يمكنك الاستماع إلى المقال عوضاً عن القراءة
سر الهرم الأكبر

بُني الهرم الأكبر بمدينة الجيزة قبل نحو 4500 سنة خلت. حقوق الصورة: Mikhail Nekrasov/Shutterstock

 
يعتبر الهرم الأكبر الشاهق بمدينة الجيزة المصرية -على الرغم من كونه غير متوازن قليلًا- عملًا هندسيًا فذًا ضاربًا في القدم. وقد تمكن مؤخرًا عالم من علماء الآثار من معرفة الطريقة التي انتهجها المصريون لضمان تناسقٍ شبه مثالي لهذا الصرح مع الجهات الرئيسية (الشرق، الغرب، الشمال، الجنوب)، ألا وهي الاعتماد على الاعتدال الخريفي.
 
يحدث الاعتدال الخريفي في المدة التي تتوسط حدوث الانقلابين الصيفي والشتوي، حيث تكون زاوية ميلان الأرض في الوضعية التي يتساوى فيها تقريبًا طول الليل والنهار.
 
قبل نحو 4500 سنة مضت، أمر الفرعون المصري خوفو بتشييد الهرم الأعظم بالجيزة. بطول نحو 455 قدمًا (138 مترًا)، يعتبر الهرم الأعظم الأكبر بين الأهرامات الثلاثة التي تقف على هضبة الجيزة، وقد صنّف كاتبون قدامى هذا الأخير كواحدة من عجائب الدنيا.
 
اتّضح أنّ بُناة الهرم قد صمّموا -بطريقة ما- هذه الأعجوبة بدقة شديدة، إذ كتب جلين داش Glen Dash (مهندسٌ درس أهرامات الجيزة) بحثًا نُشر في جريدة الهندسة المصرية القديمة The Journal of Ancient Egyptian Architecture يقول فيه: "جعل بُناة هرم خوفو الأكبر تراصُف هذا الصرح مع الجهات الرئيسية دقيقًا، إذ كان التراصف أفضل من 4 دقائق للقوس الواحد، أو واحد من خمسة عشر (1/15) من الدرجة الواحدة".
 
كما يشير داش إلى أن كلًا من هرم خفرع (المتواجد أيضًا بالجيزة) والهرم الأحمر (المتواجد بموقع دهشور) كانا على دقة عالية من التراصف، حيث كتب قائلًا: "يتجلى نفس الخطأ الهندسي لدى الأهرامات الثلاثة: جميعها منصرفة قليلًا عكس عقارب الساعة عن الاتجاهات الأساسية".
 
لما يقارب القرن من الزمن، أعطى الباحثون اقتراحات عديدة عن الطرق التي استعملها المصريون القدامى لضمان هذا التراصف الدقيق للأهرامات مع الاتجاهات الأساسية. من جهة أخرى يعرض داش في بحثه كيفية استعمال الطريقة التي يتم من خلالها استغلال الاعتدال الخريفي.
 
الظلال في كونتيكت والجيزة
في يوم الاعتدال الخريفي، ثبت خبير مسح الأراضي قضيبًا على السطح، وتتبع ظلّ هذا الأخير عبر فترات اليوم. كانت النتيجة خطًا شبه مستقيم يمتد من الشرق إلى الغرب. حقوق الصورة: Wilma Wetterstorm
في يوم الاعتدال الخريفي، ثبت خبير مسح الأراضي قضيبًا على السطح، وتتبع ظلّ هذا الأخير عبر فترات اليوم. كانت النتيجة خطًا شبه مستقيم يمتد من الشرق إلى الغرب. حقوق الصورة: Wilma Wetterstorm
أجرى داش بتاريخ 22 أيلول/سبتمبر 2016 (الموافق لتاريخ الاعتدال الخريفي) تجربة بالمكان المعروف بـ بونفريه بمدينة كونتيكت الأمريكية Pomfret, Connecticut، حيث قام بتثبيت قضيب (يسمى أيضًا عقرب المِزولة من طرف خبراء مسح الأراضي المعاصرين) على قاعدة خشبية، وأخذ وضعية ظل هذا الأخير (القضيب) عبر فترات اليوم.
 
كتب داش قائلًا: "في يوم الاعتدال، سيجد خبير مسح الأراضي أن نهاية الظل تمتد مشكلةً خطًا شبه مستقيم من الشرق إلى الغرب، بهامش خطأ ضئيل باتجاه عكس عقارب الساعة، وهو نفس هامش الخطأ الذي وُجِد لدى الهرم الأكبر، وهرم خفرع، والهرم الأحمر". ويضيف داش أيضًا أن ميل الأرض في الاعتدال الخريفي يسمح للظل بالامتداد من الشرق إلى الغرب بهذا الشكل.
 
تعمل هذه الطريقة -حسب ذات الباحث في تصريح لمجلة لايف ساينس Live Science- بنجاح في الجيزة أيضًا، رغم أن التجربة عليها قد أُجريت بمدينة كونتيكت. وكل ما احتاج إليه المصريون القدامى ويحتاج إليه خبراء مسح الأراضي في الوقت الراهن في سبيل إنجاح العملية هو يومٌ مشمسٌ صافٍ -على غرار كل الأيام في الجيزة- كما أن سحابةً عابرةً لن تطرح أي مشكلة. يُحتمَل من هذا المنطلق أنّ المصريين القدامى قد ثبتوا قضيبًا على قاعدةٍ خشبية بأرض الجيزة، كما يُحتمَل أنهم قد أدركوا أنّ تاريخ الاعتدال الخريفي سيصادف مرور 91 يومًا بعد الانقلاب الصيفي.
 
هل بالفعل اعتمد المصريون القدامى هذه الطريقة؟ 
من المرجح حسب داش أن التجربة سالفة الذكر قد اعتُمِدت لضمان تراصف الأهرامات الثلاثة، غير أن لجوء المصريين إليها يبقى أمرًا غير مؤكد، فقد اقتَرحت التجارب المنجزة خلال العقود القليلة الأخيرة عدة طرق للاستفادة من الشمس والنجوم لضمان تراصف هذه الأخيرة، كما لم يترك المصريون القدامى أي أثرٍ ملموس يُبيِّن الطريقة التي اعتمدوا عليها، حيث كتب داش في مقاله معقبًا على ذلك: "ترك لنا المصريون، لسوء الحظ، أدلة قليلة، إذ لم يُعثَر على وثائق هندسية ومُخطّطات معمارية من شأنها منحنا تفسيراتٍ تقنية عن الكيفية التي ضَمِن هؤلاء من خلالها تراصف أهرامهم و معابدهم، كما أنّه من الوارد استعمال طرق عديدة لذلك الغرض (تراصف الأهرام)".
 
تمتلك طريقة الاعتدال الخريفي ميزة خاصة هي أنها سهلة الاستعمال نسبيًا، على عكس الطرق الأخرى التي تكون عادة أكثر تعقيدًا وتتطلب خطوات أكثر، حيث يقول داش: "من الصعب تخيل طريقة أبسط مفاهيميًا وتطبيقيًا من طريقة الاعتدال الخريفي".
 
يُعتبر داش مؤسس مؤسسة جلين داش للبحث الأركيولوجي (الأثري) Glen Dash Foundation for Archeological Research، ويُجري أعمالًا بحثيةً في هضبة الجيزة بالتعاون مع جمعية أبحاث مصر القديمة Ancient Egypt Research Associates، كما سبق أن أجرى أعمال مسح بالرادار بوادي الملوك Valley of the Kings.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

اترك تعليقاً () تعليقات