر في الأرجون السائل، وتتكوّن هذه اللوحات من أسلاك رفيعة للغاية (ultrathin) تُلَف حول معدن، إذ تتألف كل مجموعة مُصنَّعَة في مختبر الأبحاث الفيزيائية التابع لجامعة واشنطن من إطار من الفولاذ المقاوم للصدأ (ستانلس ستيل) طوله 20 قدماً، وطبقة من شبكة نحاسية، ونحو 15 ميلاً (24.135 كم) من أسلاك البيرليوم النحاسية الرفيعة جداً (طول قطرها 150 ميكرون) الملفوفة حولها في أربع طبقات، ومن ثم يُوصَل السلك إلى لوحة دارة كهربائية لتتبع النيوترينات.
بدأ الكون بالانفجار الأعظم منذ 13.8 مليار سنة، إذ تحولت الطاقة إلى مادة ومادة مضادة، ولكن ماذا حدث بعد؟
وفقاً للاكتشافات التي أنجزها ألبرت آينشتاين وفيزيائيين آخرين، يجب أن يكون الكون قد أنتج كميات متساوية من المادة والمادة المضادة، ولكن حتى الآن كل النجوم والمجرات التي نراها عبر الكون تتألف جميعها من المادة، إذاً ماذا حدث؟ ولماذا تغلبت المادة على المادة المضادة؟
تهدف تجربة جديدة إلى اكتشاف ما إذا كانت جسيمات ضئيلة تُدعى النيوترينات هي السبب. فالنيوترينات هي أكثر الجسيمات المكونة من المادة وفرة في الكون، تعبر تريليونات منها خلالنا كما تمر عبر كل شيء آخر في الكون كل ثانية، وتُنتَج بكميات ضخمة داخل شمسنا ونجوم أخرى، وبكميات أقل داخل أرضنا، وحتى الموز يصدر النيوترينات أيضاً.
يستطيع العلماء إنتاج النيوترينو ومضاد النيوترينو داخل مُسرِّع الجسيمات ودراسة خواصها بتفصيل كبير، كما ستختبر تجربة الكشف عن النيوترينو عميقاً تحت الأرض إذا ما كان النيوترينو ومادته المضادة يسلكون سلوكاً مختلفاً عن بعضهما البعض، و ستقام التجربة في مرفق النيوترينو طويل الحوض، وستَستخدِم مُسرِّع الجسيمات القوي في قسم الطاقة في مختبر فيرمي، إذ سينتج شعاع مُكثَّف من الجسيمات التي تعبر مسافة 1300 كم خلال الأرض إلى مرفق سانفورد للأبحاث المُقام تحت سطح الأرض.
سيبني علماء التجربة عدّادات جسيمات ضخمة فائقة الحساسية، وهي أفضل ما توصلت إليه التكنولوجيا، كما ستَلتقِط الكواشف الواقعة على عمق 1.5 كم تحت سطح الأرض النيوترينو ومضاد النيوترينو حال وصولهم إلى معمل سانفورد، وستخبر الاختلافات في سلوك الجسيمات العلماء خلال رحلة الأربعة أميال تحت الأرض ما إذا كانت النيوترينات هي السبب في أن الكون مُكوّن من المادة.
و لكن يمكن لــ DUNE اكتشاف المزيد في حال انفجار نجم في مجرتنا "درب التبانة"، إذ ستكون كواشف التجربة قادرة على رؤية النيوترينات الناتجة عن ذلك الانفجار هنا على الأرض، وهذا سيسمح للعلماء مراقبة كيفية تأدية المستعرات العظمى لتشكيل النجوم النيترونية وربما الثقوب السوداء، كما يمكن لكواشف التجربة تتبّع مسارات الجسيمات من خلال اضمحلال البروتونات.
تتنبأ الكثير من النماذج النظرية أن البروتونات غير ثابتة، ولكن لحسن حظنا أن متوسط عمر البروتونات طويل جداً، فهو أكثر من مائة ألف مليار مليار مليار عام، وبالرغم من ذلك يمكن للبروتون أن يضمحل في أي لحظة محددة، وإذا استطاع العلماء مشاهدته سيكون بإمكانهم الاقتراب بنماذجهم من حلم آينشتاين في إيجاد نظرية مُوحَّدة للطاقة والمادة من النيوترينات إلى الثقوب السوداء واضمحلال البروتون، وستُغيّر الاكتشافات المُحقَّقَة من قبل التعاون الدولي لــ DUNE فهمنا للكون.
يشرف بوب باولز Bob Paulos مدير المختبر على العمل في تجربة DUNE في مختبر العلوم الفيزيائية، و يقول:" إن مجموعات اللوحات الأنودية هي حقاً قلب الكواشف".
سوف يبني مختبر العلوم الفيزيائية ثلاث مجموعات للوحات الأنود لتجربة نموذجية تُسمى طليعة دون (ProtoDUNE)، و يتعاون مختبر ماديسون التابع لجامعة واشنطن مع العديد من المؤسسات الأخرى في المملكة المتحدة، إذ ستبني هذه المؤسسات ثلاثة مجموعات للوحات أنود طليعية أخرى مستخدمةً تصميم مختبر العلوم الفيزيائية، وقد بنوا نسخة مطابقة لروبوت مختبر العلوم الفيزيائية ذي الأسلاك الملتفة مع جميع الأدوات الأخرى اللازمة لبناء الأجهزة.
إن ضمان توتر واهتزاز الأسلاك له دور حاسم لنجاح مجموعات لوحات الأنود، يقول باولز: "الخطة النهائية هي بناء أربع وحدات من الكواشف تحت الأرض في جنوب داكوتا، وسيكون لكل وحدة ثلثي حجم ملعب كرة قدم وتتألف من 150 مجموعة للوحات الأنود"، و من المُتَوَقَع البدء بإنشاء الوحدات عام 2020.
سينضم مختبر العلوم الفيزيائية إلى زوج من المخابر الأخرى لبناء مجمع كامل من مجموعات اللوحات الأنودية المطلوبة لكامل كواشف DUNE. ويقول باولز: "هناك الكثير من التعاون الدولي لإنجاز هذا المشروع، وسيستدعي مساهمات عالمية لجعل DUNE أمراً واقعاً، ونحن سعداء لأن لمختبر العلوم الفيزيائية دوراً هاماً في ذلك".
صمم مختبر ماديسون هيكل الكاشف وبناه دعماً للمشروع بالإضافة إلي بناء مجموعات اللوحات الأنودية، كما يساعد المهندسون والفنيّون في مختبر العلوم الفيزيائية، وفي سيرن (CERN)، المنظمة الأوروبية للبحوث النووية (the European Organization for Nuclear Research) في تجميع الأجهزة للتجربة الطليعية.
تقول مارشا مايليك Marsha Mailick نائبة رئيس مختبر ماديسون للبحوث ودراسات التخرج: "يتوصل مختبر العلوم الفيزيائية في ماديسون التابع لجامعة واشنطن إلى إنجاز آخر في تاريخه المتألق فعلاً في أبحاث النيوترينو العالمية مع هذا الكشف غير المسبوق، وقد لعب مختبر العلوم الفيزيائية أدواراً متكاملة في نجاح هذه التجارب العلمية المتطورة مثل مرصد آيس كيوب لرصد النيوترينو (IceCube) في القطب الجنوبي، ومصادم الهادرونات الكبير في سيرن في سويسرا".
ويقول باولز: "لقد تمّ بذل جهدٍ جماعيٍّ كبيرٍ في مختبر العلوم الفيزيائية من قِبَلِ أشخاص يعملون لساعات طويلة تلبيةً للمواعيد النهائية القريبة حفاظاً على مسار المشروع، وكل من يعمل في المختبر تقريباً كانت له يد في هذا المشروع في وقت أو آخر، مع مجموعة أساسية تتألف من اثني عشر شخصاً يعملون بشكل رئيسي على المشروع لمدة عام".
لماذا مختبر ماديسون للعلوم الفيزيائية التابع لجامعة واشنطن؟
ويضيف باولز: "لدى مختبر العلوم الفيزيائية تاريخ طويل من العمل في مجال الفيزياء عالية الطاقة، هذا إلى جانب حقيقة المزيج الصحيح من خبرات الهندسة والتصميم والتصنيع الذي نملكه، فضلاً عن فن التصنيع ومتجر إلكترونيات كبير بما فيه الكفاية لبناء مجموعات اللوحات الأنودية في منطقة تجميع خالية، الأمر الذي يضعنا في موقع القدرة على القيام بهذا النوع من العمل".
لقد أنفق المختبر نحو 10 ملايين دولار في العمل على مشروع تجربة DUNE حتى الآن، وقد شُحنَت أول مجموعات اللوحات الأنودية من مختبر العلوم الفيزيائية في 7 تموز/ يوليو ووصل إلى سيرن في 12 تموز/ يوليو، واللوحة هي جزء من الكاشف الطليعي في تجربة DUNE، وهو نموذج مبدئي للكاشف البعيد الضخم الذي سيُوضَع في النهاية تحت الأرض جنوب داكوتا.
إن الكاشف البعيد هو حجرة إسقاط زمنية (Time Projection Chamber) اختصاراً TPC، وهو نوع من كواشف الجسيمات التي تَستخدِم مجالاً إلكترونياً قوياً مع كمية بالغة الدقة من الغاز أو السائل لإعادة إنشاء بنيةٍ ثلاثية الأبعاد لمسار جسيم أو لتفاعله، وفي حالة تجربة DUNE ستوضع حجرة الإسقاط الزمنية داخل جهاز حافظٍ للبرودة (Cryostat) مملوء بالأرغون.
في النهاية, ستتكون التجربة من كاشفين للجسيمات مَوضوعيْن في أكثر حزم النيوترينو كثافة في العالم، وسيُسجِّل أحد الكواشف تفاعلات الجسيمات بالقرب من مصدر الشعاع في مختبر فيرمي، في حين يأخذ الكاشف الآخر المملوء بـ 70,000 طن من الأرغون السائل والمُبرَّد إلى 300 درجة فهرنهايت لقطات فوتوغرافية للتفاعلات عميقاً تحت الأرض في مختبر سانفورد.
فحين تتفاعل النيوترينات مع السائل البارد، تنتج الكثير من الجسيمات الأخرى والضوء، وستُلتَقط تلك الجسيمات بعد ذلك من قِبَل إلكترونيات مجموعات اللوحات الأنودية, وتُنقَل على شكل بيانات إلى السطح.
النيوترينات هي أكثر جسيمات المادة وفرة في الكون، ومع ذلك لا يَعرِف إلا القليل جداً عن دورها في كيفية تطور الكون، وستمكِّن التجربة العلماء من البحث عن الاختلافات في سلوك النيوترينات ونظائرها من المواد المضادة أو النيوترينات المضادة والتي يمكنها إمدادنا بأدلة أساسية عن سبب عيشنا في عالم تطغى عليه المادة، وبمعنى آخر، عن سبب وجودنا بدلاً من أن يُبَاد كوننا فور الانفجار الأعظم.
ستراقب التجربة أيضاً النيوترينات الناجمة عن المستعرات العظمى، والتي يمكن للعلماء استخدامها للبحث عن تشكيل النجوم النيوترونية أو حتى الثقوب السوداء. وستسمح الكواشف الكبيرة لــ DUNE للعلماء بالبحث عن الظاهرة دون الذرية المتنبَّأ بها وغير المُشاهَدَة حتى الآن لاضمحلال البروتون، وهي عملية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتطوير نظرية موحدة للطاقة والمادة.