بلازما في كل مكان!

نموذج جديد للغلاف البلازمي Plasmasphere المحيط بكوكبنا.

 

السابع من أيلول/سبتمبر عام 1999 تظهر صورة الأرض من الفضاء كأنها تعوم في فراغٍ أسودَ، لكن ما لا تلتقطه أعيننا أو الكاميرا أن الأرض محاطةً بنظامٍ معقّدٍ من الحقول الكهربائيّة والمغناطيسيّة المتفاعلة فيما بينها والتيّارات الكهربائيّة والأجسام المشحونة وتُسمّى جميعًا بالغلاف المغناطيسيّ magnetosphere.

 

وإذا لم تعوّض الكاميرا عن أشعة الشمس في الفضاء، فسترى النجوم في خلفية الصورة وستبدو الأرض ككرةٍ مضيئةٍ جدًا، لأن النجوم البعيدة ليست بنفس مقدار لمعان الأرض، والصور ذات التعريض المنخفض تُظهر الخلفيّة سوداء.

 

يمثّل الغلاف المغناطيسيّ حاجزًا بين كوكبنا والجسيمات التي يقذفها الإكليل الشمسيّ  corona باستمرارٍ والتي تُسمّى بالرياح الشمسيّة solar wind. تلك الجسيمات تكوّن البلازما وهي خليطٌ من الإلكترونات (سالبة الشحنة) والأيّونات (ذرّاتٍ فقدت إلكتروناتٍ فأصبحت موجبة الشحنة).

 

البلازما ليست غازًا، أو سائلًا، أو مادّةً صلبةً، بل هي الحالة الفيزيائيّة الرابعة للمادة، تتصرّف البلازما غالبّا كالغازات، إلا أنها توصل الكهرباء وتتأثّر بالمجال المغناطيسيّ، على المستوي الفلكيّ فإن البلازما مكوّنٌ شائعٌ، فمثلًا الشمس هي عبارةٌ عن بلازما، والنار وأضواء النيون والفلورسنت هي بلازما أيضًا.

 

ويقول الدكتور دينيس غالاغر Dennis Gallagher، وهو عالمٌ في فيزياء البلازما في مركز مارشال لرحلات الفضاء التابع لوكالة الفضاء الأمريكيّة (ناسا): "إن 99.9٪ من الكون يتكوّن من البلازما. أشياءٌ قليلةٌ جدًّا في الفضاء مصنوعةٌ من الصخور مثل الأرض".

 

plasmasphere:الغلاف البلازميّ---magnetosphere:الغلاف المغناطيسيّ
plasmasphere:الغلاف البلازميّ---magnetosphere:الغلاف المغناطيسيّ

 

تمتلك البلازما الموجودة في الغلاف المغناطيسيّ للأرض مستوياتٍ مختلفةً من الحرارة والكثافة، وغالبًا ما توجد البلازما الأقلّ حرارةً في غلافنا المغناطيسيّ في طبقة الغلاف البلازميّ (plasmasphere)، وهو على شكل قطعة حلوى donut تحيط بالأرض، لكن البلازما الخاصة بالغلاف البلازميّ يمكننا اكتشافها على امتداد الغلاف المغناطيسيّ لأن القوى الكهربائيّة والمغناطيسيّة تبعثرها في الأرجاء.

 

هذا التصوّر الفني للغلاف المغناطيسيّ للأرض، يمثّل الشكل المستدير الشبيه بالرصاصة صدمة الانحناء ( bow shock) التي تنتج عن تصادم الرياح الشمسيّة مع الغلاف المغناطيسيّ، المنطقة الممثّلة باللون الرمادي بين الغلاف المغناطيسيّ وصدمة الانحناء تُسمّى بالفاصل المغناطيسيّ (magnetopause). يمتدّ الغلاف المغناطيسيّ للأرض تقريبًا عشرة أضعاف نصف قطر الأرض باتجاه الشمس، وتقريبًا نفس الامتداد على الجانبين، أما الذيل المغناطيسيّ فيُعتقد أن امتداده يساوي تقريبًا 1000 ضعف من نصف قطر الأرض، ويمتدّ الغلاف البلازميّ للأرض لضعفين أو ثلاثة أضعاف نصف قطر الأرض، وعلى الجانب الآخر الليليّ قد يمتدّ لأكثر من ستة أضعافٍ في الظروف الجيّدة ( يقيس علماء البلازما الغلاف البلازميّ مقارنةً بنصف قطر الأرض البالغ 6400 كم (4000 ميل) وهذا لأن الظروف في الفضاء متغيّرة باستمرارٍ ولا يوجد حدودٌ واضحةٌ وثابتةٌ للمناطق) يعتمد وجود الغلاف البلازميّ على حالة الطقس الفضائيّة، فمستويات النشاط العالية قد تؤدي إلى تآكل الغلاف البلازميّ، أمّا الفترات الطويلة من الهدوء تساعده على التوسّع والتمدّد.

 

وقد وضع غالاغر نموذجًا عامًا لوصف كثافة البلازما المحيطة بالأرض. وستُنشر ورقته، "نموذج البلازما الأساسيّة العالميّة"، في مجلة Journal of Geophysical Research. "البلازما الأساسيّة" (Core plasma) تشير إلى البلازما منخفضة الطاقة (من صفر إلى 100 إلكترون فولت) التي تشكّل الغلاف البلازميّ.

 

تمثّل الصورة محاكاةً ثلاثيّة الأبعاد لشكل الغلاف المغناطيسيّ المحيط بالأرض، الشمس خارج الصورة إلى اليسار. تصوّر تلك المحاكاة الأرض، بينما تتقلّص وتبعد ليظهر شكل وحجم الغلاف المغناطيسيّ للأرض، أما الرياح الشمسيّة فتشوّه الغلاف المغناطيسيّ ليظهر بشكله المميّز هذا، وتظهر صدمة الانحناء حيث تلتقي الرياح الشمسيّة والغلاف المغناطيسيّ وتظهر على شكلٍ دائريٍّ أشبه بالرصاصة خافتٍ وشفافٍ.  الحقوق:  Digital Radiance
تمثّل الصورة محاكاةً ثلاثيّة الأبعاد لشكل الغلاف المغناطيسيّ المحيط بالأرض، الشمس خارج الصورة إلى اليسار. تصوّر تلك المحاكاة الأرض، بينما تتقلّص وتبعد ليظهر شكل وحجم الغلاف المغناطيسيّ للأرض، أما الرياح الشمسيّة فتشوّه الغلاف المغناطيسيّ ليظهر بشكله المميّز هذا، وتظهر صدمة الانحناء حيث تلتقي الرياح الشمسيّة والغلاف المغناطيسيّ وتظهر على شكلٍ دائريٍّ أشبه بالرصاصة خافتٍ وشفافٍ. الحقوق: Digital Radiance

 

حلّقت الصواريخ والأقمار الصناعيّة والمكّوكات في أجزاءٍ من جوار البلازما الأساسيّة، وتمكّن العلماء تدريجيًّا من فهم الطبيعة الأساسيّة لطبقة الغلاف البلازمي عن طريق القياسات المأخوذة لتلك المنطقة.

 

يقول غالاغر: "لقد كنّا نحلق في البلازما منذ أكثر من 40 عامًا، وقد اكتسبنا ببطءٍ صورةً إحصائيّةً عن طبيعة الأشياء مثل كثافة ونسبة الأكسجين والهيدروجين والهيليوم".

 

لكن معرفتنا بالغلاف البلازميّ ليست كاملةً، بسبب شيءٍ واحدٍ وهو أن جميع القياسات السابقة للغلاف الجويّ أنتجت نماذجَ مستقلةً لمناطقَ محدّدةٍ من البلازما، وعن طريق جمع القياسات السابقة سيحاول نموذج غالاغر وصف الغلاف البلازميّ وصفًا رياضيًّا شاملًا وأعمّ من النماذج السابقة

 

توضّح الصورة الغلاف البلازميّ للأرض كما سيظهر في الضوء فوق البنفسجيّ (ذو طول موجي 30.4 نانومتر)
توضّح الصورة الغلاف البلازميّ للأرض كما سيظهر في الضوء فوق البنفسجيّ (ذو طول موجي 30.4 نانومتر)

 

يقول غالاغر: "يبدأ هذا النموذج في توضيح الصورة، لكنّه يشبه وحش فرانكشتاين"، مشيرًا في تشبيهه هذا إلى كيفيّة تجميع نموذجه معًا من عدّة نماذجَ مختلفةٍ ومتباينةٍ. "القضيّة الأهمّ هنا هي كيفيّة تنظيمهم بسلاسةٍ معًا".

 

نموذج غالاغر يجمع بين النموذج الذي قدّمه مشروع الأيونوسفير المرجعيّ الدوليّ (International Reference Ionosphere (IRI للارتفاعات المنخفضة مع نماذج أخرى للارتفاعات العالية. ويرتفع الجزء المحتوي للغلاف البلازميّ من الغلاف الجويّ، ويُسمّى الغلاف الأيّونيّ الأيونوسفير (the ionosphere)، عن الأرض من 90 لـ1000 كم (54 - 620 ميلًا) عن سطح الأرض.

 

إن الأشعة ذات الأطوال الموجيّة القصيرة القادمة من الشمس التي تتراوح بدءًا من الأشعة فوق البنفسجيّة وحتّى الأشعة السينيّة تؤيّن الطبقة العلويّة للغلاف الجويّ من الأرض عن طريق انتزاع الإلكترونات من الذرّات، ولا تتجمّع الأيّونات والألكترونات معًا مرّةً أخرى في طبقة الأيونوسفير، لأن تصادمات الجسيمات نادرةٌ في طبقات الغلاف الأيونيّ خفيف الكثافة، وتتراوح كثافة الأيونوسفير من نحو مليون جسيمٍ في السنتيمتر المكعب في أفضل الأحوال لعدّة آلافٍ في السنتيمتر المكعب وتستمر الكثافة في الانخفاض كلما ارتفعنا لأعلى.

 

من خط الاستواء إلى خطوط العرض الوسطى من الأرض، يندمج الأيونوسفير بسلاسةٍ مع الغلاف البلازمي. وبعيدًا عن الحدود الخارجيّة للغلاف البلازميّ، فإن كثافة البلازما في الغلاف المغناطيسيّ يمكن أن تنخفض إلى 0.01 جسيم في السنتيمتر المكعب.

 

يقول غالاغر: "إن الغلاف البلازميّ حول الأرض هو امتدادٌ طبيعيٌّ للغلاف الجويّ الأرضيّ، بعد تأيّنه من الشمس"، ويضيف قائلًا: "أيُّ كوكبٍ له غلافٌ جويٌّ يمكنه أن يحصل على ذرّاتٍ من الشمس محمّلةٍ بالطاقة، وكنتيجةٍ تهرب العناصر الأخفّ وزنًا، ولكن يمسك مجالنا المغناطيسيّ العديد من تلك الغازات الهاربة، فكوكبٌ مثل المريخ الذي يملك، في أفضل الأحوال، حقلًا مغناطيسيًّا ضعيفًا، لديه أيضًا غلافٌ جويٌّ رقيقٌ جدًا، وقد تكهّن بعض الباحثين أن المجال المغناطيسيّ للأرض قد يلعب دورًا في إبطاء تسرّب غلافنا الجويّ إلى الفضاء".

 

تعبر الصورة عن تصوّرٍ فنيٍّ للتفاعل بين الغلاف المغناطيسيّ والشمس، يمثّل الغلاف المغناطيسيّ حاجز حمايةٍ من الرياح الشمسيّة.

 

يوفّر لنا غلافنا الجويّ الضغط المناسب، ودرجة الحرارة المناسبة، والأكسجين وهي المتطلبات الأساسيّة للحياة على الأرض، وبدون غلافنا الجويّ سوف يتجمّد جانبًا من كوكبنا بينما الجانب الآخر سيشوى تحت إشعاع الشمس القويّ.

 

قد يسهم نموذج غالاغر في فهمنا لكيفيّة تأثير بلازما الأرض على نوعيّة حياتنا. وتتأثّر موجات الراديو وخطوط الكهرباء بوجود البلازما، وكذلك الأقمار الصناعيّة والمكّوكات الفضائيّة. يمكن للبلازما أن تتسبّب في تراكم الشحنة الكهربائيّة على جانبٍ واحدٍ من المكّوك الفضائيّ بدون الآخر، وقد ينتج عن ذلك قوسٌ كهربائيٌّ electric arc أو تفريغٌ كهربائيٌّ. تستطيع تلك الأقواس الكهربائيّة تعطيل أو تدمير المكوّنات الإلكترونيّة الحسّاسة في المركبة.

 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • الغلاف المغناطيسي (Magnetosphere): هي المنطقة من الفضاء التي تكون قريبة من جسم فلكي ما ويتم داخلها التحكم بالجسيمات المشحونة من قبل الحقل المغناطيسي للجسم.

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات