وأخيراً، قد يكون الباحثون الذين يدرسون سلوك الجسيمات غير المشحونة والمسماة بالنيوترينوات (جمع نيوترينو) neutrinos قد وجدوا حلاً للغز الذي حيَّر علماء الفيزياء على مدار العقود.
و تفسر نتائج التجربة التي أجريت في اليابان، المسماة T2K، سبب عدم وجود كميات متساوية من المادة (matter) والمادة المضادة (antimatter) عند ولادة الكون، مما أدى إلى اختلال واضح نستطيع ملاحظته حتى في يومنا هذا.
ووفقاً للقواعد التي وضعها النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات (standard model) ونظرية آينشتاين في النسبية العامة (general relativity)، فإن الانفجار العظيم (Big Bang) قد أنتج كميات متماثلة من المادة والمادة المضادة.
ولكن بسبب إفناء كل من المادة والمادة المضادة لبعضهما البعض عند التقائهما، مما لا يخلف شيئاً وراءهما سوى الطاقة، فإن هذا فعلياً لا يمكن أن يحدث، لأن كميات متساوية منهما تعني عدم وجود الكون.
ويُرجع الفيزيائيون عدم التوازن بين المادة والمادة المضادة في الكون المرئي (observable Universe) إلى ما يسمى باللاتناظر الباريوني (baryon asymmetry). ومن هنا تأتي النيوترينوات، التي تُعرف أيضاً بالجسيمات الشبحية (ghost particles). ومن الصعب جداً كشف النيوترينوات لأنها بالكاد تتفاعل مع بقية الكون. وهذا يعني أن التجارب المصممة لقياسها تتطلب معدات حساسة للغاية والكثير من الوقت للرصد.
وبالإضافة إلى النيوترينو يوجد أيضاً نظيره من المادة المضادة- النيوترينو المضاد (antineutrino)- ويأتي كلاهما على ثلاثة أشكال: الإلكترون، والميون (muon)، والتاو (tau).
وفي عام 2013، اكتشف العلماء، الذين شاركوا في مشروع T2K في اليابان، أول دليل على قدرة تغير النيوترينو –أو الاهتزاز- بين هذه الأشكال. وضمت تجربة T2K أكثر من 500 عالِم من كل أنحاء العالم، واستخدمت موقعين منفصلين بطول 300 كم (186 ميل) لمختبراتها التجريبية عبر البلاد وهي: مركز أبحاث مسرع البروتونات الياباني J-Parc ومرصد كاميوكاندي الفائق Super-Kamiokande observatory (الصورة في الأعلى).
حالياً، أثبتت النتائج الأخيرة لتجارب T2K أن 32 نيوترينو من نوع ميون تحولت إلى نيوترينو من نوع الكترون، بينما 4 نيوترينوات فقط من نوع ميون تحولت إلى نظائرها الإلكترونية المضادة. وحتى الآن لم يفهم الفريق المسؤول عن التجربة بالكامل ما الذي يحدث، لكن ذلك النوع من عدم التوازن هو ما يبحث عنه العلماء طوال الوقت، ويمكن أن يقدم دليلاً على خرق ما يُعرف بمبدأ تناظر تكافؤ الشحنة (charge-parity (CP) symmetry).
وأوضحت ليزا غروسمان Lisa Grossman من مجلة New Scientist أن مبدأ تناظر تكافؤ الشحنة هي الفكرة التي ستبقى دون تغيير أساسي في الفيزياء بحيث إذا قمنا بتبديل جميع الجسيمات بالجسيمات المضادة الخاصة بها. وهذا يعني أنه يجب أن تكون هناك كميات متماثلة من المادة والمادة المضادة عند نشوء الكون -الأمر الذي سندرك عدم وجوده منذ وجدنا !. ولذلك فإن أي شيء يدل على الانحراف عن مبدأ تناظر تكافؤ الشحنة، مثل عدم توازن النيوترينوات الذي رصدته تجربة T2K، سيكون ذو أهمية في مساعدتنا في تفسير هذا التناقض.
وأخبرتنا الفيزيائية باتريشيا فال Patricia Vahle العاملة في تجربة نوفا NOvA الأمريكية والمشاركة في تجربة T2K جروسمان قائلة: "نعلم أنه من أجل إيجاد المزيد من المادة مقابل المادة المضادة في الكون، علينا انتهاك مبدأ تناظر تكافؤ الشحنة".
وقبل أن نصبح متحمسين جداً، فمن الجدير بالذكر أن اختبارات T2K وصلت فقط إلى مستوى سيغما الثاني من أصل ستة مستويات. وتُستخدم هذه المستويات للتحقق والتأكد من هذه الاكتشافات في فيزياء الجسيمات، ونتائجها لا تعتبر مؤكدة إلى أن تصل إلى المستوى الخامس، ولذا فإن الأمر مبكر جداً، لكن تُشير البيانات الأولية إلى أن هذه الدراسة الجديدة تتناسب بشكل جيد مع الاكتشافات التي تمت قبل ثلاث سنوات.
ومن المقرر إجراء تجارب إضافية على النيوترينو في العام المقبل، وتخطط هذه الفرق بالمشاركة لجمع المزيد من البيانات لتأكيد فرضياتهم. وحتى ذلك الحين لن نعرف كيف ستفسر كل من النيوترينوات والنيوترينوات المضادة مسألة اللاتناظر الباريوني، لكننا سنعرف أين يجب علينا تركيز أبحاثنا.