الذاكرة العاملة 2

المنفذ المركزي


من المفترض أن يكون المنفذ المركزي central executive نظام تحكم بالانتباه، ويمتلك سعة معالجة محدودة، وله دور في التحكم بالأفعال. تبني بادلي (1986) نموذجًا كان اقترحه قبلًا نورمان Norman وشاليس Shallice 1986 والذي يقترح أن الأفعال يتم التحكم بها من خلال طريقين، فالسلوك الروتيني والاعتيادي يتم التحكم به بشكل تلقائي من قِبل مدًى معين من المخططات، وهي عمليات تم تعلمها بشكل جيد وتتيح لنا أن نستجيب بشكل مناسب للبيئة من حولنا؛ لنأخذ مثالًا على ذلك سائقًا متمرسًا في رحلة اعتيادية له، فهو قد يصل في بعض الأحيان إلى وجهته المقصودة دون أن تكون لديه ذكريات عن الرحلة، ولكن عندما لا تكون هذه العمليات كافية لأداء وظيفتها، كأن يجد السائق أن الطريق الاعتيادية مسدودة بسبب حادث سيارة، عندها يبدأ نظام آخر بالعمل، وهو النظام الرقابيّ الانتباهيّ Supervisory Attentional System واختصارًا SAS.
 

يستطيع هذا النظام أن يستخدم المعرفة طويلة الأمد في إعداد الحلول الممكنة، وأن يفكر فيها مليًا قبل اختيار أفضلها؛ ففي حالة الرحلة التي قُطعت، قد يتضمن إيجاد طريق بديلة على المنفذ المركزي الخاص بالذاكرة العاملة، وعلى الأرجح أن يكون في حالة اتصال مع الذاكرة طويلة الأمد، ودفتر التخطيط الإبصاريّ المكانيّ، وربما كذلك مع الحلقة الصوتية. كان المنفذ المركزي يعتبر فيما مضى، في النسخة الأولى منه، نظامًا عامًا قادرًا على المعالجة والتخزين معًا في آن واحد. ومن أجل الشح في التفسير، فقد اقترح بادلي ولوجي (1999) أن هذا النظام كان يمتلك سعة انتباهية صِرفة. ولكن الأبحاث اللاحقة لذلك أثبتت أن هناك حاجة لوجود نظام تخزين مستقل ليساند المنفذ المركزي، ألا وهو وسيط الأحداث episodic buffer.

مع أن المصطلح "المنفذ المركزي" قد يوحي بوجود نظام تحكم واحد، إلا أن الأرجح أنه يتكون من اتحاد متكامل من عمليات تحكمية تنفيذية، والتي يُرجَّح أنها تضم القابلية على تركيز الانتباه، وعلى تقسيم الانتباه بين مهمتين أو أكثر، وعلى التحكم في الوصول إلى الذاكرة طويلة الأمد، وهي عمليات يحتمل أنها مبنية على نوع أو أكثر من أنواع التثبيط.

أما بالنسبة للوظائف التنفيذية فقد تمت دراستها بشكل موسع من قبل شاليس Shallice 2002، وبالأخص في ما يتعلق بالخراب الذي يحل به عند إتلاف الفصين الجبهيين للدماغ، وهو ما يسمى بمتلازمة خلل الوظائف التنفيذية dysexcutive syndrome، والذي قد يتسبب بمشاكل رئيسة في التحكم الانتباهيّ، وهو الأمر الذي يشتمل أحيانًا على المواظبة المتكررة لفعل معين، وفي أحيان أخرى قد يفشل التحكم الانتباهي في المحافظة على هدف معين عند وجود الكثير من المشتتات. وفي حالة الذاكرة، فإن ذلك قد يتسبب بالتخريف confabulation؛ ففي حالة استرجاع الشخص للذكريات، تستولي بعض الترابطات غير الملائمة على عملية الاستذكار، والتي قد ينتج عنها ذكريات خاطئة تمامًا.

وسيط الأحداث


واجَه النموذج الأول للذاكرة العاملة -والذي ينص على أن الذاكرة العاملة لها ثلاثة مكونات- بعض التحديات، وذلك فيما يتعلق بالطريقة التي يمكن فيها أن تتعامل الأنظمة المختلفة معًا، وبالتحديد كيف يمكن لهذه المكونات أن تتواصل مع الذاكرة طويلة المدى. من أجل حل هذه المشكلة، اقترح بادلي (2000) مكونًا رابعًا، وسيطَ الأحداث episodic buffer، والذي يفترض أنه مخزن مؤقت ذو سعة محدودة، وقادر على الجمع بين أبعاد تخزينية مختلفة، مما يتيح لها أن تجمع المعلومات من الإدراك، ومن النظامين الفرعيين الإبصاريّ المكانيّ واللفظيّ، ومن الذاكرة طويلة المدى.
 

كما افترض العلماء أنها ستقوم بتلك الوظائف عن طريق عرض تلك المعلومات في "أحداث" أو "خَزونات" (معلومات يمكن اختزانها) عديدة الأبعاد، والتي افترضوا أنها متاحة للوعي الواعي conscious awareness. تُعتبر القابلية على ربط العديد من القنوات الحسية المنفصلة والموجودة في إدراكنا للأجسام المتكاملة وظيفةً مهمة للوعي. وأما بحثنا في وظيفة الربط هذه خلال السنوات الأخيرة فقد قادنا لتعديل نموذج بادلي (2000) والذي يتوقع أن إتلاف المتحكم المركزي سيتعارض مع عمليات الربط.
 

وقد تبين أن الأمر ليس كذلك، مما قادنا إلى الاقتراح بأن وسيط الأحداث يجب أن يُعتبر مخزنًا لافاعلًا (خاملًا، passive) وأن عمليات الربط لا تعتمد بشكل حاسم على التحكم التنفيذي. وفي هذا المجال، يختلف النموذج الحالي عن الاقتراح الذي قدمه بارز Baars 1997 (وهو أن الوعي يعمل وكأنه مسرح يقوم الممثلون بأداء أدوارهم عليه) واستُبدل به مفهوم آخر يشابه في وظيفته وظيفة الشاشة التي تظهر عليها نتائج عمليات الربط التي تحدث في مكان آخر، كما يمكن استخدام هذه النتائج بواسطة المنفذ المركزي. من أجل الحصول على مفهوم قريب، انظر فكرة بوتر Potter 1993 حول الذاكرة المفاهيمية قصيرة الأمد.

هناك أيضًا وجهة نظر أخرى للذاكرة العاملة يقدمها كوان Cowan والذي يفترض نظام انتباه يمتلك سعة مقدراها أربعة خزونات (معلومات مختزنة)، وهي ميزة اعتبرها مركزية للذاكرة العاملة. أما لو أردنا أن نبعد قليلًا عن التركيز على المركز، فإن التخزين قصير الأمد يفترض أنه يعتمد على الذاكرة طويلة الأمد المفعلة. أما نموذج كوان فيمكن النظر إليه على أنه طريقة لتحديد التفاعل بين المنفذ المركزي وبين وسيط الأحداث. وأما تأكيد كوان على أن الذاكرة العاملة هي تفعيل للذاكرة طويلة الأمد قد يبدو وكأنه يطرح نقيضًا واضحًا للنموذج متعدد المكونات. ولكن الفرق المقترح بينهما أكثرُ وضوحًا من الفرق في الواقع. يفترض كلا النموذجين أن التفاعل مع الذاكرة طويلة الأمد يلعب دورًا هامًا، حيث يفترض النموذج متعدد المكونات أن الروابط بينهما (الذاكرة طويلة الأمد والذاكرة العاملة) تعمل على مستويات عدة بطرق لا يستطيع المصطلح البسيط "التفعيل" الإحاطة بها وشرحها.

وفي نفس الوقت، فقد أثار عمل كوان بعض المسائل المهمة، والتي لم تزل عالقة، ومنها


  1.  قابلية التركيب modularity: هل يمكن الاعتماد على الانفصال الموجود بين الذاكرة العاملة الإبصارية المكانية والذاكرة العاملة اللفظية بناء على مبدأ أكثر عمومًا، وهو مبدأ "التداخل المبني على التشابه"[1] الموجود في الذاكرة طويلة المدى المفعلة؟
     
  2. السعة: هل يستخدم كل من التخزين ومعالجة المعلومات سعة واحدة محدودة، كما يقترح النموذج الأولي لبادلي وهيتش، أم أنهما منفصلان، كما يقترح نموذج وسيط الأحداث؟
     
  3. التلاشي أو التداخل decay or interference: هل تُفقد المعلومات عن طريق التلاشي مع مرور الزمن، أم أنها تُستبدل أو "يكتب فوقها" معلومات أخرى؟


ليست هذه الأسئلة بالجديدة، ولكنها صارت مواضيع تحظى باهتمام من جديد، وذلك بشكل رئيس بسبب أفكار كوان وبرنامجه التجريبي الشامل.


نموذج للذاكرة العاملة
نموذج للذاكرة العاملة


 الفروقات الفردية في الذاكرة العاملة


كان دينمان Daneman وكاربينتر Carpenter 1980 مهتمَّين بدور الذاكرة العاملة في القدرة على الفهم comprehension، وقاما بتطوير مهمة تشتمل على كل من فهم الجمل وتذكر نهاياتها في ذات الوقت، وهو ما أطلقا عليه اسم "سعة الذاكرة العاملة" working memory span. وجد هذان الباحثان علاقة قوية بشكل مميز بين أداء المتطوعين من طلاب الكليات في هذه المهمة وبين مقياس فهمهم للقراءة.
 

وقد تمّت اعادة إنتاج نتائج التجربة نفسها مرات عديدة، وقد ظهر أنه يمكن تعميمها على أنواع متعددة من المهام التي تجمع بين التخزين المؤقت وبين المعالجة للمعلومات. بعض هذه المهام معقد جدًا، فعلى سبيل المثال هناك مهمة تذكر الكلمات المحصورة بين عمليات حسابية، ولكن حتى المهام التي تضمنت عمليات بسيطة جدًا قد تكون متعلقة ببعض المقاييس كالتحصيل الدراسي، وذلك إذا ما جمعت هذه المهام بين الذاكرة وبين المعالجة السريعة.
 

كما أن هناك ترابطًا وثيقًا جدًا بين المهام من هذا النوع وبين أداء الفردُ اختباراتِ الذكاء الاعتيادية المبنية على القدرة على التفكير المنطقي. أدى كل ذلك بعدد من العلماء إلى البحث عن "المقدرة الحاسمة" التي تسمح لهذه المهام البسيطة ظاهريًا بأن تكون مؤشرة للتنبؤ بمدًى واسع من المهارات المعرفية. ثمة تلخيص للوضع العلمي الحالي فيما يخص هذا الموضوع في كتاب قام بتحريره كونواي Conway 2008.

على الأرجح أن المحاولة الأكثر ثباتًا لحل هذه المعضلة التي تتعلق بسبب كون سعة الذاكرة العاملة مؤشرًا للتنبؤ بالعديد من المهام المعرفية قد أتت من إينجل Engle وزملائه، والذين أثبتوا أن المقدرة على التنبؤ بالقدرة المعرفية ليست محدودة بمهام الذاكرة، ولكن يمكن إيجادها أيضًا في عدة صيغ paradigms للتحكم الانتباهي، كتلك الصيغة المتعلقة بالمهمة المانعة للرمش antisaccade-task (انظر كين وآخرين Kane et al. 2008).
 

تتضمن هذه المهمة على أن يقوم المشاركون بتحريك عيونهم من نقطة التركيز إلى هدف معين بأقصى سرعة في وَسعهم. يمكن أن يُحَسَّن الأداء عن طريق وجود ضوء تنبيهي طرفي يضيء في النقطة التي سيظهر فيها الهدف، حيث إن هنالك نزعة قوية للعين لأن تتحرك بشكل تلقائي إلى محفز جديد. ولكن، وفي حالة أخرى، وبدلًا من أن يكون التنبيه مباشرًا إلى مكان ظهور الهدف، يقوم الضوء التنبيهي بتوجيه المشاركين إلى أن يحركوا عيونهم إلى الاتجاه المعاكس.


تزودنا المعلومات المستقاة من هذه التجربة بمعلومات مفيدة عن المشاركين ذوي الذاكرة العاملة ذات السعة الكبيرة، وليس عن أولئك ذوي الذاكرة العاملة ذات السعة الصغيرة. بناء على هذه النتائج ونتائج أخرى يقترح إينجل وزملاؤه أن "الصفة الحاسمة" في الذاكرة العاملة هي القدرة على الحفاظ على الانتباه في مقابل التشتيت الموجود، سواء كان هذا التشتيت يدركه الشخص أو آتيًا من مصادر أخرى كالذكريات السابقة.

على الرغم من ذلك، وبينما يقدم إينجل حجة قوية لوجود علاقة بين قدرة الذاكرة العاملة وبين القابلية على تثبيط المحفزات المشتتة، إلا أنه ليس من الواضح إذا ما كانت هذه هي الصفة الوحيدة التي تميز قدرة الذاكرة العاملة؛ فهي ربما تكون مجرد مثال واحد على عدد من وظائف نظام تحكم أكثر عمومًا، وعديد الأوجه. أضف إلى ذلك أن مصطلح التثبيط نفسَه قابل للعديد من التأويلات سواء على المستوى السيكولوجي أو المستوى الفيزيولوجي.

لا يعني عدم فهمِنا الكاملِ لكيفية عمل هذه الوظائف المعقدة الخاصة بقدرة الذاكرة العاملة أنه لا يمكن أن نستخدمها بشكل يعود بالفائدة؛ فقد استخدمت سوزان غاثيركولي Susan Gathercole وزملاؤها النموذجَ متعدد المكونات للذاكرة العاملة لتطوير بطاريةِ ذاكرةٍ عاملة مناسبة للأطفال في سن المدرسة، وذلك باستخدام مهام معقدة لسعة الذاكرة العاملة كمقياس لقدرة المنفذ المركزي، وكذلك مهام أخرى لتقييم النظامين الفرعيين: الصوتي والإبصاري المكاني.

يقدم التحليل بالعوامل Factor Analysis دعمًا للنموذج متعدد المكونات، وقد أظهر أن تركيبة نظام الذاكرة العاملة يبقى ثابتًا بشكل ملفت خلال تطور الأطفال. ومع أن قدرتها تزداد مع ازدياد العمر، إلا أن هناك تغيرات تطورية واضحة في الطريقة التي تُستخدم بها الذاكرة العاملة؛ فعلى سبيل المثال، فإن التقدم التطوري الذي بواسطته يسيطر الطفل على عمليات ذهنية متزايدة في التعقيد يربطه البعض مع نمو في قدرة المنفذ المركزي. كما أن هناك تغييرات تطورية معتدة في الأنظمة الفرعية في الذاكرة العاملة، وأوضحُ هذه التغييرات المعروفة هو التوسع الحاصل في العمليات التي تقوم بها الحلقة الصوتية، بدءًا من تطوير قدرة على الكلام الذاتي واستراتيجيات التكرار rehearsal في الأطفال، إلى تضمين جوانب أكثر من التحكم التنفيذي لدى البالغين.

تستطيع بطارية الاختبار الخاصة بغاثيركولي أن تميز الأطفال المعرضين لمواجهة الصعوبات التعليمية، وذلك بوجود أنماط مختلفة من نقائص الذاكرة العاملة، والمتعلقة بمشاكل في مجالات مختلفة من المواضيع. كما أظهرت المراقبة الجيدة للأطفال في المدرسة أن الأطفال الذين يملكون مهارات ضعيفة للذاكرة العاملة يزيد لديهم احتمال المعاناة بسبب صعوبة في اتباع التعليمات التي يمليها الأساتذة، والتي قد تكون أحيانًا، وبشكل مفاجئ، صعبة.
 

كما أن لديهم مشكلة في التلاؤم coping مع العديد من التقنيات والاستراتيجيات المصممة لمساعدة الأطفال على التلاؤم، وذلك لأن هذه التقنيات غالبًا ما تحتاج إلى سعة إضافية للذاكرة العاملة. هؤلاء الأطفال يشابهون بذلك الأطفال المصنفين على أنهم يعانون من "نقص الانتباه" (والذي هو أحد مكونات متلازمة نقص الانتباه مع فرط النشاط ADHD. تم تطوير برنامج يساعد المعلمين على التعرف على هؤلاء الأطفال، كما أنه يحسن من طرق التعليم. (غاثيركولي وأللواي Gathercole & Alloway, 2008).

المكونات العصبية الأساسية للذاكرة العاملة


قام العلماء بعدد وفير من البحوث في هذا الموضوع، بدءًا من دراسة المرضى ذوي الأذيّات الموضعية، ومن ثم استخدموا طرق التصوير العصبية المختلفة. بشكل عام، تنسجم النتائج مع نموذج المكونات الثلاثة، بحيث تكون فيه الحلقة الصوتية متمثلة في نصف الكرة الأيسر من المخ، وذلك حيث يكون التخزين مرتبطًا بمنطقة في المُتَّصَل الصدغي الجداري temoroparietal junction، ويرتبط التكرار rehearsal فيه بباحة برودمان 44 الموجودة أمام المتصل الصدغي الجداري، والمعروفة بدورها في إنشاء الكلام.
 

كما يظهر أن دفتر التخطيط الإبصاري المكاني يشتمل على عدد من المناطق من نصف الكرة المخية الأيمن بشكل رئيس، واحدة منها منطقة بصرية، ويفترض أنها تمثل معالجة الأشياء والاحتفاظ بها وبخصائصها البصرية، وهناك منطقة ثانية موجودة في الجانب الجداري، ويفترض ﻷنها تتشكل على جوانب فراغية (مكانية)، كما أن هناك منطقتين جبهيتين أخريين ترتبطان مع وظائف تحكمية.
 

هناك قبول عام بأن الفصين الجداريين يلعبان دورًا مهمًا في التحكم التنفيذي، مع أن الآراء تتضارب حول المدى الذي يمكن أن تكون فيه الوظائف التنفيذية المختلفة متموضعة بشكل منفصل عن بعضها البعض. لا يزال هناك القليل من الأدلة التي تدعم تموضع وسيط الأحداث، والذي يبدو أنه يمثل نظامًا واسع الانتشار، والذي يحتمل أنه لن يظهر تفعيلًا في منطقة محددة معينة.


ملاحظات


[1] التداخل المبني على التشابه: هو مقدار تداخل المعلومات المدخلة بناءً على التشابه بينها، فيزداد التداخل بازدياد التشابه.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات