الذاكرة طويلة الأمد ليست فقط مجرد ذاكرة قصيرة أمد محفوظة.. دراسة جديدة تدحض ذلك!

 الذكرى موجودة مسبقًا. بقلم: مايك ماكراي MIKE MCRAE.

8 أبريل/نيسان 2017


اعتقد علماء الأعصاب لأكثر من نصف قرن أن الذاكرة طويلة المدى ما هي إلا مقاطع من الذاكرة قصيرة المدى محفوظة في مخزن بارد قصي في الدماغ. إلا أن بحثًا جديدًا عن الدارات المسؤولة عن الذاكرة يدحض هذه الفكرة (أو النموذج)، ويقترح أن الذاكرتين تعملان معًا في الوقت ذاته دون التركيز على الذاكرة طويلة المدى بمعزل عن غيرها.

تُعتبر هذه الدراسة التابعة لمعهد ماساتشوتس للتكنولوجيا MIT، التي تبحث في مسألة دمج الذاكرتين خطوةً متقدمةً في مجال تحديد وتنشيط خلايا الذاكرة، حيث تحكم الفريق بذواكر فئران التجربة بضغطة زر.

إن كنت قد شاهدت فيلم الإثارة "الذاكرة Memento" المُنتَج عام 2000 فسيكون تعبير فقدان الذاكرة قصيرة المدى مألوفًا لديك، فعلى الرغم من أن الفيلم يُعتبر ضربًا من الخيال إلا أنَّ دور البطولة الذي أداه الممثل غاي بيرس Guy Pierce يتمحور حول شخصية رجل يُدعى هنري موليسون Henry Molaison. في عام 1953 كان هنري يبلغ من العمر 27 حين خضع لعملية دقيقة في الدماغ في محاولة لعلاج حالة الصرع epilepsy التي عانى منها طيلة سنين عمره.

ولحسن الحظ تعافى هنري من نوبات الصرع إلا أنّه فقد القدرة على تذكر أي شيء مضى على حصوله نحو ثلاثين ثانية وأكثر. لم تتأثر الذكريات المخزّنة قبل خضوعه لعمليته الجراحية، وكان لا يزال باستطاعة هنري تعلّم مفاهيم صعبة وإجراءات عامة، ولكن موطن الخلل كان في قدرته على تذكر الأحداث على شكل صور وقصص ذهنية.

وعلى الرغم من قسوة تجربة هنري إلا أنّها أتاحت الفرصة لعلماء الأعصاب لاستنتاج أن الضرر الذي وقع عليه خلال العملية الجراحية وأثّر في عملية تكوين الذاكرة طويلة المدى له علاقة بمنطقة الحصين hippocampus، أما عملية التخزين الفعلية لهذه الذكريات فتتم في جزءٍ مختلف من الدماغ كالطبقات العليا الخارجية المسماة بالقشرة المخية الحديثة neocortex.

دفعت عملية تجميع الذكريات هذه العلماء إلى الاعتقاد بأن الذكريات قصيرة المدى تتشكل وتُخزن في الحصين قبل تحويلها ككتلة كاملة إلى منطقة تخزين الذكريات طويلة المدى. وفي الستينيات من القرن الماضي، عرض العلماء نموذجًا آخر تحت مسمى نظرية الأثر المتعدد للذاكرة البشرية multiple trace theory of human memory، وتعتمد هذه النظرية على ملاحظة طريقة تذكر الأشخاص لحدثٍ ما دون ذكر التفاصيل. وكان الاعتقاد أنَّ منطقة الحصين في الدماغ قادرة على اقتفاء أحداث موقفٍ مضى، بينما تخزن قشرة الدماغ الحديثة الإحساس العام بالألفة والاعتياد في الذاكرة طويلة المدى.

وبما أن الذكريات لا تُخزّن في الحزم العنقودية المتمركزة ذاتها عند كل البشر، صعُبت دراسة الذاكرة إذ تعتمد على فرص دراسة الأشخاص الذين تعرضوا لسكتات دماغية أو إصابات حادة في الرأس أو إصابات خطيرة أخرى. وكانت عملية إثبات صحة دليل على آخر عملية بطيئة حتى وقت قريب.

في عام 2012 أوجد باحثون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT طريقةً لتصنيف خلايا عصبية تُسمى الإنغرامات engrams، وهي مسؤولة عن ذكريات محددة، وقد ساعدهم ذلك في تقفي أثر الدارات المسؤولة عن استدعاء حادثةٍ أو موقفٍ ما. والمثير في الأمر أنهم توصلوا إلى طريقة تساعد على تنشيط هذه الخلايا باستخدام ضوء منبثق من ألياف ضوئية وبذلك تمكنوا -بكل ما تعنيه الكلمة- من تشغيل هذه الخلايا وإيقاف عملها كيفما اتفق، وذلك بهدف تحفيزها على تذكر موقف مثير للقلق.

استخدم الباحثون الآن هذه الأدوات لاكتشاف أنّ الذكريات طويلة المدى التي تتطور في الوقت نفسه مع ذكريات قصيرة المدى تبقى ثابتة فقط عندما تنضج.

ويقول الباحث تاكاشي كيتامورا Takashi Kitamura: "إن هذا يخالف النظرية الدارجة عن عملية تجميع الذاكرة التي تنصُّ على أن الذاكرة تنتقل من مكانٍ إلى آخر، لكنَّ الحقيقة هي أنَّ الذاكرة موجودة مسبقًا".

ولدراسة عملية تكوين الذكريات لدى الفئران صنّف الفريق الباحث خلايا الذاكرة الموجودة في ثلاث مناطق هي الحصين hippocampus، والقشرة الدماغية الأمام جبهية prefrontal cortex، ومنطقة أخرى تلعب دورًا مهمًا في طريقة التجاوب مع المخاوف وتُسمى اللوزة الدماغية القاعدية basolateral amygdala، ثم عُرِّضَت الفئران لصدمات كهربائية خفيفة بهدف خلق حدث مخيف. بعد يوم واحد فقط وُجِد أنها تشكل شبكات ذاكرة في كلٍّ من الحصين وقشرة الفص الجبهي.

وعلى الرغم من أنه يمكن استخدام خاصية التشغيل والإغلاق في منطقتين منهما لتحفيز عملية تذكر الأحداث المؤلمة عند الفئران إلا أن منطقة الحصين هي الوحيدة التي تنشط خلاياها بشكل طبيعي عند عملية التذكر العادية. وبعد أسبوعين عُكست العملية، فمع إجبار الخلايا في منطقة الحصين على العمل باستخدام الضوء، لم تعد الفئران تستغل هذه الخلايا للتذكر، بل نشّطت الذاكرة طويلة المدى الموجودة في القشرة الدماغية الأمام جبهية.

ويقول الباحث مارك موريسي Mark Morrissey: "تتشكل الذكريات سوية بشكلٍ متوازٍ، لكن بعدها تسلك كلّ واحدةٍ اتجاهًا مختلفًا، وعليه تصبح القشرة المخية الأمام جبهية أقوى بينما تضعف منطقة الحصين بالمقابل". واليوم نحن بحاجة لدراسات طويلة المدى للتأكد من حقيقة فقدان منطقة الحصين لأي أثر للذاكرة بعد مرور وقتٍ ما، إلا أن الباحثين بحاجة لأساليب أفضل لاقتفاء الخلايا المتصلة بآثار الذاكرة أو ما يعرف بالإنغرامات engrams.

والسؤال الجديد المطروح هو كيف "تنضج" خلايا الذاكرة طويلة المدى؟ فعلى الرغم من أنه من الواضح أن قطع الاتصال مع منطقة الحصين من شأنه إعاقة عملية تكوين الذكريات طويلة المدى إلا أنَّ آلية حدوث ذلك لا تزال سرًا غامضًا. ومن المثير أن نتخيل الطرق التي قد نتمكن بها من تعزيز الذكريات التي نريدها بسرعة مع محو تلك التي قد تؤلمنا. وحتى ذلك الحين قد تكون عملية وشم الأسماء والعناوين والأرقام على جسدك هي الطريقة الأنجح بشكل مؤكد حتى لا تنساها.

نُشر هذا البحث في دورية Science.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

اترك تعليقاً () تعليقات