النفق الكمومي ومبدأ عدم اليقين

تتمثل إحدى نتائج خاصية الضوء الموجية في قدرته على عبور الحواجز. على سبيل المثال، يعبر الضوء الذي يخترق حاجز من الزجاج عند زاوية صغيرة بشكلٍ فعال بواسطة حاجز الهواء إلى الجانب الآخر، في حال لم يتم وضع حاجز زجاجي آخر قريب من الحاجز الأول (دون أن يلمسه). وبسبب طبيعة انتشار الموجة، فإن بعضها يخترق حاجز الهواء، وإذا صادف المزيد من الزجاج خلال مساره فإنه يستمر بالعبور، أي عبور الفجوة الهوائية والخروج من سجنه (الزجاج).


يحدثُ أمرٌ مشابه لذلك عند المستوى دون الذرّي، عندما تحاول جسيمات ألفا الهروب من نواة غير مستقرة خلال التحلل الإشعاعي. إن جُسيمات (ألفا) مرتبطة بصورة وثيقة بالنواة الذرية بواسطة القوى النووية القوية ومن حيث المبدأ يجب ان تكون عاجزة عن الهروب، وبالرغم من ذلك فإنها تتمكن من الهرب بواسطة عملية تُدعى (النفق الكمومي) التي تعتمد على الطبيعة الموجية للجُسيمات والتي تعُرف أيضا بمصطلح (عدم اليقين) كما سأوضح ذلك بالتفصيل أدناه.


بسبب الخاصية الموجية للجُسيمات والقدرة على تمثيل جسيم ما بموجة احتمالية كما نعلم سابقاً تتنبأ فيزياء الكم بأن هناك احتمالاً محدوداً لجُسيم محتجز خلف حاجز (لا يملك طاقة كافية للعبور) بأن يظهر على الجهة المقابلة للحاجز من دون أن يعبر من خلال الحاجز نفسه. على سبيل المثال، هناك احتمال ما ،رغم صِغر حدوثه، لإلكترون يقترب من حقل كهربائي يصده عن العبور، بأن يظهر هذا الإلكترون على الجانب الآخر للحقل الكهربائي دون المرور به. كما في الصورة أدناه

 

Source: U. of Oregon Lectures
Source: U. of Oregon Lectures

 

إن إمكانية رصد الجُسيم على الجانب الآخر من الحاجز تُسمى باسم (النفق) وعلى الرغم من عدم وجود تأكيدٍ مادي يدعم ذلك، إلا أن أفضل طريقة هو تخيّل موجة كبيرة تقترب ومن ثم تتداخل خلال حاجز ما، بالرغم من أن القسم الأكبر من الموجة لا يتجاوز الحاجز اطلاقاً إلا أن قسماً صغيراً منها يتمكن من ذلك مما يسمح للجُسيم ذي الخاصية الموجية أن يوجد فجأة على الجانب الآخر من الحاجز.


وقد عرّف الفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ (Werner Heisenberg) لأول مرة مبدأ عدم اليقين في عام 1926 على أنه نتيجة طبيعية للجُسيمات ثنائية الخصائص (موجة-جُسيم). لقد أدرك أنه من المستحيل رصد جسيمات دون ذرية مثل الإلكترون بواسطة المجهر الضوئي العادي، بغض النظر عن مدى قوته، لأن الإلكترون أصغر من طول موجة الضوء المرئي. لذلك افترض مجهراً خيالياً يستخدم أشعة غاما (التي لها طول موجي أصغر بكثير من الإلكترون) بدلاً من الضوء المرئي. ولكن نظراً لأن أشعة غاما تملك طاقة أكبر بكثير من الضوء المرئي، حينها سيكون لها تأثيراً في تغيير سرعة واتجاه الإلكترون بطريقة لا يمكن التنبؤ بها ولا يمكن التحكم فيها. لذلك فإن حلّ جزء من المشكلة سوف يولّد مشكلة أخرى ضرورية مما يولد عدم تأكد، وهكذا.


في الحقيقة، من خلال تجربته الافتراضية "المجهرية" الشهيرة ، أدرك هايزنبرغ أن شيئاً مشابهاً يحدث إلى حد ما عند الرصد بواسطة المجهر العادي. لقياس موقع وسرعة الجسيم، يمكن تسليط الضوء عليه، وثم يتم الرصد عند حصول الانعكاس. عند المقاييس الكبيرة تعمل هذه الطريقة بشكل جيد، ولكن على المقاييس دون الذرية، فإن فوتونات الضوء التي تضرب الجسيم دون الذري ستؤدي إلى تحركه بشكلٍ ملحوظ. لذا على الرغم من أنه قد يكون قد تم قياس موقع الجُسيم بدقة، فإن سرعة الجسيم ستتغير، ومن خلال معرفة الموقع، فإن أي معلومات كانت معروفة سابقاً عن السرعة قد أصبحت غير مفيدة. وبعبارة أخرى، يؤثر فعل الرصد ذاته على حالة الجُسيم المرصود.


أدرك هايزنبرغ حينها، أن قيم أزواج معينة من المتغيرات لا يمكن قياس كليهما بالضبط، فكلما زادت دقة قياس أحد المتغيرات فإن المتغير الآخر ستقل دقة قياسه. فإذا كانت السرعة (أو بصورة أدق الزخم) للجسيم معروف تماماً، فيجب أن يكون موقعه غير مؤكد؛ وعلى العكس، كلما كان موقعه معروفاً، كانت سرعة الجسيم (أو الزخم) أقل تأكيداً. وبالمثل، إذا كانت حالة الطاقة للجسيم معروفة على وجه الدقة، فلا يمكن تحديد المدة التي سيبقى فيها في تلك الحالة (والعكس بالعكس). بمعنى رياضي، برهنَ أن عدم اليقين في موقع الجسيم مضروباً بـ عدم اليقين في سرعته مضروباً في الكتلة لا يمكن ان يكون أقل من قيمة معينة أطلق عليها تسمية (ثابت بلانك).

 

Original Source N/A: kutl.kyushu-u.ac.jp/ seminar/MicroWorld2_E/2Part1_E/ 2P14_E/Heisenberg_QM_E.htm
Original Source N/A: kutl.kyushu-u.ac.jp/ seminar/MicroWorld2_E/2Part1_E/ 2P14_E/Heisenberg_QM_E.htm

 

ومع ظهور مبدأ عدم اليقين، لم يعد من الممكن القول بعد ذلك بأن الجسيمات تملك مواقع وسرعات منفصلة ومحددة بشكل تام، وإنما تملك فقط "حالة كمومية"، وهي مزيج من موقع وسرعة الجُسيم. لذلك لم يكن بالإمكان معرفة قيم جميع خصائص النظام في نفس الوقت ، ويتم وصف الخصائص غير المعروفة بدقة عن طريق الاحتمالات. ينقض المبدأ الذي ضرب فعلياً في ضربة واحدة عقيدة الحتمية العلمية التي تم افتراضها منذ نيوتن ولابلاس في القرن السابع عشر، وأعاد تعريف مهمة الفيزياء كاكتشاف القوانين التي ستسمح لنا بتوقع الأحداث بأنها مقيدة بحدود يحددها مبدأ عدم اليقين.


بطريقة ما، وُجد مبدأ عدم اليقين لحماية نظرية الكَمِّ، حيث أنه لو كان من الممكن معرفة خواص الذرات والجزيئات بدقة، سيتفكك ترابط هذه الخصائص، ومن ثم يدمّر سلوكها الموجي وقدرتها على التداخل. وبالتالي، هناك حدٌ مثبت لمعرفتنا للعالم دون الذري، وأن الطبيعة لا تسمح لنا بقياس كل ما نرغب في قياسه بدقة. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن مبدأ عدم اليقين ليس سببه تنفيذ قياسات غير دقيقة (التكنولوجيا متقدمة بما يكفي لإيجاد قياسات دقيقة افتراضياً)؛ بدلاً من ذلك، فإن الضبابية في دقة قياس خصائص الجُسيم (الكتلة والسرعة والموقع) هو خاصية أساسية للطبيعة نفسها، ولا تعتمد على نوع الجسيم أو طريقة القياس.

 

Source: TutorVista
Source: TutorVista

 

بالعودة الى السؤال السابق "لماذا لا تفقد الإلكترونات الطاقة أثناء دورانها حول النواة تدريجياً لكي ينتهي بها الأمر داخل نواة الذرّة؟".

إن مبدأ عدم اليقين هو من يمنع الإلكترونات من الاقتراب من نواة الذرة، لأنه عندما تقترب كثيراً من النواة فإن موقعها في الفضاء يصبح معروفاً تماماً وبالتالي فان سرعتها سوف تكون غير مؤكدة جداً وقد تكتسب سرعةً هائلةً بما يكفي تضمن عدم بقائها محصورةً داخل النواة.


بالطريقة نفسها، يفسر مبدأ عدم اليقين كيفية قدرة جسيم ألفا على الهروب من نواة ذرة مشعة (التحلل الإشعاعي). عندما تكون جُسيمات ألفا محاصرة داخل النواة يكون موقعها مؤكداً بدقة كبيرة. لذا وفقاً لمبدأ عدم اليقين، يجب أن تكون سرعته غير مؤكدة للغاية، وربما أكبر بكثير مما يمكن توقعها، وبما يكفي للهروب من النواة.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

اترك تعليقاً () تعليقات