النجاح بالخداع

قام علماء في مجال الفيزياء النظرية، من المعهد الاتحادي السويسري للتكنولوجيا في زيوريخ ETH، بتضليل أجهزة ذكية وخداعها، مما ساعد في تطوير عملية التعلم الآلي، أحد أفرع الذكاء الاصطناعي. وقد توصل العلماء إلى آلية جديدة من شأنها السماح لأجهزة الحاسوب بتصنيف البيانات حتى وإن لم يكن في ذهن العنصر البشري أي تصنيف محدد.

حين تتعرف أجهزة الحاسوب دون تدخل بشري على مسطحات مائية وحدود انتشارها من خلال صور الأقمار الاصطناعية، أو حين يتغلب أحد هذه الأجهزة على بطل العالم وأكثرهم احترافا في لعبة Go الشهيرة، فإنّ تفسير ذلك يكمن في وجود خوارزميات تكيفية تتغير وفق المعطيات المتوفرة.

يزود المبرمجون هذه الخوارزميات بأمثلة مختلفة في مرحلة التدريب، كاستخدام صور لليابسة ومسطحات مائية، أو حتى تزويدها بسلسلة تحركات في لعبة Go كانت قد أدت لفوز أو فشل في بطولات عالمية.

وتماما كما تعمل الخلايا العصبية في الدماغ على تكوين شبكات عصبية جديدة خلال عملية التعلم، تتكيف هذه الخوارزميات الخاصة مع الوضع الجديد خلال عملية التعلم اعتمادا على الأمثلة التي زُوّدت بها مسبقا. وتستمر هذه العملية حتى تتمكن الخوارزميات من التعرف على المسطحات المائية واليابسة في صور مجهولة، وأن تفرق بين الحركات الناجحة وتلك الفاشلة.

حتى الآن تُستخدم هذه الشبكات العصبية الصناعية في التعلم الآلي تحت تصنيفات معروفة متعلقة بعملية اتخاذ القرارات، فعلى سبيل المثال، معروف لدينا كيف يبدو مسطح مائي وما هو التحرك المناسب الذي سيضمن لنا الفوز في بطولة لعبة Go.

الفصل بين الغث والسمين

في الوقت الحالي، تعكف مجموعة من العلماء بإدارة البروفيسور سيباستيان هابر Sebastian Huber، الأستاذ في المجال النظري لفيزياء المادة المكثفة وعلم البصريات الكمومية في المعهد الاتحادي السويسري للتكنولوجيا في زيوريخ، على تطوير استخدامات هذه الشبكات العصبية عن طريق الخروج بآلية لا تسمح فقط بعملية تصنيف جميع أنواع البيانات، بل أيضا تتمتع بالقدرة على اكتشاف التصنيفات، إن وجدت، في حزم البيانات المعقدة. 

تُطرح مثل هذه الأسئلة في مجال العلوم، فعلى سبيل المثال آلية كهذه قد تكون نافعة في مجال تحليل قياسات مسرعات الجسيمات، أو في مجال الأرصاد الفلكية، وستُمكّن الفيزيائيين من استخراج أدق المقاييس من مجموعات بيانات القياس التي يصعب التعامل معها في الغالب.

 

كذلك، سيتمكن الصيادلة من تحديد احتمالية تأثير جزيئات ما على الأدوية أو تسببها بآثار جانبية محددة بتحليل قواعد بيانات كبيرة لهذه الجزيئات. وأيضا، سيستطيع علماء البيانات تصنيف مجموعات ضخمة من البيانات العشوائية لاستخلاص منها معلومات مفيدة منها (تعرف هذه العملية باستخراج البيانات).

رحلة البحث عن حد


طبّق فريق الباحثين من زيوريخ آليتهم على ظاهرة فيزيائية أُشبعت بحثا، وهي مشكلة نظام الأجسام المتعددة، الذي تتفاعل فيه ثنائيات الأقطاب المغناطيسية بحيث لا يصل إلى حالة التوازن حتى على المدى البعيد. وُصفت هذه الأنظمة مؤخرا، إلا أنّه لم يعرف بعد بالتفصيل أي الصفات الفيزيائية الكمية التي تمنع نظام الأجسام المتعددة من الوصول إلى حالة التوازن، وبشكل أدق، من غير الواضح أين يقع الحد الفاصل بين الأنظمة التي تصل إلى حالة التوازن وتلك التي لا تبلغها مطلقا.

وللوقوف على موقع هذا الحد، خرج العلماء بمبدأ سُمي مبدأ الادعاء أو التظاهر Act as if، إذ أخذوا بيانات من أنظمة كمومية ومن ثم وضعوا حدا عشوائيا اعتمادا على معيار واحد، واستخدموه لتقسيم البيانات إلى مجموعتين. وبعد ذلك، انتقلوا لتدريب شبكة عصبية اصطناعية بالتظاهر بأنّ احدى المجموعتين قد بلغت مرحلة التوازن والأخرى لم تفعل، أي أنّ الباحثين تصرفوا وكأنهم يعلمون أين هو الحد الفاصل.

إرباك العلماء للنظام

درب العلماء الشبكة مرات عديدة يصعب حصرها، وبوجود حد مختلف في كل مرة، ثم اختبروا قدرة الشبكة على فرز البيانات بعد كل مدة تدريب. وكانت النتيجة في أغلب الأحوال على النحو التالي: على غرار ما حصل مع العلماء، واجهت الشبكة صعوبة في تصنيف البيانات، إلا أنه في بعض الحالات كانت قدرتها على رسم الحد الفاصل بين المجموعتين دقيقة جدا.

وتمكن العلماء من إيضاح أنّ عملية الفرز والتصنيف تعتمد على موضع ذلك الحد، يقول إيفيرت فان نيوفينبيرج Evert van Nieuwenburg، طالب دكتوراه ضمن فريق البروفيسور هابر: "عن طريق تدريب الشبكة لاختيار حد بعيد جدا عن الحد الحقيقي (والذي أجهله شخصيا)، فأنا قادر على تضليلها. ويكمن هدفنا في تدريب الشبكة بشكل غير صحيح، وكما هو معلوم، فإنّ شبكة مدربة بشكل غير صحيح لا تعمل جيداً في مجال تصنيف البيانات".

 

لكن إن وقعت صدفة ما واختير حد وهمي قريب من الحد الحقيقي، فإنّ خوارزمية فعّالة ستنشأ. ومن خلال تقييم أداء الخوارزميات، تمكن الباحثون من الوصول للحد الفاصل بين الأنظمة الكمومية التي تصل إلى مرحلة التوازن وتلك التي لا تصل إليها، فالحد قريب من أي موضع تكون فيه قدرة الشبكة على التصنيف عالية ودقيقة.

وأوضح الباحثون إمكانيات آليتهم الجديدة باستخدام مشكلتين فيزيائيتين أخريين: الأولى هي مرحلة التحولات الطبوغرافية للأجسام الصلبة أحادية البعد، ونموذج ايسينج Ising model الذي يصف المغناطيسية داخل الأجسام الصلبة.

التصنيف دون معرفة مسبقة


يمكن أيضا شرح هذه الآلية الجديدة بشكل مبسط باستخدام تجربة ذهنية كمثال، تخيل مثلا لو أردنا تصنيف كرة حمراء، وكرة محمرة (ضاربة إلى الحمرة)، وكرة مزرقّة، وأخرى زرقاء إلى مجموعتين، ولنفترض أننا لا نملك فكرة عن أصل التصنيف الذي سنعتمده.

إذا دُربّت الشبكة على أنّ الحد الفاصل يقع في مكان ما في منطقة اللون الأحمر فذلك سيربكها. يقول هابر معلقا على ذلك: "تحاول تدريب الشبكة على أنّ الكرات الزرقاء والمحمرة متشابهة وتطلب منها أيضا التفريق بين اللون الأحمر والكرات الحمراء وهو أمر لن تتمكن الشبكة من القيام به".

وعلى صعيد آخر، لو رسمت الحد في منطقة طيف اللون البنفسجي فإنّ الشبكة ستتعرف على الفارق الحقيقي وستفرز الكرات إلى مجموعتين تحت اللون الأحمر واللون الأزرق. لكن لا ينبغي أن يُعرف مسبقا أنّ الحد الفاصل يجب أن يكون في منطقة اللون البنفسجي، فعن طريق مقارنة أداء فيما يخص فرز مجموعة مخاترة من حدود مختلفة، سيتم الوصول لهذا الحد حتى دون معرفة مسبقة.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

اترك تعليقاً () تعليقات