منذ أربعة عشر مليار سنة خلت، عندما كانت تلك البقعة الساخنة الكثيفة تمثّل كوننا المتوسّع بسرعة، كل المادة والمادة المضادة اللتان وُجِدتا، توجب أن تفني بعضها البعض ولا تخلِّف لنا شيئاً سوى الطاقة، وإلى الآن، نجت كميّة صغيرة من المادة.
انتهى بنا الأمر إلى عالمٍ مليءٍ بالجُسيمات، وليس فقط أيّ جُسيمات، بل جُسيمات ذات كتلٍ وشحناتٍ دقيقةٍ بشكلٍ كافٍ للسماح بالحياة البشرية. وفيما يلي بعض الحقائق عن فيزياء الجُسيمات الخاصّة بك، والتي تُكسبك قفزاتك الإلكترونيّة.
الجُسيمات التي ُصنعنا منها
حوالي 99% من جسدك يتكوّن من ذرّات الهيدروجين والكربون والنيتروجين والأكسجين. كما تتضمّن أيضاً كمياتٍ أقل من العناصر الأخرى التي تُعتبر أساسيّةً للحياة.
في حين تتجدد معظم الخلايا في جسمك كُل 7 إلى 15 عام، والعديد من الجُسيمات التي تُشكل تلك الخلايا موجودةٌ فعلاً مُنذ آلاف الملايين من السنين. حيث أُنتِجت ذرات الهيدروجين التي يتضمنّها جسمك في الانفجار الكبير (the big bang)، وصُنعت ذرات الكربون والنيتروجين والأكسجين في النجوم المُشتعلة. أمّا العناصر الثقيلة جداً في جسمك، فقد صُنعت في النجوم المُنفجرة.
يخضع حجم ذرّةٍ ما لـ الموقع الوسطي لإلكتروناتها، حيث تكون النوى أصغر بحوالي 100000 مرّة من الذرات التي تضمها. فإذا كانت النوى بحجم حبة فول سوداني، ستكون الذرّة بحجم ملعب كرة البيسبول تقريباً، وإذا خسرنا كل المساحة الميتة (الخالية) داخل ذراتنا، عندها سيكون كل فردٍ منّا قادراً على أن يُحتوى في جُسيمٍ من غبار الرصاص، والجنس البشري بأكمله سيُحتوى في حجمٍ مساوٍ لمكعّب السكر.
قد يتبادر إلى ذهنك أنّ هذه الجُسيمات المُتباعدة لا تشكل سوى جزءٍ صغيرٍ من كتلتك، ويتألف كلٌّ من البروتونات والنترونات داخل نواة الذرّة من ثلاثة كواركات. حيث أن كتلة الكواركات، والتي تأتي من تفاعلها مع مجال هيغز، تمثل فقط نسبةً ضئيلةً من كتلة بروتونٍ أو نترونٍ ما، أمّا الغلونات وهي حوامل القوى النووية الشديدة التي تُبقي هذه الكواركات معاً، فهي عديمة الكتلة تماماً.
إذا كانت كتلتك لا تأتي من كتل هذه الجُسيمات، من أين تأتي إذن؟ من الطاقة.
يعتقد العلماء أن أغلب كتلة جسمك تأتي من الطاقة الحركية للكواركات وطاقة الارتباط للغلونات.
الجُسيمات التي نصنعها
جسمك هو منجمٌ صغير الحجم من الجُسيمات المُشعّة، حيث تتلقى 40 ميلي ريم كجرعةٍ سنويةٍ من النشاط الإشعاعي الطبيعي الذي ينشأ في داخلك. وهي نفس كميّة الإشعاع التي تتعرض لها جرّاء أربع عمليات تصوير صدريّة بالأشعّة السينيّة. كما يمكن أنّ يرتفع مستوى جرعة الإشعاع الخاصّة بواحد أو اثنين ميلي ريم لكل ثمان ساعاتٍ تقضيها في النوم بجانب الشخص الذي تحب وذو النشاط الإشعاعي المماثل.
أنت تصدر الإشعاع لأنّ الكثير من الأطعمة التي تتناولها، والمشروبات التي تشربها، وحتى الهواء الذي تتنفسه يحوي عناصر مشعةً مثل البوتاسيوم-40 والكربون-14، تتحد مع جُسيماتك، وفي النهاية تتحلل وتنتج إشعاعاتٍ في جسمك.
عندما يتحلل البوتاسيوم-40 فإنّه يطلق بوزيتروناً، توأم الإلكترون من المادة المضادة، لذا فإنّك تحتوي أيضاً على كميةٍ ضئيلةٍ من المادة المضادة. يُنتج الإنسان العادي أكثر من 4000 بوزيترون في اليوم (حوالي 180 في الساعة)، لكن لا يمض وقتٌ طويلٌ حتّى تلتقي هذه البوزيترونات بإلكتروناتك لتفني بعضها مصدرةً أشعة غاما.
الجُسيمات التي نقابلها
النشاط الإشعاعي المولود بداخل جسمك هو فقط جزءٌ بسيطٌ من الإشعاعات الطبيعية (غير المؤذية) التي تكون على اتصالٍ يوميٍّ بها. يتلقى الأمريكي العادي جرعة إشعاع تقدّر بـ 620 ميلي ريم كل عام.
الطعام الذي تتناوله، والبيت الذي تعيش فيه والصخور والتربة التي تمشي عليها، جميعها تعرّضك لمستوياتٍ منخفضةٍ من النشاط الإشعاعي، تناول الجوز البرازيلي فقط أو زيارة طبيب الأسنان ممكن أن يزيد من مستوى جرعتك الإشعاعية عدّة ميلي ريمات، كما أنّ تدخين السجائر قد يزيدها حتّى 16000 ميلي ريم.
تصطدم الأشعة الكونيّة والإشعاعات ذات الطاقة العالية القادمة من الفضاء الخارجي باستمرارٍ بالغلاف الجوي، وهناك تصطدم مع نوى أخرى وتُشكّل الميزونات، يتحلل الكثير منها إلى جُسيمات مثل الميونات والنيوترونات، وكل هذا يسقط على سطح الأرض ليعبر من خلالك بمعدّل 10 في الثانية، ما يضيف حوالي 27 ميلي ريم إلى جرعتك السنويّة من الإشعاع. تستطيع هذه الجسيمات الكونيّة أحياناً تشويه جيناتنا، مسببةً طفراتٍ متقنة، ويمكن أن يكون ذلك عاملاً مساعداً في التطور.
وإضافة إلى إمطارنا بالفوتونات التي تتحكم بالطريقة التي نرى بها العالم من حولنا، تطلق شمسنا أيضاً سيلاً من الجسيمات تدعى النيوترونات Neutrinos. إنّ النيوترونات هي زائرٌ مستمرٌ في جسمك، من خلال اندفاعه بمعدلٍ يقارب 100 تريليون (واحد متبوعة بـ 12 صفراً) كل ثانية. وبغض النظر عن الشمس، يخرج تيار النيوترونات من مصادر أخرى، بما في ذلك التفاعلات النووية في النجوم الأخرى أو التي تجري على كوكبنا.
إنّ العديد من النيوترونات كانت موجودةً منذ الثواني القليلة الأولى من بداية الكون، حتّى أقدم من ذراتك الخاصة. لكن هذه الجسيمات ذات تفاعلٍ ضعيفٍ جداً، حيث تمر من خلالك دون ترك أي إشارةٍ لزيارتها.
من المرجّح أيضاً أن تواجه تساقطاً مستمراً من جُسيمات المادة المظلمة، المادة المظلمة لا تبعث أو تعكس أو تمتص الضوء، ما يجعلها صعبة الاكتشاف، لكن ما يزال العلماء يعتقدون أنّها تُشكل ما نسبته 80% من المادة في الكون.
وبالنظر إلى كثافة المادة المظلمة في أرجاء الكون، يعتقد العلماء بأنّ مئات الآلاف من هذه الجسيمات قد تمر خلالك في كل ثانية، مُتصادمةً مع ذراتك حوالي مرّة واحدة في الدقيقة. ولكن لا تتفاعل المادة المظلمة بقوة مع المادة التي تكوّنك، لذلك فإنّه من غير المحتمل أن يكون لها أية آثار ملحوظة على جسمك. في المرّة القادمة التي تتساءل فيها عن كيفيّة تطبيق فيزياء الجسيمات في حياتك، فقط ألقِ نظرة داخل نفسك.