المصادم الكوني

يعوِّل الفيزيائيّون على علاقةٍ مباشرةٍ بين أكبر الهياكل الكونيّة وأصغر الأجسام المعروفة لنا لاستغلال الكون فيما يُسمّى "المصادم الكونيّ" ليتمكّنوا من البحث عن فيزياءٍ جديدةٍ.

وأكبر ما يرصده الفلكيّون من هياكل في الكون باستخدام التلسكوبات هي الخرائط ثلاثيّة الأبعاد لمجرّاتٍ على امتداد الكون بالإضافة لما تبقّى من إشعاعٍ من الانفجار الأعظم Big Bang، أو ما يُسمّى بالإشعاع الخلفيّ الميكرويّ (CBM). أمّا الجسيمات الأولية دون الذرّيّة فهي أصغر ما في الكون من أجسامٍ يعرفها ويدرسها فيزيائيّو الجسيمات مستخدمين في ذلك مصادمات الجسيمات.

 


وقد استغل فريقٌ مكوَّنٌ من كلٍّ من شينجانج شين Xingang Chen من مركز هارفارد سميثسونيان للفيزياء الفلكية، ويي وانج Yi Wang من جامعة هونغ كونغ للعلوم والتكنولوجيا، وزونج زي شيانيو Zhong-Zhi Xianyu هذه المقاربة بالحجم في أقصى طرفيها لاختبار الفيزياء الأساسيّة بطريقةٍ مبتكرةٍ. وقد وضّحوا كيف أنّه من الممكن استنتاج خصائص الجسيمات الأوّليّة في النموذج المعياريّ لفيزياء الجسيمات من خلال دراسة أكبر الهياكل الكونيّة. وقد حدث هذا الربط بعمليّة تدعى التضخّم الكوني cosmic inflation.


يُعدّ التضخّم الكونيّ أكثر السيناريوهات النظريّة قبولًا في تفسير ما سبق الانفجار الأعظم. وتُنبئنا هذه النظريّة بأنّ حجم الكون توسَّع بتسارعٍ نسبته مذهلة في أوّل جزءٍ من الثانية بعد خَلْق الكون مباشرةً. وقد كان هذا الحدث ذا طاقةٍ عظيمةٍ تخلّقت خلاله كلّ الجسيمات في الكون وتفاعل بعضها مع بعضٍ. ويشابه هذا الحدث البيئة التي يحاول الفيزيائيّون استحداثها في المصادمات على الأرض، طبعًا باستثناء أنّ الطاقة هناك تفوق الطاقة في أيّ مصادمٍ يمكن للبشر بناؤه بعشرة مليارات مرّة.


وقد بدأ التضخّم بعد الانفجار الأعظم حيث استمرّ الكون بالاتساع لأكثر من ثلاثة عشر مليار عامٍ ولكن تباطأ معدّل هذا الاتساع بمرور الوقت. كما توسّعت الهياكل المجهريّة التي تخلّقت أثناء هذا الحدث، ذي الطاقة الكبيرة، عبر الكون ما نتج عن ذلك مناطق أكثر أو أقلّ كثافةٍ بقليلٍ من المناطق التي حولها فيما لو كانت في بداية الكون ذي التركيبة المتجانسة. كما أنّ هذه المناطق الأكثر كثافةٍ جذبت مع تطوُّر الكون كمًّا أكبر من المادّة نظرًا لقوّة جاذبيّتها. في النهاية، بذرت هذه البُنى المجهريّة الأولية الهيكلَ واسع المدى لكوننا كما حدّدت أمكنة المجرّات على امتداد الكون.

يبني الفيزيائيّون والمهندسون في المصادمات الأرضيّة أدواتٍ لقراءة النتائج لأحداث التصادم. ويبقى السؤال كيف بإمكاننا قراءة المصادم الكونيّ.


وبحسب قول شينجانج شين: "لقد اكتشفنا قبل عدّة سنواتٍ أنا ويي وانج بالإضافة لنيما أركاني-حامد Nima Arkani-Hamed وخوان مالداسينا Juan Maldacena في المعهد المتقدّم للدراسات، بالإضافة إلى مجموعاتٍ أخرى، أنّ نتائج هذا المصادم الكونيّ مشفرةٌ ضمن إحصائيّات الهياكل المجهريّة الأولية.


فهي تُطبع مع مرور الوقت في إحصائيّات التوزيع المكانيّ لمحتويات الكون كالمجرّات والإشعاع الخلفيّ الميكرويّ الذي يُرصد حاليًّا في الكون. وبإمكاننا من خلال دراسة خصائص هذه الإحصائيّات معرفة المزيد عن خصائص الجسيمات الأوّليّة".


كما أنّه من المهمّ جدًّا، كما في المصادمات الأرضيّة وقبل استكشاف العلماء فيزياء جديدةً، فهم سلوك الجسيمات الأساسيّة في هذا المصادم الكونيّ كما وُصِّفت في النموذج المعياريّ لفيزياء الجسيمات.


ويشرح زونج زي شيانجيو: "كما أنّ للرقم النسبيّ للجسيمات الأساسيّة ذوات الكتل المختلفة، أي ما ندعوه بالمطياف الكتليّ mass spectrum، في النموذج المعياريّ نمطٌ خاصّ، ما يُمكن اعتباره كبصمةٍ للنموذج المعياريّ. ولكن تتغيّر هذه البصمة بتغيّر الوسط المحيط وستبدو مختلفةً في وقت التضخّم اختلافًا كبيرًا عن ما هي عليه الآن".


ووضّح الفريق كيف سيبدو المطياف الكتليّ للنموذج المعياريّ في عدّة نماذجٍ للتضخّم، كما أنّهم وضّحوا كيف أنّ هذا المطياف الكتليّ مطبوعٌ في الشكل الهيكليّ للنطاق العام للكون. وتمهّد هذه الدراسة الطريق أمام اكتشاف فيزياء جديدةٍ.


ويكمل يي وانج: "إنّ الرصد المتواصل للإشعاع الخلفيّ الكونيّ بالإضافة إلى الهيكليّة العامّة قد حقّقا لنا دقّةً مذهلةً في معلوماتٍ قد تساعدنا على استنباط كيفيّة استخراج تشكيل الهياكل الأوّليّة المجهريّة، فأيّ رصدٍ في هذا المصادم الكونيّ لإشارةٍ تختلف عن طبيعة الجسيمات في النموذج المعياريّ ستُعتبَر إشارة لفيزياء جديدةٍ".


يُعدّ هذا البحث خطوةً صغيرةً باتجاه حقبةٍ مثيرةٍ ستُظهر لنا الدقّة الكونيّة فيها طاقتها الكاملة.


ويضيف شيانيو: "أمّا إذا حالفنا الحظّ بشكلٍ كافٍ لنرصد هذه البصمات فلن نتمكّن من دراسة فيزياء الجسيمات والمبادئ الأساسيّة للكون البدائيّ وحسب، بل سنتمكّن من فهم التضخّم الكونيّ بشكلٍ أفضل، ويبقى أمامنا كونٌ برمّته من الأسرار لنستكشفه في هذا الخصوص".


تفاصيل هذا البحث متاحةٌ في ورقةٍ علميّةٍ نُشرت في مجلّة Physical Review Letters في 29 حزيران/يونيو 2017. كما تتوافر نسخة ما قبل الطباعة على شبكة الإنترنت.


مركز هارفارد- سميثسونيان للفيزياء الفلكيّة، الموجود في مدينة كامبريدج بولاية ماساتشوسيتس، هو عملٌ مشترك بين مرصد سميثسونيان للفيزياء الفلكيّة ومرصد كلّيّة هارفارد. ويدرس علماء المركز، الموزّعون على ستة أقسامٍ للبحوث، أصل الكون وتطوّره ومصيره النهائيّ.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات