ما هي الطاقة النووية وكيف تعمل؟

تقع منزلة أيِّ محطةٍ لتوليد الطاقة النووية عند الصراطِ الذي يفصل بين أعظم آمال البشرية المستقبلية وأشنع مخاوفها، ذلك أنّ الطاقة الذرية توفّر لنا، من جهةٍ، طاقةً بديلةً نقيةً من شأنها تحريرنا من قيود التّبعية للوقود الأحفوري، غير أنّها تُعيد إلى الأذهان، من جهةٍ أخرى، صُوَرًا لكوارثَ ألمّت بالبشرية منها كارثةُ محطةِ الطاقة اليابانية التّي مزقها زلزالٌ لافظةً أبخرةً مشعةً، والخرابُ الذي عمّ مفاعل ومنطقة تشرنوبيل Chernobyl. 

ولكن ما الذي من شأنه، عند حدوثه داخل محطة الطاقة النووية، أن يجلب على البشرية هذه النّعم أو النّقم معًا؟ تخيّل معي أنّنا نقتفي أثر وِحدة فولط Volt من الكهرباء راجعةً إلى الوراء عبر مقبس الحائط، مرورًا بعدّة أميالٍ من أسلاك الطاقةِ، ووصولًا إلى المفاعل النووي الذي يولِّدُها، سوف نلتقي هنالك بالمولّد الذي يُنتج شرارةَ البداية والتوربين Turbine (العنفة/الدولاب) الذي يُديره، وسوف نرى بعد ذلك انبعاثاتِ البخار التي تدير التوربين، وأخيرًا سوف نجدُ حزمةَ اليورانيوم المُشع الذي يُحوِّل الماء إلى بخارٍ بفعل الحرارة، مرحبًا بك داخل قلب المفاعل النووي.

يعمل الماءُ داخل المفاعل أيضًا على تبريد المواد النشطة إشعاعيًّا (المشعّة)، بغرض حمايتها من فرط الحرارة والذوبان. 

صورة فضائية لمحطة الطاقة النووية فوكوشيما داييتشي Fukushima-Daiichi بتاريخ 16 آذار/مارس 2011، عقب زلزال بقوة 8.9 وتسوماني مطلقين العنان لسلسلة من الأحداث الكارثية بالمُنشأة. حقوق الصورة: DIGITALGLOBE VIA GETTY IMAGES
صورة فضائية لمحطة الطاقة النووية فوكوشيما داييتشي Fukushima-Daiichi بتاريخ 16 آذار/مارس 2011، عقب زلزال بقوة 8.9 وتسوماني مطلقين العنان لسلسلة من الأحداث الكارثية بالمُنشأة. حقوق الصورة: DIGITALGLOBE VIA GETTY IMAGES


في آذار/مارس 2011، أصبح الرأيُ العام العالمي أكثر درايةً بحقيقة خطر الطاقة النووية، عندما نزح المواطنون اليابانيون بعشرات الآلاف من المنطقة المحيطة بمنشأة فوكوشيما داييتشي Fukushima-Daiichi النووية، بعد أن أحدث أعنفُ الزّلازل التي سجلتها البشرية والتسونامي التالي له، أضرارًا جسيمةً بالمحطّةِ ومفاعلاتٍ تابعة للعديد من وحداتها. كما جفّت المياهُ من مركز المفاعل ما جعل عمليةَ التّحكم في حرارة مركز المفاعل المذكور آنفا عمليةً مستحيلةً، ونتج عن ذلك ارتفاعٌ شديدٌ للحرارة داخل المفاعل وذوبانٌ نوويٌّ جزئيٌّ.

أشارت الإحصائياتُ بحلول الأول من آذار/مارس 2011، إلى وجودِ 443 مفاعلًا للطاقة النووية في الخدمة، منتشرةً عبر 47 دولةً مختلفةً في العالم. وفّرت الطاقةُ الذرية سنة 2009 وحدها 14 بالمئة من الإنتاجِ العالمي للكهرباء، أمّا على الصّعيدِ الأحادي (على صعيد الدول) فيرتفعُ اعتمادُ الدول على الطاقة الذّرية لإنتاج الكهرباء ليسجّل 76.2% لدى ليتوانيا و75.2% لدى فرنسا (المصدر معهد الطاقة النووية NEI). كما تُحصي الولاياتُ المتحدة الأمريكية 104 محطةً لتوليد الطاقة النووية موفّرةً بذلك 20% من احتياجاتِ البلاد للكهرباء، مع تفاوتٍ بين الولايات من حيث حجم الاستفادة.

سنستعرِضُ في هذا المقال طريقةَ عمل المفاعل النووي داخل محطةِ الطاقة، كما سنطّلِعُ على التفاعلات الذّرية التّي تُنتج كلّ تلك الحرارةِ الحاسمة.

الانشطار النووي: لب المفاعل


بِغضّ النظرِ عن كلّ مفاهيمِ الطاقة الكونية التّي تدخلُ في سياق كلمة "نووي"، فإنّ المحطاتِ التّي تعتمدُ على الطاقةِ الذرية لإنتاج الكهرباء لا تَختلفُ كثيرًا، من حيث مبدأ العمل، عن تلك التّي تَعتمدُ على احتراق الفحم لإنتاجها (أي الكهرباء)، فكلتاهما تقوم بتسخين المياه إلى أن تصير أبخرةً مضغوطةً، حيث تقوم هاته الأخيرة بدورها بتحريك توربين المولد. إذًا فالفرقُ الجوهريُّ الوحيد بين المحطتين يكمُنُ في طريقة تسخين المياه.

ففي حينِ أنّ المحطات التقليديةَ تحرِقُ الوقودَ الأحفوري، تَعتمدُ المحطاتُ النووية على الحرارةِ المنبعثة خلال الانشطار النووي Nuclear Fission، أي عندما تَنشطرُ ذرةٌ Atom واحدة إلى اثنتين مُصدِرةً طاقة. يَحدثُ الانشطارُ النووي في الطبيعة كلّ يومٍ، فاليورانيوم Uranium على سبيل المثال يَتعرّضُ بصفةٍ مستمرةٍ إلى انشطارٍ تلقائيٍّ بطيءٍ جدًّا، لهذا السبب يُصدِر هذا العنصر الكيميائي إشعاعاتٍ، كما أنّه يُعتبَر للسبب ذاته خيارًا طبيعيًا للانشطار المُحفَّز Induced fission الذّي لا غِنًى عنه لمحطات توليد الطاقة النووية.

تَواجَدَ اليورانيوم الذّي يُعدّ عنصرًا شائعًا على الأرض من نشأة وتشكُّل هاته الأخيرة، وله أصنافٌ عِدّةٌ، ولكنّ اليورانيوم 235 (U-235) هو الأكثرُ ملائمةً والأكثرُ أهميةً لعملية إنتاج الطاقة النووية والقنابل النووية.  

يَتفكّكُ اليورانيوم 235 (U-235) طبيعيًا بإشعاع آلفا Alpha radiation مُحرِّرًا جُسيم ألفا Alpha particle (جسيم ألفا عبارةٌ عن نيوترونَين وبروتونَين متحدين مع بعضهم البعض)، ويُعدّ اليورانيوم 235 (U-235) من العناصر الكيميائية القليلة التّي يُمكِن إخضاعها لعملية الانشطار المحفّز، إذ إنّ إطلاقَ نيوترون حرٍّ نحو نواة (U-235) سيدفع بالنواة إلى امتصاص هذا النيوترون، ما يجعلها غير مستقرّةٍ ويدفع بها في نهاية المطاف إلى الانشطار حالًا.

يُحرِّرُ تحلل ذرّةٍ واحدةٍ من (U-235) ما يقارب 200 MeV مليون إلكترون فولت∗، ولا يبدو ذلك للوهلة الأولى بالشيء الذّي يستحق الذكر، ولكنّ عدد ذرات اليورانيوم المتواجدة في الباوند الواحد عددٌ هائلٌ جدًّا (باوند = 0.45 كغ)، هائلٌ حقًا لدرجة أنّ 1 باوند من اليورانيوم عالي التخصيب يُغني عن حوالي مليون غالون∗ من البنزين (الغازولين) في تزويد غواصةٍ نووية بالطاقة. 

يُحرِّرُ انقسامُ ذرّة اليورانيوم (U-235) تقريبًا كميةً كبيرةً جدًّا من الطاقة إضافةً إلى أشعة غاما Gamma radiation (أو ما يُعرَف بالأشعة الصادرة عن الفوتونات عالية الطاقة High-energy photons) وتُصدِر الذّرتان الجديدتان الناجمتان عن الانقسام بدورهما أشعةَ بيتا Beta radiation، أو الإلكترونات عالية السرعة، وأشعةَ غاما خاصة بهما. 

في سبيل أن يتحقّق كلُّ هذا، يتحتّم على العلماء أولًا القيام بتخصيب عينةٍ من اليورانيوم حتى تحتوي على 2 أو 3 % إضافيةٍ من اليورانيوم (U-235). تُعتبر نسبة 3% من التخصيب كافيةً لعمل محطات توليد الطاقة النووية، ولكن نسبة التخصيب المطلوبة في اليورانيوم المستعمَل لأغراضٍ عسكرية لا يجب أن تقل على 90%.

ماذا عن البلوتونيوم؟


هل تعلم أن اليورانيوم 235 (Uranium (U-235 ليس الوقود الوحيد الذي تعتمد عليه المحطة النووية لتوليد الطاقة، بل هناك عنصرٌ انشطاريٌّ آخرٌ هو البلوتونيوم 239 Plutonium يتم إنتاجه عادةً داخل المفاعل النووي عبر إطلاق نيوترون نحو ذرة يورانيوم 238 (Uranium (U-238.

داخل محطة لتوليد الطاقة النووية


رسم بياني يوضح كل الأجزاء التي يتكون منها المفاعل النووي حقوق الصورة: HOWSTUFFWORKS.COM 2001
رسم بياني يوضح كل الأجزاء التي يتكون منها المفاعل النووي حقوق الصورة: HOWSTUFFWORKS.COM 2001


كي يتمكن العاملون على محطة الطاقة النووية من تحويل الانشطار النووي إلى طاقةٍ كهربائيةٍ، لا بدّ عليهم من التّحكم في الطاقة الصادرة عن اليورانيوم المخصّب واستعمالها لتسخين المياه إلى أن تصبح بخارًا. 

يُشكَّل اليورانيوم المخصّب عادة على هيئة عُصيّاتٍ صغيرةٍ Pellets بطول بوصةٍ واحدةٍ (2.5 سم) وقطرٍ يقارب قطعةً نقديةً معدنيةً لكلّ عُصيّة، تُرتَّب هذه الأخيرة داخل قضبان Rods طويلة تُجمع بدورها إلى حُزم Bundles. تُغمَس هذه الحزمُ في المياه داخل وعاء للضغط. تقوم المياه بدور المبرّد coolant. إذا ما تُرِك اليورانيوم على هذه الحالة، فإنه سيذوب في النهاية جراء ارتفاع درجة حرارته التلقائية. 

يقوم التقنيون لتفادي فرطِ الحرارة داخل المفاعل، بإدراج قضبان تحكّمٍ Control rods مصنوعةٍ من مادةٍ ملتقطةٍ للنيوترونات داخل حزمة اليورانيوم، مستعينين في ذلك بآلة ميكانيكية تسمح برفع وخفض قضبان التحكم تلك. تُمكِّن هذه العملية (رفع وخفض قضبان التحكم) التقنيينَ من السّيطرة على معدَّل التفاعل النووي، بحيث تُرفَع القضبانُ نسبيًا إلى الخارج إذا أردنا من نواة اليورانيوم إنتاج حرارةً أكثر (عبر التقليل من امتصاص النيوترونات)، وتُخفَض نسبيًا إلى الأسفل إذا أردنا إنتاج حرارةً أقلّ. كما يمكن أن تُخفَضَ القضبانُ إلى أقصى قعر حزمة اليورانيوم إذا أردنا إيقاف عملِ المفاعل جرّاء حادثٍ ما، أو في حال تغيير الوقود.

تُوفِّر حزمة اليورانيوم مصدرًا للحرارة غنيًا جدًّا بالطاقة، إذ أنّها تسخّن المياه لتصبح أبخرةً، تدير الأبخرة بدورها التوربين الذي يدير المولّدَ المُنتِج للطاقة، في صورةٍ تُمثّل كيف سخّر البشر حالة تحول المياه إلى بخار لفائدتهم عبر مئات السنين.

تَمُر الأبخرةُ المنبعثة من المفاعل في بعض محطات الطاقة النووية عبر مبدل حرارة ثانوي وسيط Secondary intermidiate heat exchanger، لتقوم بتحويل كميةٍ أخرى من المياه إلى بخارٍ لتدوير التوربين. تَكمُن ميزة هذا التصميم في أنّه يَحُول دون ملامسة الماء/البخار المشع للتوربين. نجد في تصاميم أخرى لبعض المفاعلات أن السائل المبرّد Coolant fluid المُلامِس لنواة المفاعل عبارةٌ عن غازٍ (ثاني أكسيد الكربون) أو معدنٍ سائل (صوديوم، بوتاسيوم)، تسمح هذه التصاميم للمفاعلات بالعمل ضمن درجات حرارة قصوى.

وبالنظر إلى كلّ تلك العناصر النشطة إشعاعيًا المتواجدة داخل محطة توليد الطاقة النووية، فليس من الغريب أن نلاحظ الفرق بين معدات الحماية المحيطة بها (أي محطة توليد الطاقة النووية)، وبتلك المحيطة بمحطة توليد الطاقة باستخدام الفحم. سنتعرّف فيما يلي على مختلف دروع الحماية التي تمنع تلك الحرارةَ الحارقة داخل قلب المحطة من الوصول إلينا. 

ظاهرُ محطةِ توليد الطاقة النووية


تلعب الخرسانة كما يبدو واضحًا للعيان عند مشاهدة المحطة النووية بروكدرف ألمانيا Brkdorf Germany، دورًا مهمًا في احتواء المواد النشطة إشعاعيًا حقوق الصورة: MARTIN ROSE/GETTY IMAGES INTERTAINMENT/-GETTY IMAGES
تلعب الخرسانة كما يبدو واضحًا للعيان عند مشاهدة المحطة النووية بروكدرف ألمانيا Brkdorf Germany، دورًا مهمًا في احتواء المواد النشطة إشعاعيًا حقوق الصورة: MARTIN ROSE/GETTY IMAGES INTERTAINMENT/-GETTY IMAGES

 

يمكنك أن تلاحظ أيضًا وأنت تتجاوز المفاعل خروجًا، أنه لا يوجد اختلافٌ كبيرٌ بين محطة توليد الطاقة النووية وبين محطات توليد الطاقة باستعمال الفحم أو النفط ومشتقاته (طبعا إذا استثنينا المصادر المستعملة في إنتاج البخار)، وبما أن المصدر في حالة المحطة النووية قادرٌ على نفث مستوياتٍ ضارةٍ من الأشعة، وجبت الاستعانة بتدابير أمنيةٍ أكثر فاعليةً.

يُغلَّف وعاء الضغط Pressure vessel داخل المفاعل عادةً ببطانة من الخرسانة التي تعمل كجدار صد للإشعاعات، تُغلَّف البطانةُ الخرسانية بدورها بوعاء احتواء Containment vessel أكبر مصنوع من الفولاذ. يحتوي وعاء الاحتواء هذا مركزَ المفاعل كما يحتوي أيضا المعداتَ التي تحتاج إليها المحطة أثناء التزوّد بالوقود والمحافظة على المُفاعل في حالة نشاط، كما يعمل أيضا، أي وعاء الاحتواء، على منع كلّ الغازات والسوائل المشعّة من التسرّب خارج المحطة. 

تُشيَّد بنايةٌ خارجية من الخرسانة كطبقة وقايةٍ نهائيةٍ لحماية وعاء الاحتواء الفولاذي، ويتم أثناء تصميمها مراعاة القوة والمثانة التي تمكنها من تحمل الأضرار الكبيرة الناجمة عن الزلازل أو حادث اصطدام طائرةٍ بالمنشأة على سبيل المثال. تُعتبَر بناياتُ الاحتواء الثانوية هاته ضروريةً للحيلولة دون تسرب الإشعاعات والأبخرة المشعة خارج المحطة في حالة وقوع حادثٍ ما، فكلنا نتذكر كيف أدى غياب بنايات الاحتواء الثانوية لدى محطات الطاقة النووية الروسية إلى السّماح بتسرّب المواد النشطة إشعاعيًا إلى الخارج في مدينة تشرنوبيل Chernobyl

يستطيعُ العاملون في غرفة التحكّم Control room داخل المحطة مراقبةَ وضبط المفاعل النووي، والتدخّل لتصحيح الوضع في حال حدوث أيّ طارئٍ، كما تُزوَّد المنشئاتُ النووية في أغلب الحالات بمحيط حماية Security permimeter وبموظفين إضافيين مهمّتهم حماية التجهيزات الحساسة بداخلها. 

نالت الطاقةُ النووية كما هو معلوم نصيبها من المرافعات لصالحها ونصيبها من النقد ضدها، ابقوا معنا كي نستعرض فيما يلي في عجالة ما يدلي به الفريقان (فريق المؤيدين وفريق المعارضين) من آراءٍ حول استغلال انشطار الذرات في تشغيل أجهزة التلفاز والحواسيب في حياتنا اليومية.

إيجابيات وسلبيات الطاقة النووية


لعلّ أهمّ ميزات الطاقة النووية أنّها لا تعتمد على الوقود الأحفوري، كما أنّها لا تتأثر بأسعار النفط والغاز الطبيعي المتقلبة. وعلى عكس الانبعاثات الكبيرة لغاز ثاني أكسيد الكربون CO2 في الغلاف الجوي الصادرة عن المحطات التي تعتمد على الفحم والغاز الطبيعي في توليد الطاقة (وما لهذه الانبعاثات من أثرٍ في التغير المناخي) نجد أن نصيب المحطات النووية من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون ضئيلٌ نسبيًّا. 

فبِحسب معهد الطاقة النووية Nuclear Energy Institute، كانت الطاقة المنتجة من طرف المحطات النووية عبر العالم بأسره لِتُخلِّف في الأصل ما معدله 2 بليون طن متري من ثاني أكسيد الكربون سنويًا لو أنّ هذه المحطات قد اعتمدت على الوقود الأحفوري. زيادةً على هذا، تنتج المحطات النووية المطابقة للمعايير انبعاثاتٍ إشعاعيةً أقلّ في الغلاف الجوي عن تلك المحطات المعتمدة على الفحم، كل هذا يُضاف إلى كمية الوقود الضئيلة المستهلكة في عملية توليد الطاقة عن طريق الانشطار النووي. وأخيرًا فإن هذ الانشطار النووي يولّد طاقةً أكبر بمليون مرةٍ للوحدة الوزنية الواحدة من بدائل الوقود الأحفوري.

ماذا عن سلبيات الطاقة النووية؟


تاريخيًا، لطالما اعتُبِرت عملية استخراج وتنقية اليورانيوم من الشوائب عمليةً غير نظيفةٍ نسبيًا، حتّى أنّ نقلَ الوقود النووي في حذ ذاته من وإلى المحطات يمثل تهديدًا ملوِّثاً. كما أنّ عملية التخلّص من الوقود المستعمَل ليست بالسهولة التي يمكن تخيلها، إذ يظل هذا الوقود مصدرًا قاتلًا للإشعاعات.

تُخلِّف محطةٌ نووية سنويًا ما معدله 20 طن متري من الوقود النووي المستعمَل، ويُصنَّف هذا الوقود كنفاياتٍ إشعاعيةٍ عالية المستوى High-level radioactive waste، يقفز هذا المعدل إلى مجموع 2000 طن متري كلّ سنةٍ إذا جمعنا النفايات الصادرة عن كلّ المحطات النووية المنتشرة عبر العالم، تُصدِر عن هذه المخلّفات إشعاعاتٌ وحرارةٌ كفيلةٌ بتآكل أيّ نوعٍ من أنواع الحاويات التي توضع فيها، ناهيك عن أنها تشكل خطرًا على أشكال الحياة القريبة منها (أي النفايات النووية)، وإذا اعتقدتَ أن هذا سيءٌ كفايةً فدعنا نضف أنّ محطات الطاقة النووية تُصدر أيضًا مقدارًا كبيرًا من النفايات الإشعاعية منخفضة المستوى Low-level radioactive waste في شكل معداتٍ و أجزاءٍ مشعّةٍ.

صحيح أن الوقود النووي المستعمل يتفكك (يتحلل) مع مرور الزمن إلى مستوياتٍ إشعاعيةٍ آمنةٍ، ولكن تستغرق هذه العملية عشرات الآلاف من السنين، تتطلب النفايات الإشعاعية من المستوى المنخفض بدورها عقودًا لتبلغ الحد الآمن المطلوب، ولهذا السبب يعمد التقنيون إلى ترك النفايات لتبرد لعدّة سنواتٍ قبل أن يضيفوا إليها الزجاج∗ ويخزنوها في أبنيةٍ خرسانيةٍ عملاقةٍ ذات نظام للتبريد، و تضلّ هذه النفايات تحت المراقبة و الصيانة لمنع وقوعها في أيدٍ خاطئةٍ، ولا ننسى ما يترتب عن بناء محطةٍ نوويةٍ و تزويدها بالخدمات و معدات الصيانة الإضافية تلك من أموال طائلة. 

نماذج عن كوارث نووية ألمت بالعالم


عينة من آثار الكارثة النووية باليابان في أعقاب الزلزال الأعنف في التاريخ، الذي مزق البلاد وتلاه تسونامي طوفاني.  حقوق الصورة: PAULA BRONSTEIN/GETTY IMAGES
عينة من آثار الكارثة النووية باليابان في أعقاب الزلزال الأعنف في التاريخ، الذي مزق البلاد وتلاه تسونامي طوفاني. حقوق الصورة: PAULA BRONSTEIN/GETTY IMAGES

 

تَذكّر أن قلب كلّ مفاعلٍ نوويٍّ عبارةٌ عن محيطٍ مراقبٍ ومضبوطٍ من النشاط الإشعاعي والانشطار المحفّز، لذا فإن أيّ خللٍ في هذا المحيط قد تنجر عنه كارثة. 

ظلّت كارثةُ تشرنوبيل بأوكرانيا تتصدر لعدّة سنواتٍ قائمة أسوء حوادث الطاقة النووية، ففي 1986، انفجر المفاعل النووي لهذه المحطة قاذفًا 50 طنًا من المواد المشعة في الأجواء، وملوِّثا ملايين الفدّانات من الأراضي الغابية المحيطة بالمحطة. أجبر الوضع على ترحيل ما لا يقل عن 30 ألف شخصٍ من منازلهم، كما تسبب في موت الآلاف جراء إصابتهم بالسرطان وأمراض أخرى.

اتسم تصميم محطة تشرنوبيل بالسوء وغياب المعايير الضرورية، ما استدعى عنايةً بشريةً دائمةً للحفاظ على المفاعل من التعرض للأعطاب. وفي وقتنا الراهن، تتطلب المحطات العصرية إشرافًا دائمًا من طرف التقنيين للتأكد من استمرار نشاطها. كما تبقى أفضل المحطات تصميمًا ومراعاةً لمعايير السلامة دائمًا عرضةً للكوارث الطبيعية.

في يوم الجمعة الموافق لتاريخ 11 آذار/مارس 2011، ضرب اليابانَ أعنفُ زلزالٍ في التاريخ المعاصر، خُفِّضت على إثر ذلك (بواسطة استجابة مبرمجة) قضبان التحكّم (التي فصّلناها سابقًا) جميعها، واضعةً حدًّا لكلّ التفاعلات الانشطارية في غضون 10 دقائق، لكننا لا نستطيع بكبسة زرٍ، لسوء الحظ، تعطيل كل ذلك النشاط الإشعاعي بالمحطة، كما تواصل النفايات النووية، كما شرحنا سابقًا، توليد الحرارة لسنواتٍ تلي استخدامها لأول مرةٍ بمحطة الطاقة، وعلى هذا المنوال، تحافظ هذه النفايات على إنتاج الحرارة عبر عملية التفكك Decay process في الساعات القليلة التي تلي إغلاق المفاعل النووي. 

أدى زلزال مارس 2011 إلى ارتفاع موجة تسونامي قاتلةٍ دمّرت مولّدات الديزل الاحتياطية التي كانت تُشغّل مضخات التبريد المائية والتي لجأت إليها المُنشأة عند تعذّر الحصول على الطّاقة من شبكة كهرباء اليابان العمومية. داخل المفاعل، تُوزِّع هذه المضخات الماء المسؤول عن إزالة الحرارة الناجمة عن انحصار النشاط الإشعاعي. ترتَّبَ عن تدمير تلك المولدات وتوقف توزيع المياه ارتفاعٌ لدرجة حرارة وضغط المياه داخل المفاعل، إضافةً إلى ذلك، بدأ النشاط الإشعاعي للمفاعل بتقسيم الماء إلى أكسجين وهيدروجين طيار volatile hydrogen، هذا الأخير الذي تسببت انفجاراته في صدوعٍ على مستوى صفائح الاحتواء الفولاذية.

بعبارةٍ أبسط: استعانت منشأةُ فوكوشيما داييتشي بعدّة إجراءاتٍ احترازيةٍ من شأنها إيقاف العمليات في حال حدوث نشاطٍ زلزاليٍّ عنيفٍ، لكنها لم تأخذ في الحسبان احتمالية انقطاع الطاقة عن مضخات التبريد الخاصة بها. 

تبقى أحداثٌ مثل المنشأة النووية اليابانية فوكوشيما داييتشي، والروسية تشرنوبيل، والأمريكية جزيرة ثري مايلز Three miles Island بقعةً سوداء في سجل صناعة الطاقة النووية، تاركةً في الظل بعضًا من الإيجابيات التي تمنحها هذه التكنولوجيا للبيئة.


للأمانة العلمية، أعنف زلزال تم تسجيله هو زلزال Valdivia بالشيلي سنة 1960، الذي بلغت قوته 9.5 على مقياس رختر. 

∗ إلكترون فولت eV) Electron Volt) هي وحدةٌ متناهية الصغر لقياس الطاقة، اخترعها الفيزيائيون والكيميائيون لتسهيل الحسابات عند دراسة الذرة ونواة الذرة والجسيمات الأولية "أو الإلكترونات"، نظرًا لأن وحدة الطاقة "الجول" كبيرةٌ جدًّا لتطبيقها على دراساتٍ متعلقةٍ بالذرات والإلكترونات، بحيث 1eV=1.6023 x 10-19). 

∗ 1 قالون = 3.78 لتر.

∗ الزجاج عنصرٌ كيميائيٌ غير متبلور عديم الشكل amorphous يستطيع الاندماج مع كمٍّ كبيرٍ من العناصر الأخرى ذات التركيبات المختلفة، تجعل منه خاصية انعدام التبلور غير حساسٍ لتأثيرات الإشعاع Radiation effects وانحصار النشاط الإشعاعي radioactive decay، إضافةً إلى هذا، يتميز الزجاج بسهولة التشكيل والمتانة. تجعل كلّ هذه الخصاص وغيرها من الزجاج خيارًا ناجحًا للحدّ من النشاط الإشعاعي للعناصر المشعة كاليورانيوم. (المصدر physicstoday.scitation.org).

 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • الالكترون (Electron): جسيم مشحون سلبياً، ويُوجد بشكلٍ عام ضمن الطبقات الخارجية للذرات. تبلغ كتلة الالكترون نسبة تصل إلى حوالي 0.0005 من كتلة البروتون.
  • الهيدروجين (hydrogen): أخف العناصر الكيميائية وأكثرها وفرةً. تتألف ذرة الهيدروجين من بروتون والكترون. يُؤلف الهيدروجين ما يصل إلى 75% من الكتلة الإجمالية للشمس، لكنه يُوجد على الأرض بنسبة ضئيلة جداً. المصدر: ناسا

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات