يمكنك الاستماع إلى المقال عوضاً عن القراءة
بيض سفينة نوح والنباتات الولودة

يتصور عالم الفيزياء المشهور فريمان دايسون مستقبلًا حيث تفسح الإمكانيات التي تقدمها البيولوجيا الجزيئية من تحديد تسلسل الحمض النووي وتركيبه مجالًا لتصميم بيضة ينبثق منها محيط حيوي كامل، وأول ما يخرج من تلك البيضة نباتات دافئة الدم مصممة لجمع الطاقة من ضوء الشمس لأجل تقديم دفء ومأوى تتمتع بهما مخلوقات أخرى. حقوق الصورة: Ron Miller / Black Cat Studios

عادةً ما يجري تصوير الكون في قصص الخيال العلمي التي تتحدث عن السفن النجمية، على أنه مجموعةٌ من النجوم والأنظمة الكوكبية المفصولة عن بعضها بمساحاتٍ شاسعةٍ من الفضاء الفارغ. يجري تخيل الفضاء بين النجوم على أنه مملوءٌ بغازاتٍ بينجمية خفيفةٍ ولا شيء سواها، ولكن الكون الحقيقي أكثر إثارةً من ذلك بكثير.

يحتوي الكون الحقيقي على أجسامٍ شتى ذات أحجام متنوعةٍ، الأمر الذي يقدم إلى المسافرين البينجميين أماكن يتوقفون فيها ويزورون الأصدقاء ويجمعون مؤنًا طازجةً بين النجوم. لا نعلم شيئًا عن هذه الأجسام تقريبًا إلا حقيقة وجودها. نعلم أن هناك مجموعتين من المذنبات في الفضاء المحيط بنظامنا الكوكبي تُعرَفان بحزام كايبر (Kuiper Belt) وسحابة أورت (Oort Cloud).

حزام كايبر مصدر المذنبات ذات المدار القصير وسحابة أورت مصدر المذنبات ذات المدار الطويل. نعلم أنهما موجودان لأن المذنبات التي نراها مقتربةً من الشمس تتفتت ولا تستطيع البقاء لوقتٍ طويلٍ، فالذيل الذي يجعل المذنب جميلًا هو بمثابة إثباتٍ لفنائيته وزخات الشهب هي الحطام الذي يميّز قبور المذنبات المحتضرة. لا يمكن أن يستمر ظهور مذنباتٍ جديدةٍ بالوتيرة المرصودة إلا في حال وُجِدت تجمعاتٌ منبعيةٌ كبيرةٌ تتضمن مليارات المذنبات من النوعين كلاهما. يمكن رصد بعض الأجسام الأكبر والأقرب في تجمع حزام كايبر مباشرةً وهي تدور حول الشمس في مداراتٍ ترتكز حول مستوى الكواكب، ويُعتبَر بلوتو أشهرها وأكثرها سطوعًا. أما سحابة أورت فلا تمكن رؤيتها من الأرض، وهي تجمعٌ كروي الشكل يتألف من أجسام تقع على مسافاتٍ أعظم بكثيرٍ عن الشمس وترتبط بالشمس بشكلٍ خفيفٍ بفعل قوى جاذبية ضعيفةٍ.

لا يوجد سببٌ لنعتقد أن الفضاء بين سحابة أورت والنجوم الأقرب فارغٌ، فنحن نعلم أن جزءًا كبيرًا من جميع النجوم تُولَد مع أنظمةٍ كوكبيةٍ. من المحتمل أيضًا أن عددًا كبيرًا من الكواكب تولد وهي غير مرتبطةٍ بنجومٍ، وعلاوةً على ذلك نحن نعلم أن العمليات العادية لتشكل وتطور الأنظمة الكوكبية تؤدي إلى طرد كواكب ومذنبات من الأنظمة، فنتيجةً لهذه العمليات يحتمل أن عدد الكواكب غير المرتبطة التي يحتوي عليها الكون يتجاوز عدد النجوم، وأن عدد المذنّبات يتجاوز ذلك بمليارات المرات. من الجائز أن الفضاء الواقع بين نظامنا الشمسي والنجوم الأقرب يزدحم بالكواكب غير المرتبطة وعددٍ أكبر بكثير من المذنّبات غير المرتبطة، وإضافةً إلى ذلك قد تتواجد أجسامٌ أخرى من أنواعٍ متوسطةٍ لم نرصدها بعد، من الكرات الثلجية إلى النجوم القزمة السوداء. يمكن تصور أن بعض الأجسام المتوسطة حيةٌ وأنها تشكل تجمعًا من الوحوش الأسطورية القاطنة في الفضاء.

يرجح أن وجود محطات عبورٍ وافرةٍ بين النجوم سيؤثر بصورةٍ حاسمةٍ على تطوير السفن النجمية. لن نقفز في خطوةٍ ضخمةٍ واحدةٍ من الرحلات الكوكبية إلى الرحلات البينجمية، وإنما سنستكشف مجموعةً واحدةً من الأجسام تلو الأخرى ابتداءً بحزام كايبر ومن ثم سحابة أورت وبعد ذلك سلسلة من الواحات الأكثر بعدًا في صحراء الفضاء قبل أن نصل أخيرًا إلى القنطور الأقرب (Proxima Centauri).

شهد تاريخ الإنسانية على هذا الكوكب نوعين مختلفين جدًا من المستكشفين الذين تعلموا كيفية ملاحة المحيطات. أحدهما الملاحون الأوروبيون الذين أبحروا من قواعد ثابتةٍ في أوروبا ليصلوا وجهاتٍ في أمريكا وآسيا ثم عادوا إلى أوروبا مع غنائم من تجارتهم وفتوحاتهم، ويُعتبَر كولومبوس مثالًا نموذجيًا عن هؤلاء المستكشفين إذ قام بثلاث رحلات ذهاب وإياب عبر المحيط الأطلسي. ولكن قبل الأوروبيين جاء ملاحون بولينيزيون بنوا زوارق للإبحار عبر مسافاتٍ طويلةٍ على المحيط الهادي وأشادوا جزر المحيط الهادي من آسيا إلى هاواي ونيوزيلندا. لم يمتلك البولينيزيون قواعدَ وطنيةً في آسيا وأمريكا ولم يهمهم الإبحار من أحد طرفي المحيط إلى الآخر، وإنما سافروا في رحلاتهم من جزيرةٍ إلى جزيرةٍ، وتوقفوا لإقامة أوطانٍ جديدةٍ عندما وجدوا جزيرةً جديدةً صالحةً لتربية محاصيلهم وخنازيرهم وأطفالهم.

بدأ البولينيزيون ملاحة المحيط الهادي قبل أن يعبر الأوروبيون المحيط الأطلسي بألف عامٍ. جاء التنقل بين الجزر أولًا والرحلات بين القارات ثانيًا، ويرجح أن مستقبل سفرنا إلى ما بعد النظام الشمسي سيتتبع النمط نفسه. سيتقدم تطور السفن النجمية كما تقدم تطور الزوارق البولينيزية والسفن الشراعية الأوروبية عن طريق عملية التجربة والخطأ. ستشبه المذنّبات والكواكب غير المرتبطة الجزر في المحيط الهادي، وسنبدأ كالملاحين البولينيزيين، بالتواضع، فيمكننا عن طريق تطوير السفن النجمية خطوةً بعد خطوةً أن نتعلم عن طريق التجربة والخطأ كيف نقوم بالعمل على نحوٍ صحيحٍ. ربما، بعد ألف عامٍ، سنصبح جاهزين لنبني طرقًا سريعةً عظيمةً تنقل السيرَ عبر مسالك لا تتوقف وتذهب من نجمٍ إلى نجمٍ.

يتطلب تطوير السفن النجمية أمرين: مكانًا نقصده وسبيلًا للوصول إليه. المشكلة الأولى مشكلة بيولوجيا في المقام الأول والمشكلة الثانية مشكلة هندسة. لنتحدث أولًا عن البيولوجيا: أول ما يجب أن نتعلمه ليكون لدينا مكانٌ نقصده هو كيفية القيام بتنمية نظمٍ بيئيةٍ كاملةٍ في أماكن نائيةٍ من الكون. لا يكفي أن نمتلك فنادق للبشر، يجب أن نؤسس مجتمعاتٍ إيكولوجيةً دائمةً تشمل الميكروبات والنباتات والحيوانات وكلها معدلةٌ للبقاء في البيئة المحلية، ولا بدّ من إقامة توازنٍ بين مجموعاتٍ الأنواع المختلفة لتلبي احتياجات بعضها بالإضافة إلى احتياجاتنا. ليس الاستيطان البشري البعيد عن الأرض منطقيًا إلا إذا شكّل جزءًا من مشروعٍ أكبر وهو التوسع الدائم للحياة ككلٍّ. تتمثل الطريقة الأفضل لبناء المساكن البشرية في تحضير الأرض عن طريق بناء نظمٍ بيئيةٍ محليةٍ متينةٍ. بعد أن تتأسّس الحياة نفسها بالأعشاب والأشجار، والحيوانات العاشبة واللاحمة، والجراثيم والفيروسات، سيتسنى للبشر الوصول وبناء أوطانهم في بيئةٍ صديقةٍ. لا يوجد مستقبلٌ للبشر في التسكع في بدلات فضاء خرقاء حول مناطق خاليةٍ من الحياة تتألف من الغبار والثلج.

وفرت لنا الثورة الأخيرة في البيولوجيا الجزيئية (molecular biology) أدواتٍ جديدةً لزرع بذور الحياة في الكون. تعلمنا كيفية القراءة والكتابة في لغة الجينوم أي كيفية تحديد تسلسل الحمض النووي الذي يخبر البيضة المجهرية كيف تنمو لتصبح دجاجةً أو إنسانًا وكيفية تركيب الحمض النووي الذي يخبر الميكروب كيف يبقى على قيد الحياة. لقد حددنا الجينومات لعدة آلاف نوعٍ، تزداد سرعة تحديد وتركيب الجينومات ازديادًا سريعًا وتنخفض التكاليف بسرعةٍ مماثلةٍ، وإذا استمر الازدياد في السرعة والانخفاض في التكلفة لن يمر أكثر من عشرين عامًا قبل أن ننتهي من تحديد جينومات جميع الأنواع الموجودة على كوكبنا. ستتوفر لاستخدامنا المعلومات الجينية التي تصف كامل المحيط الحيوي للكوكب، والكمية الإجمالية لهذه المعلومات صغيرة بشكلٍ لافتٍ. عندما تُقاس كمية المعلومات التي يتضمنها جينوم المحيط الحيوي بالوحدات المعتمدة في مجال هندسة الحواسيب تبلغ نحو بيتابايت واحد أو 10 أس 16 بت، وكمية المعلومات هذه أصغر بكثيرٍ مما توجد في قواعد البيانات التي تستخدمها مشاريع مثل جوجل. يمكن تضمين جينوم المحيط الحيوي في ميكروغرام من الحمض النووي تقريبًا أو غرفةٍ صغيرةٍ ممتلئةٍ بأقراص الذاكرة الحاسوبية.

بعد 50 أو 100 عام سنتعلم أساسيات استعمال المعلومات الجينية بشكلٍ إبداعيٍّ، وعندئذٍ سيُفسَح المجال لنا لتصميم تجمعاتٍ حيويةٍ معدلةٍ للبقاء والازدهار في بيئاتٍ متنوعةٍ على كواكبَ وأقمارٍ وكويكباتٍ ومذنباتٍ متنوعةٍ. يمكننا تصميم جينوم محيط حيوي (biosphere) لكلّ موقعٍ ولكل جينوم محيطٌ حيويٌّ يمكننا تصميم بيضةٍ ينبثق منها المحيط الحيوي. يمكن أن تزن البيضة عدة كيلوغراماتٍ وتبدو من الخارج كبيضة النَّعَامة، وستشكل نسخةً مصغرةً عن سفينة نوح إذ ستحتوي الآلاف أو الملايين من البيض المجهري المبرمج للتحول إلى الأنواع المتنوعة التي يتألف منها محيطٌ حيويٌّ. كذلك ستحتوي عناصر غذائية ووسائل لدعم الحياة فتفسح مجالًا لبداية نمو المحيط الحيوي. أول الأنواع التي تخرج من بيض سفينة نوح هي نباتاتٌ دافئة الدم مصممةٌ لجمع الطاقة من ضوء الشمس والحفاظ على دفئها في بيئةٍ باردةٍ. بعد ذلك ستقدم النباتات دافئة الدم دفئًا ومأوىً تتمتع بهما المخلوقات الأخرى، وبهذه الطريقة يمكن زرع الحياة بوَفْرَةٍ وتنوعٍ عظيمَين في أماكن شتى عن طريق السفر على مركباتٍ فضائيةٍ صغيرةٍ تحمل حمولاتٍ يبلغ وزنها عدة كيلوغرامات. بما أن الحياة بطبيعتها ظاهرةٌ متقلبةٌ ستفشل العديد من المحيطات الحيوية وتموت. أما تلك التي تبقى على قيد الحياة فستتطور بطرقٍ لا يمكن التنبؤ بها، وسيستمر تطورها إلى الأبد مع التدخل البشري أو من دونه. بذلك سنصبح القابلات المشرفات على ولادة الحياة في جميع أنحاء الكون، على أبعد المسافات التي يمكن أن يقطعها بيض سفينة نوح الخاصة بنا.

أما المشكلة الثانية أي مشكلة الهندسة فتكمن في بناء آلاتٍ قادرةٍ على حملنا من هنا إلى هناك. إذا أردنا السفر الفضائي عبر مسافاتٍ طويلةٍ بأسعارٍ معقولةٍ يجب أن نبني شبكة طرقٍ عامةً لأجل تقاسم تكاليف الاستثمار الأولي بين مستخدمين عدةٍ. ستحتاج شبكة طرقٍ عامة في الفضاء إلى محطاتٍ تستعمل ضوء الشمس وضوء النجوم لتوليد أشعة عالية الطاقة يمكن للمركبات الفضائية التحليق عبرها. ويمكن أن تكون الأشعة أشعةً ليزريةً أو أشعةً من الموجات الصغرية أو تياراتٍ من الحُبَيبات. تبقى الأجهزة الضخمة المولدة للطاقة والموجودة في المحطات مثبتةً في مكانها. أما المركبات الفضائية فتتسم بالصغر والخفة وتتلقى طاقتها من الأشعة أثناء التحليق، وعلى خلاف الصواريخ الكيميائية أو النووية لا تحمل وقودها معها. لا يمكن أن يعمل النظام بشكلٍ فعالٍ من دون أن يبلغ السير حجمًا كافيًا ليستهلك طاقة الأشعة، فيجب أن تحلّق مركبات فضائية على الأشعة في جميع الأوقات تقريبًا. وكما هي الحال لدى جميع أنظمة الطرق العامة لا يمكن للنظام أن ينمو إلا بسرعة نمو حجم السير. ستكون تكلفة السفر في البداية مرتفعة وستنخفض عندما تزدحم كلّ محطةٍ بركابٍ ينتظرون عملية إطلاق.

تسير الأمور على نحوٍ أفضل في كلّ نظامٍ للنقل العام عندما نبني مركباتٍ منفصلةً للركاب والشحن، فعلى الطرق الأرضية تختص السيارات بالركاب والشاحنات بالشحن، وعلى السكك الحديدية هناك قطاراتٌ قصيرةٌ سريعةٌ للركاب وقطاراتٌ بطيئةٌ طويلة للشحن. وقد صُمّم المكوك الفضائي (Space Shuttle) كنظامٍ لوضع الركاب والشحن في ذات المركبة وكان هذا سببًا من أسباب فشله. كان من المفترض أن يتسم بالرخص والأمان والموثوقية ويقوم برحلاتٍ معتادةٍ، ويحقق قدرًا كبيرًا من الحركة المرورية، ولكن تبين أنه غالي الثمن وغير آمن وغير جديرٍ بالثقة.

ستشبه شبكات الطرق العامة المستقبلية الطرق والسكك الحديدية ولن تشبه المكوك. إلا إن العلاقة بين الركاب والشحن في المستقبل ستختلف عمّا كانت عليه في الماضي إذ اعتُبِر البشر صغيرين وخفيفين في الماضي واعتُبِر الشحن كبيرًا وثقيلًا، كما اتسمت السيارات بالصغر وخفة الحركة واتسمت الشاحنات بالكبر والبطء. انقلبت هذه العلاقة بين الركاب البشر والشحن بالفعل في الفضاء اليوم، فأصبحت المركبات الفضائية غير المأهولة أصغر وأخف من المركبات الفضائية المأهولة بسبب تصغير الأجهزة ونظم الاتصال، وظلت حمولات البعثات غير المأهولة ثابتةً تقريبًا في حين تحسن أداؤها وقدراتها بسرعةٍ فائقةٍ. أما حمولات البعثات المأهولة فظلت أكبر في حين فشل السياسيون في إقرار ما يُفترَض أن تقوم به.

مستقبلًا، عندما تذهب البعثات إلى ما بعد النظام الشمسي، سيصبح الفرق بين الركاب والشحن أكبر. لن تكون الحمولة مواد سائبةً كالوقود والماء، وإنما ستتألف من معلوماتٍ مضمونةٍ في ذاكرةٍ حاسوبيةٍ فائقة الخفة أو حوامض نوويةٍ، فسيصبح الشحن أخف من الركاب البشر ببضع قيمٍ أسيّةٍ. يمكننا وزن البعثات غير المأهولة بالغرامات بينما ستزن حمولات البعثات المأهولة بالأطنان دائمًا، وبالتالي سينقسم نظام الطرق العامة إلى جزئين، أولهما نظامٌ ثقيلٌ ينقل الركاب البشر بين عددٍ صغير من المساكن البشرية الحضرية، وثانيهما نظام شحنٍ خفيفٌ ينقل حزمًا من المعلومات عبر شبكة مسالك أوسع تؤدي إلى وجهاتٍ أبعد. قد تشبه بعثات الشحن الخفيفة النموذجية مركبة ستارويسب (Starwisp) التي اقترحها بوب فوروارد.

ستارويسب هو شراعٌ فائق الخفة مصنوعٌ من شبكةٍ سلكيةٍ دقيقةٍ يدفعه عبر الفضاء شعاعٌ عالي الدقة من الموجات الصغرية. الشبكةُ السلكيةُ ليست عبارةً عن مركبةٍ فقط وإنما تحوي حمولةً أيضًا كما أنها تحمل أجهزة استشعارٍ لاستكشاف البيئة وأجهزة إرسالٍ لنقل المعلومات التي تجمعها أجهزة الاستشعار إلى البشر البعيدين. كذلك يمكن أن يشكل ستارويسب مركبةً لحمل بيض سفينة نوح ونقل الحياة إلى أماكن نائيةٍ. يُرجَّح أن مدة سفر الرحلات ستصبح أطول من فترة حياة الانسان، وبعد أن تنتشر الحياة إلى هذا البعد لن يعود من المنطقي أن يسافر البشر معها، فبدلًا من سجن مسافرين بشر لمدى حياتهم في مركبةٍ فضائيةٍ سيكون من المفيد أكثر أن نحمّل المركبة الفضائية بعدة بويضاتٍ بشريةٍ تتحول إلى بشرٍ عند بلوغ الوجهة، وفي نهاية المطاف سنجعل المجرة مأهولة عن طريق بث المعلومات المطلوبة لتربية البشر بدلًا من حمل أجسادٍ بشريةٍ مجمدةٍ لآلاف السنين.

من أهم الحقائق التي يجب تذكرها عندما نتأمل انتشار الحياة في الكون هو أن كل العقار في الكون تقريباً يقع على أجسام صغيرة، ويعني العقار هنا المساحة السطحية. يحتوي الكون أجسامًا من جميع الأحجام. تمتلك الأجسام الكبيرة كالنجوم والكواكب معظم الكتلة والحجم، وتمتلك الأجسام الصغيرة كالكويكبات والمذنبات معظم المساحة. ستضطر معظم أشكال الحياة لإيجاد موطنها على أجسامٍ صغيرةٍ، وتتسم معظم الأجسام الصغيرة بثلاث خصائص تجعلها غير صديقةٍ للحياة وهي: بعدها عن الشمس أو أيّ نجومٍ أخرى، وعدم امتلاكها أغلفة جوية، وبرودتها، ولكن على رغم هذه المساوئ يمكن زرع الحياة فيها، ويمكنها دعم محيطاتٍ حيويةً تتميز بكل ما يمتلكه محيطنا الحيوي من تنوعٍ وجمالٍ.

التقنية المفتاحية لبث الحياة في أجسامٍ باردةٍ صغيرةٍ في الفضاء هي تربية نباتاتٍ دافئة الدم. تلعب النباتات دافئة الدم دورًا في إيكولوجيا الأماكن الباردة، ويُعتبَر أكثر حيويةً من الدور الذي تلعبه الحيوانات دافئة الدم في إيكولوجيا كوكبنا الدافئ. كان من الممكن أن تتطور الحياة على الأرض بأريحيةٍ من دون الطيور والثدييات ولكنه لا يمكن للحياة في الأماكن الباردة أن تنطلق من دون النباتات دافئة الدم. يوجد هيكلان خارجيان يجعلان النباتات دافئة الدم ممكنةً وهما البيوت الزجاجية والمرايا. يشكّل البيت الزجاجي قوقعةً عازلةً تحمي الداخل الدافئ من البرودة في الخارج كما تمتلك نافذةً شبه شفافةٍ تسمح بدخول ضوء الشمس أو النجوم وتمنع خروج الإشعاع الحراري. المرآة عاكسٌ ضوئيٌّ أو نظامٌ من العواكس في المنطقة الباردة خارج البيت الزجاجي يركّز الضوء الشمسي أو النجمي من مسافةٍ واسعةٍ وتسلطه على النافذة، وداخل البيت الزجاجي نجد الهياكل العادية لنباتٍ أرضيٍّ من أوراقٍ تستعمل طاقة ما يدخل من ضوءٍ لعملية التركيب الضوئي (photosynthesis) وجذورٍ تمتد في الأرض الثلجية باحثةً عن المعادن المغذية. بما أنه لا يوجد غلاف جوي لتزويد النبات بثنائي أكسيد الكربون يجب على الجذور إيجاد مصادر معدنيةٍ للكربون والأوكسجين من أجل البقاء على قيد الحياة. نرى في الضوء، الذي ينبعث من المذنبات أثناء اقترابها من الشمس، أن هذه الأجسام الثلجية تحتوي على المزيد من الكربون والأوكسجين بالإضافة إلى النيتروجين وعناصر أخرى ضرورية للحياة.

يجب على النبات دافئ الدم الجنيني أن ينمّي البيت الزجاجي والمرآة في محيطه بينما لا يزال محميًا داخل البيت الزجاجي لوالده. يجب أن تتحول البذور إلى نباتات سليمة قبل نثرها في البيئة الباردة، فإضافة إلى أنه يجب امتلاك هذه النباتات دافئة الدم القدرة على الولادة. يبدو أنه من صُدَف التطور على كوكبنا أن الحيوانات تعلمت مزايا الولادة ودفء الدم بينما النباتات لم تفعل ذلك.

سيعتمد التركيز الضوئي، الذي يجب أن تقدمه المرآة، على مسافة النبات عن الشمس أو النجم الذي يوفر الطاقة، فبصورةٍ إجماليةٍ يمكن القول بأنه يجب زيادة التركيز الضوئي بشكلٍ يتناسب مع مربع البعد عن المصدر. على سبيل المثال، إذا وُجدت النبات على سطح أنسيلادوس، وهو أحد أقمار زحل يبلغ بُعده عن الشمس 10 أضعاف بُعد الأرض، ستبلغ شدة ضوء الشمس جزءًا في مئة من شدته على الأرض مما سيتطلب تركيز الضوء بمعاملٍ قدره مئة. إذا وُجدت النبات في حزام كويبر على بعد مئة ضعف مسافة الأرض عن الشمس سينخفض ضوء الشمس بمعاملٍ قدره 10000 وهذا سيتطلب تركيزه بوساطة المرآة بمعامل قدره 10000. يمكن للهياكل البيولوجية الموجودة أن تحقق أداءً أفضل من ذلك بكثير.

ليست العين البشرية من أبلغ الأمثلة على الدقة البصرية ومع ذلك يمكنها تركيز الضوء الوارد في بقعةٍ على الشبكية بمعاملٍ قدره أكبر من مليار، وهذا ما يجعل التحديق في الشمس مضرًا لصحة العين. ستكفي مرآةٌ بدقة العين البشرية للحفاظ على دفء نباتٍ يقع على بعد عشرة أضعاف بعد حزام كويبر عن الشمس. تمتلك النسور والصقور عيونًا أفضل من عيوننا وتلسكوب الهواة البسيط الذي لا يتجاوز سعره 100 دولار أفضل من ذلك. لا يوجد قانونٌ من قوانين الفيزياء يمنع نباتًا دافئ الدم من تنمية مرآةٍ لتركيز كميةٍ كافيةٍ من الضوء النجمي للبقاء على قيد الحياة في أيّ مكانٍ في مجرتنا. وتكمن الصعوبة الرئيسية لتحقيق تركيز عالٍ للضوء النجمي في أنه يجب على المرآة أن تتبع المصدر بدقةٍ أثناء دوران الجسم الذي يحمل النبات، فيجب أن يشبه النبات دوار الشمس الذي يتتبع الشمس أثناء تنقلها عبر السماء. إذا اقتضى الأمر دقةً عاليةً سيتوجب على النبات أن ينمّي عينًا ليرى إلى أين يوجه نفسه.

هذه التخمينات حول النباتات الولودة وبيض سفينة نوح وانتشار الحياة خلال المجرة هي تخيلاتي الشخصية، وليست إلا إحدى الاحتمالات التي قد ينطوي عليها المستقبل. أما المستقبل الحقيقي فلا يمكن التنبؤ به. ستتخلله مفاجئاتٌ عديدةٌ لم نتصورها بعد. كل ما يمكننا قوله ببعض الثقة هو أن التكنولوجيا الحيوية (biotechnology) ستهيمن على المستقبل. ستقع بين أيدينا قوة الطبيعة المهيبة لتطوير تنوعٍ غير محدودٍ من أنماط المعيشة. يبقى لنا أن نختار كيف نستعمل هذه القوة، إما للخير أو للشر.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

اترك تعليقاً () تعليقات