عندما يُصبح العلم قبيحاً – قصّة فيليب لينارد و ألبرت أينشتاين

يسلّط الخلاف بين فيليب لينارد Philipp Lenard وألبرت أينشتاين Albert Einstein الضوء على قدرة الأمور التي لا تتعلّق بالعلم على التأثير في العلماء.


حقوق الصورة: ناسا عبر موسوعة ويكيميديا


ليس منهج العلماء علميّاً دائماً كما يتصوّر الكثيرون. فقد أثبتت حالات نُشرت أخيراً حالات احتيالٍ وخداع في العلم وأن العلماء يمكن أن يكونوا عرضة لإغواءات المال والسلطة والشهرة تماماً كالسياسييّن، الجماعة التي تحظى بأقلّ نسبة من ثقة الشعب. وقد ظهرت حالات حديثة، بنتائج مزيّفة في تطوير لقاح لفيروس نقص المناعة المُكتسبة HIV بالإضافة إلى تقنيات جديدة في إنتاج الخلايا الجذعيّة.


تُثبت هذه الحالات أن العلماء لايبنون أعمالهم دائماً على التجارب الدقيقة، ولا على جمع البيانات والتحليل، أو على الافتراض والتّجربة. بل الحقيقة أن العلماء يتناقضون مراراً فيما بينهم، سواء كان ذلك على المستوى الشخصيّ أو على مستوى تمثيل المذاهب الفكرية المتنافسة. وبعض هذه المجادلات قد يستعر سنوات. فقد كانت نظريّة الأوتار الفائقة والتي تدعى أحياناً بـ "نظريّة كلّ شيء" محطّ جدل قويّ على مدى أكثر من ثلاثين عاماً.


في بعض الحالات، تدخل المسائل الشخصيّة والتحيزات والغيرة في الصورة. فعلى سبيل المثال، أحد أعظم خلافات القرن العشرين في علم الفيزياء، كان سباقاً طويلاً بين فيزيائيّين معروفين عالمياً . إذ يسلّط هذا التنافر بين فيليب لينارد و ألبرت أينشتاين الضوء على قدرة الأمور التي لا تتعلّق بالعلم في التأثير في العلماء.


كان فيليب لينارد (1862-1947) عالماً ألمانيّا في الفيزياء التجريبيّة، عمل على تطوير دراسة أنابيب الأشعّة السينيّة، والأثر الفوتوإلكترونيّ والنظريّة الذريّة. وقد قادته نتائجه إلى الاقتراح (بشكل صحيح) أنّ الذرّة بمعظمها فراغ. كان لينارد عبقريّاً وينبثق عمله من اقتناع عميق بأن التجارب الدقيقة هي وحدها التي ستطور فهماً لبنية الكون. وكان قد تلقّى جائزة نوبل للفيزياء عام 1905 لعمله على الأشعّة المهبطيّة.


وفي المقابل، كان ألبرت أينشتاين (1879-1955)، الغنيّ عن التعريف، عالماً سويسريّاً في الفيزياء النظريّة. كان قد طوّر نظريّات النسبيّة الخاصة، والنسبيّة العامّة، ومكافئ الكتلة والطاقة \(E = mc^2\)، والأثر الفوتوإلكترونيّ – وتعتمد هذه الأخيرة على نتائج تجريبيّة أساسيّة مهّد لها عمل لينارد. وإنّه لأمر مدهش كيف قام أينشتاين بالعديد من أعماله على خلاف لينارد أثناء إدارته لمختبر في جامعة ذات مقامٍ عالٍ، بل بينما كان يعمل موظّفاً سويسريّاً ذا درجة منخفضة في مكتبٍ لبراءات الاختراع. حصل أينشتاين على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1921 لاكتشافه قانون الأثر الفوتوإلكترونيّ.

كانت علاقة لينارد وأينشتاين في البداية تبدو ودّية؛ إذ أوحى انسجامهما بأن كلا منهما يكنّ إعجاباً للآخر. وعندما نشر أينشتاين نظريّته الخاصّة بالكم شارحاً فيها الأثر الفوتوإلكترونيّ كتب له لينارد التالي: "لا يمكن لأيّ شيء أن يجعلني أكثر سعادة من مفكّر متعمّق ومتبصّر يتلذّذ بعملي". وقد أشار أينشتاين بدوره إلى لينارد واصفاً إيّاه بـ "المدرّس العظيم والعبقريّ".


ولكن كما يذكر كتاب آخر اسمه "الرجل الذي طارد أينشتاين (The Man Who Stalked Einstein)"، فإنّ علاقتهما سرعان ما تدهورت. فبعد عدّة سنوات عبّر أينشتاين في رسالة له إلى أحد أصدقائه عن وجهة نظر مختلفة عن لينارد الذي كان يُعتبر أشهر الفيزيائيّين في ألمانيا: "تبدو نظريّاته عن الأثير "ether" وكأنّها طفوليّة وبعض أبحاثه تبدو سخيفة ومثيرة للضحك. وإنّي لحزين جدّاً أنّه يتعين عليك أن تضيّع وقتك على تلك الحماقات".


كان لينارد في تلك الأثناء منساقاً مع موجة القوميّة الألمانيّة التي ترافقت مع الحرب العالميّة الأولى. وكانت قناعاته تتزايد باستمرار عن وجود فيزياء ألمانيّة مميّزة يجب الدفاع عنها وحمايتها من السرقة أو من أعمال التزييف الصادرة من البلدان الأخرى. كما توغّل لينارد أكثر فأكثر في معاداته للساميّة باتهامه لـ "الصحافةاليهوديّة" بالترويج لعمل أينشتاين الخطير في النسبيّة بالإضافة إلى اتهامات بأمور أخرى.


وفي العام 1920، أي قبل أن يحصل أينشتاين على جائزة نوبل بعام واحد، اشتعل الجدل بين لينارد وأينشتاين وتحوّل الأمر إلى مبارزة كلاميّة في أحد المؤتمرات المهمّة للبحث بألمانيا.


وقد حاول لينارد أن يُبيّن أنّ منهج أينشتاين المتمثّل في الإفراط في استخدام المنهج النظريّ والرياضيّات في الفيزياء يسبّب تأثيراً ضارّاً على هذا المجال. وقد قال بأنّ الأوان قد حان لاستعادة المنهج التجريبيّ إلى مكانه الصحيح. كما أنّه قد بدأ بهجوم حقود على أينشتاين غير آبه لإظهار بغضه لليهود.

تزايدت قساوة هجوم لينارد على أينشتاين، وقارن المختصّين بالفيزياء النظريّة بالرسّامين التكعيبيّين، الذين في رأيه "غير قادرين على الرسم بشكل جيّد". كما أنّه رثى حقيقة أنّ "روحاً يهوديّة" قد سيطرت على الفيزياء. أمّا رأيه في أينشتاين، الذي قُبلت أفكاره من قبل كثير من الفيزيائيّين البارزين حول العالم فهو أن: "مجرد ولادة الماعز في اسطبل لن يجعل منها حصاناً أصيلا" .

في البداية حاول أينشتاين أن يردّ على هجمات لينارد باتجاه نظريّة النسبيّة بالدعابة قائلاً :


"عندما تغازل فتاة جميلة ستشعر بمرور الساعة كثانية، ولكن إذا جلست على جمرٍ فستشعر بالثانية الواحدة كأنّها ساعة، تلك هي النسبيّة". وقد تخلّى لاحقاً عن التظاهر بالصبر والتسامح ونعت لينارد بـ "الشخص المختل" الذي يجب عليه أن يتابع "القيام بأعماله مع المسخ حتى مماته".

كانت قناعات لينارد بأنّ العلم "ككلّ شيء ينتجه الإنسان"، هو أمر محتوم بالدم، مما جعل منه من أوائل أتباع القوميّة الإشتراكيّة. إذ أنّ لينارد، وبخلاف العديد من العلماء الألمان الذين ازدروا أدولف هتلر، كان من مؤيّديه المتحمّسين، وقد أصبح السلطة الفيزيائيّة الأولى في نظام هتلر. ولسخرية القدر فقد كان ازدراء القوميّين الإشتراكيّين لـ "الفيزياء اليهوديّة" أحد أهمّ أسباب عدم قدرتهم على تطوير الأسلحة النوويّة.


وجّه لينارد هجمات القدح والذمّ تلك إلى علماء آخرين. إذ إنّه أبدى استياءً شديداً لنسب الفضل لويليم رونتجين Wilhem Roentgen، الذي تلقّى جائزة نوبل الأولى في الفيزياء لاكتشافه الأشعّة السينيّة، وذلك على الرغم من كون رونتجين ألمانيّاً ليس يهوديّاً. وقد كتب لينارد أنّه هو وليس رونتجين من كان "أب الأشعّة السينيّة"، بما أنّه هو من اكتشف الجهاز الذي يُستخدم لإنتاجها. وقد شبّه دور رونتجين بـالقبالة التي بالكاد تساعد في عمليّة الولادة.


أصبح لينارد في النهاية "قائد الفيزياء الآريّة" تحت حكم النظام النازيّ. وقد نشر كتاباً في العام 1933 يُدعى "رجالٌ عظماء في العلم" Great Men in Science وقد أغفل أيّ ذكر لأينشتاين ورونتجين وعدد من علماء القرن العشرين المتميّزين كماري كوري Marie Curie.


أدّى الدور البارز الذي أداه لينارد في النظام النازيّ إلى اعتقاله إبّان نهاية الحرب العالميّة الثانية، ولكنّه كان رجلاً مسناً حينها، وبدلاً من الحكم عليه بالسجن أُرسِل إلى قرية ألمانيّة صغيرة ليكمل ما تبقّى من حياته، حيث مات فيها عن 83 عاماً. تُذكّرنا قصّة فيليب لينارد بأنّ العلماء على أعلى المستويات أيضاً قد يفكّرون أو يتكلّمون أو يتصرّفون أحياناً بأساليب غير علميّة أبداً، متأثرين بالانحيازات التي ليس لها أيّ أساس علميّ. إنّهم من بني البشر أيضاً، ويجب التمييز بين العالم الذي يسخّر حجته بناءً على أدلة ومن ينبثق رأيه من منطلقات أخرى، أي من مصادر أقلّ إقناعاً.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات