من الذي سيمنع تشيرنوبل التالية؟

استخدمت منشأة تشيرنوبل النووية أربعة مفاعلات نووية سوفييتية التصميم من طراز RBMK-1000، وهو تصميم معروفٌ اليوم بخلله الداخلي، يستخدم هذا النظام اليورانيوم المخصّب U-235 كوقود لتسخين الماء، منتجا بخاراً يحرك توربينات المفاعل ومولدا الكهرباء بذلك. وفي الحقيقة يصبح اللب النووي في الطراز RBMK-1000 أكثر تفاعلاً وهو ينتج البخار، مما يخلق دارة تغذية راجعة إيجابية تعرف بـ"معامل الإفراغ الإيجابي (للبخار)" positive-void coefficient .


حقوق الصورة: Shutterstock 


مررنا في الربع الأول من السنة بذكرى اثنتين من كوارث منشآت الطاقة النووية، إذ صادف يوم 11 آذار/ مارس الذكرى الخامسة لحادثة فوكوشيما في اليابان، و 26 نيسان/أبريل الذكرى الثلاثين لحادثة تشيرنوبل في أوكرانيا.


ذاب لب المفاعل في كلتا الحادثتين، وحصلتا أيضا على أعلى تصنيف لمعدّل الخطورة من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية (بلغ المستوى 7)، إضافة إلى إجلاء مئات الآلاف من السكان، ومازال بعض الناس ينتظرون لحظة العودة إلى منازلهم. لقد خلفت هذه الحوادث إرثا من التلوّث الإشعاعي شمل نطاقا واسعا من البيئة، وسيبقى هذا التلوّث لسنين قادمة، رغم أفضل محاولات التنظيف المكلّف.

وجب أن تكون كلا الحادثتين قد أكدتا على ضرورة وجود طاقم مدرب تدريبا عالياً في علوم المواد المشعة لوضعه داخل مواقع العمل، وأنهما وسمتا أيضا بداية مرحلة مضاعفة الجهود لتثقيف الجيل التالي من المختصين بشكل أفضل فيما يخص الوقاية من الإشعاع لمنع حصول كوارث نووية مستقبلية، لكن من المفارقات المحزنة أنّ ذلك لم يحدث!


بل انخفضت استثمارات حكومات الولايات المتحدة الفدرالية في مجال تدريب الطواقم المختصة بالمواد المشعة بدل ازديادها، خلال السنوات التي تلت تلك الحوادث، وهي في أدنى مستوياتها منذ عقود.

وباعتراف الجميع، كانت حادثة تشيرنوبل أكبر أثراً بكثير من فوكوشيما من حيث كمية النشاط الإشعاعي المتحرر عنها والتأثيرات على الصحة العامة، لكن هناك فارق رئيسي آخر بين تشيرنوبل وفوكوشيما وهو أنّ حادثة تشيرنوبل كانت من صنع الإنسان بالكامل، فقد كانت نتيجة لـ "تدريب على الأمان" جرى بشكل خاطئ جداً! مترافقاً مع عدم الكفاءة، وما جعله أسوأ، هو المعلومات الخاطئة والتكتّم. فقد كان بالإمكان تجنب هذه الحادثة بالكامل وتخفيف عواقبها بقليل من التدريب الفعال والإدارة والإشراف التنظيمي.


وعلى عكسها، كانت فوكوشيما نتيجة كارثة طبيعية، زلزالٌ تبعته موجة تسونامي اخترقت الحواجز الواقية من الأمواج وغمرت مباني المفاعل النووي.


لكن حتى في حالة فوكوشيما فقد ساهمت الأخطاء البشرية في المشكلة، إذ تمّ الاستخفاف بالخطر الحقيقي الذي تشكّله موجات التسونامي من قبل المسؤولين عن الصناعة النووية رغم وجود الدليل على خطورتها، ولهذا لم تكن الحواجز الواقية من الأمواج بالارتفاع الكافي، كما لم يكن من الواجب وضع مزودات الطاقة الاحتياطية للمفاعل في أقبية بناء المفاعل، بل كان من الواجب وضعها في منطقة مرتفعة كفاية إلى مستوى يمكنه أن يقف في وجه تهديد الأمواج.

علاوة على ذلك فقد وُجدت في فوكوشيما أخطاء في التصميم الهندسي، فمثلاً نتج عن خطأ برمجي خطأ في نظام "التأمين عند التعطل" مؤدياً إلى إغلاق الصمامات الموجودة في نظام التبريد آلياً والتي من الواجب أن تبقى مفتوحة، ممّا أدّى إلى ذوبان لبّ المفاعل في الوحدة الأولى!


إضافة لذلك، فقد فشل التواصل تماماً بين شركة الكهرباء (شركة طوكيو للطاقة الكهربائية) والحكومة والعامة، مما جعل التعامل مع المشكلة صعبا أثناء حدوثها. وعلى الرغم من أنه لم يكن بالإمكان منع الزلزال والتسونامي، فلربما كان تنبؤ العواقب والتدريب الجيد قد خفّفا من نتائج الكارثة بكل تأكيد، ولربما كانتا قد منعتا ذوبان لب المفاعل بأكمله. (تعزى الطّفرات في الفراشات إلى حادثة اليابان النووية).

إذاً، فما الذي تعلمناه من أسوأ كارثتين على مر الزمان تشيرنوبل وفوكوشيما؟


إنّ الملوم الأكبرَ لهي الأخطاء البشرية أكثر من كونها القوى الخارجية، إضافة إلى القرارات الضعيفة التي يتخذها طواقم الأخصائيين، فهي الأسباب الرئيسية التي تجعلنا نعيش مع العواقب البيئية بعد مضي سنوات على وقوع الحوادث.


قد يعتقد المرء أنّ طواقم المختصين بالمواد المشعة المدربين أكثر وبشكل أفضل قد يكونون العامل الرئيسي لمنع الحوادث النووية المؤسفة، وأنّ مثل هذه الطواقم قد تمثل خط الدفاع الأول في تفادي حوادث مصانع الطاقة النووية المستقبلية.

مع ذلك، وبشكل لا يصدق، فليس هذا هو الاتجاه السائد في الولايات المتحدة! فعدد الطلاب الذين يُدرّبون الآن في المهن ذات العلاقة بالمواد المشعة أقل من عددهم وقت وقوع الحوادث، وبرامجُ التدريب على المواد الإشعاعية في إغلاق مستمر بمعدل يدعو للقلق، الأمر الذي يعود سببه غالبا إلى قلة الدعم الفدرالي في مجال التثقيف عن المواد المشعة.

هذا وقد قام مؤخراً المجلس الوطني للوقاية وقياس الإشعاع NCRP –وهو منظمة علمية مجازة بالقوانين الفدرالية تقوم بتقديم النصائح في قضايا الوقاية من الإشعاع- بعقد جلسة عمل خاصة بالمشكلة، وقد تلخصت نتائج الجلسة بأنّ "البلاد على أعتاب نقص حادّ في الطواقم المختصة بالإشعاع، لن يلبي مثلها الحالاتِ الوطنية الطارئة". وتكمن المشكلة الأساسية بعدم وجود ما يكفي من المختصين بالإشعاع الذين يتم تدريبهم الآن بحيث يحلون مكان الذين حان موعد تقاعدهم.

أما بالنسبة لمجال صناعة الطاقة النووية في الولايات المتحدة، فإن النقص في الطواقم يُغطى عموما عن طريق انتقال المختصين بالإشعاع النووي من البحرية إلى مصانع الطاقة النووية في القطاع المدني للعمل فيها، لكن تدفق الطواقم هذا غيرُ مستديم، وتتوقع NCRP قصورا حادا في طواقم المختصين بالإشعاع والمؤهلين خلال عشرة أعوام.


وباعتبار أنّ الدراسة حتى التخرج قد تأخذ من سنتين إلى سبعة سنوات للوصول إلى تدريب تام، فلا يتوفر في هذه الفترة الفاصلة الكثير من الوقت لعكس الحالة المشؤومة التي نواجهها.

لا شك بأنّ التدريب والإدارة والإشراف أمر باهظ التكلفة، لكن تكلفة بناء هذه الإجراءات الوقائية والمحافظة على استمراريتها ليست إلا جزءاً من تكلفة المعالجة بعد الكوارث.


فبمقدار النقود التي صرفت لمعالجة أضرار تشيرنوبل وفوكوشيما، كنا استطعنا إعالة وتدريب جيش من المهندسين النوويين المهرة والمؤهلين، وأطباء صحة ومراقبي مفاعلات ومديري أخطار وأخصائيي اتصالات والعديد من المختصين الآخرين في مجال الإشعاع. وبمثل هكذا جيش لكانت الطاقة النووية من بين أكثر خيارات الطاقة أماناً، من حيث تأثيرها على الصحة العامة والبيئة أو حتى التغلب على الكوارث الطبيعية الغادرة.

لكننا كمجتمع، طالما نهمل الوقاية ونخفق في تمويل التدريب لأخصائيي إشعاعٍ على مستوى عال من التأهيل، فإنّنا سنعيش دوماً مع التهديد الحقيقي عندما نضطر يوماً ما إلى حزم حقائبنا ومغادرة البلدة، تاركين وراءنا أراضينا الملوثة بالنشاط الإشعاعي للحياة البرية.

عن الكاتب


تيموثي جورجنسن Timothy Jorgensen: مدير البرنامج الدراسي"فيزياء الصحة والوقاية من الإشعاع" في جامعة جورج تاون، ومؤلف كتاب "التوهج الغريب: قصة الإشعاع" Strange Glow: The Story of Radiation.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات