الفيزياء النظرية: تعقيدٌ في الأفق

يُمكن لمفهوم تمَّ تطويره من أجل علوم الحاسوب أن يلعب دوراً مهماً في الفيزياء الأساسية ويُعطي المفتاح لفهمٍ جديد للمكان والزمن.

 

عندما يُعطى للفيزيائي ليونارد ساسكيند Leonard Susskind هذه الأيام فرصة للحديث، فإنه غالباً ما يكون مُرتدياً قميصاً مكتوبٌ عليه "أنا أحب التعقيد"، في مكان القلب تُوجد مجموعة ماندلبروت Mandelbrot ، و هي نمطٌ فراكتالي (fractal pattern) يُعرف بشكلٍ واسع على أنه رمزٌ للتعقيد رغم جماله الهائل. يُلخص ذلك الجمال رسالته إلى حدٍ بعيد، فلفترة طويلة من الزمن كان ساسكيند البالغ من العمر 74 عاماً، وهو فيزيائي نظري في جامعة ستانفورد في كاليفورنيا، قائداً للجهود التي تسعى إلى توحيد ميكانيك الكم والنظرية العامة في النسبية –الإطار الذي وضعه ألبرت اينشتاين للنسبية.

 

و قاده السعي إلى نظرية التوحيد الغريبة إلى تأييد أفكارٍ غير بديهية، مثل نظرية الأوتار الفائقة (superstring theory)، أو المفهوم الذي يقول بأن كونَنا المؤلف من ثلاثة أبعاد هو في الواقع عبارة عن هولوغرام ثنائي الأبعاد (two-dimensional hologram). أما الآن فساسكيند جزءٌ من مجموعة صغيرة من الباحثين الذي يناقشون فكرة جديدة وغريبة، تنص هذه الفكرة على أنّ المفتاح الرئيسي لهذه النظرية الغامضة لكل شيء يُوجد في قسم علوم الحاسب و يُعرف بالتعقيد الحسابي (computational complexity).

 

لا يُعتبر هذا القسم حقل فرعي اعتاد الفيزيائيون البحث فيه عن رؤى خاصة، بل يرتكز التعقيد الحسابي على الحالات العملية، مثل كم هو عدد الخطوات المنطقية المطلوبة من أجل تنفيذ خوارزمية ما. لكن في حال نجح هذا النهج، فإنه وفقاً لساسكيند، يُمكن أن يقوم بحل واحدٍ من أكثر الألغاز النظرية المحيرة التي عانى منها مجاله في السنوات الأخيرة، أي مفارقة الجدار الناري للثقب الأسود (firewall paradox)، التي تُلمح إلى أنه إما أن يكون ميكانيكا الكم أو النسبية خاطئين.

 

خلف جدارٍ ناري


بدأ كل شيء قبل 40 عاماً، عندما أدرك الفيزيائي ستيفن هوكينغ Stephen Hawking من جامعة كامبريدج في المملكة المتحدة أنه يُمكن للتأثيرات الكمومية أن تؤدي إلى قيام الثقب الأسود بإشعاع فوتونات وجسيمات أخرى حتى يقوم هذا الثقب بالتبخر بشكلٍ كامل.

 

وفي الوقت الذي كان فيه باحثون آخرون سريعين جداً في الإشارة إلى هذا الأمر، فقد جلب هذا الكشف معه تناقضاً مُقلقاً. فوفقاً لقواعد ميكانيكا الكم، فعلى الإشعاع الموجود في الجريان الخارج من الثقب الأسود الاحتفاظ بالمعلومات المتعلقة بكل شيء سقط باتجاه الثقب الأسود، وهذه المعلومات هي نفسها التي كانت تحملها المادة الساقطة عبر أفق الحدث الخاص بالثقب الأسود (أفق الحدث هو الحد الذي تُصبح داخله جاذبية الثقب الأسود قوية جداً إلى درجة لا يُمكن معها حتى للضوء الإفلات منها).

 

يُمكن لهذا الجريان ثنائي الاتجاه أن يناقض نظرية عدم الاستنساخ، و هي عبارة عن قانون رئيسي في ميكانيك الكم، و تنص هذه النظرية على أن خلق نسخة مثالية من المعلومات الكمومية هو أمرٌ مستحيل.

 

لحسن الحظ وكما رصد ساسكيند و زملاؤه عام 1995، فإن الطبيعة تتجنب القيام بأي من هذه الانتهاكات، و ذلك من خلال جعل مشاهدة نسختين متطابقتين في الوقت نفسه أمراً مستحيلاً، إذ لا يُمكن لراصد موجود خارج الأفق أن يتصل مع راصدٍ سقط فيه.

 

لكن في عام 2012، قام فيزيائيون من جامعة كاليفورنيا في سانتا باربارا –هم أحمد المحيري Ahmed Almheiri ودونالد مارلوف Donald Marlof وجوزيف بولتشينسكي Joseph Polchiniski وجيمس سولي James Sully -الذين عُرفوا بـ AMPS- بالحصول على استثناءٍ خطير للقاعدة. فقد وجدوا سيناريو يُمكن للراصد من خلاله أن يقوم بفك تشفير المعلومات الموجودة في الإشعاع.

 

استنتج AMPS أنّ الطبيعة تمنع هذه الحوادث الشاذة جداً والمقيتة من خلال خلق جدارٍ ناريٍ مباشرةً داخل الأفق، وسيقوم هذا الجدار بتحويل أي مراقب يحاول المرور عبره إلى رماد –أو كما في الواقع، أي جسيم. وفي الحقيقة، سينتهي المكان بشكلٍ مفاجئ عند أفق الحدث على الرغم من أنَّ نظرية اينشتاين في الجاذبية تنص على أن المكان يجب أن يكون مستمراً تماماً هناك. ووفقاً لرافايل بوزو Raphael Bousso، وهو فيزيائي من جامعة برينستون في كاليفورنيا، فإذا كانت نظرية AMPS صحيحة، "فإن هذا الأمر سيوجه ضربةً قوية للنسبية العامة".

 

لم تُحسب!


تُوجد الآن في الفيزياء ضجة أكبر من أي وقتٍ مضى مع سعي العلماء ونضالهم لحل هذه المفارقة. وكان أول الأشخاص الذين قاموا بجلب التعقيد الحسابي إلى النقاش الفيزيائي باتريك هايدن Patrick Hayden من جامعة ستانفورد، وهو عالم حاسوب أيضاً، والفيزيائي دانيال هارلو Daniel Harlow من جامعة برينستون في نيوجيرسي. ففي حال توقف الجدل المتعلق بالجدار الناري على قدرة الراصد على فك تشفير الإشعاع الخارج، يتساءل العلماء في هذه الحالة عن مدى صعوبة القيام بذلك؟

 

و قد اكتشفوا أن ذلك الأمر صعبٌ إلى درجة مستحيلة. فقد أوضح التحليل المعقّد الحسابي أن عدد الخطوات اللازمة من أجل فك تشفير المعلومات الخارجة سيتناسب بشكلٍ أسي مع عدد جسيمات الإشعاع التي تحمله. و لا يُمكن لأي حاسب يمكننا تخيّله أن يقوم بإنهاء الحسابات ولو بعد وقتٍ طويل من قيام الثقب الأسود بإشعاع كل طاقته، واختفاءه مع نسخ المعلومات المحظورة. ولذلك لا سبب لوجود الجدار الناري، فسيناريو فك التشفير الذي يتطلب وجود هذا الجدار لا يُمكن أن يحصل، وبالتالي تختفي المفارقة.

 

كان هايدن متشككاً بشأن النتيجة في البداية، لكنه توصل مع هارلو إلى نفس الجواب تقريباً، من أجل العديد أنواع الثقوب السوداء. يقول هايدن: "إنه يبدو مبدأً قوياً. إذ يمنعك تآمر الطبيعة من إجراء فك لهذا التشفير قبل أن يختفي الثقب الأسود".

 

 

و قد أثّرت المناقشة بين هايدن وهارلو بشكلٍ كبير على سكوت آرونسون Scott Aaronson، الذي يعمل في مجال التعقيد الحسابي وحدود الحساب الكمومي في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا في كامبريدج. يقول آرونسون: "اعتبرت ما قاموا بفعله واحداً من أكثر التوليفات التي شاهدتها خلال حياتي المهنية قوةً بين علم الحاسوب والفيزياء".

 

كما لقت هذه المناقشة صدىً قوياً وسط الفيزيائيين النظريين رغم عدم اقتناع الجميع، يقول بولتشينسكي في حالة إن كان الحساب صحيحاً: "من الصعب رؤية كيف سيقوم أحدهم ببناء نظرية أساسية في هذا الإطار". ومع ذلك فإن بعض الفيزيائيين يحاول القيام بذلك. إنَّ هناك انتشاراً واسعاً للإيمان بوجود حقلٍ في الطبيعة، تكون فيه القوانين مبنية على المعلومات بطريقة ما. والفكرة التي تقول بأنه من الممكن أن تكون القوانين مدعومةً في الواقع بالتعقيد الحسابي –والتي تُعرَّف بالكامل بدلالة المعلومات– تُقدم وجهة نظر جديدة.

 

قامت هذه الفكرة تحديداً بإلهام ساسكيند وتحفيزه على البحث بشكلٍ أعمق عن دور هذا التعقيد. ومن أجل الوضوح الرياضي، فقد اختار القيام بحساباته ضمن واقعٍ رياضي يُعرف بفضاء de-Sitter المضاد (AdS). حيث يصف هذا الفضاء الكون المشابه لكوننا بأن كل شيء موجود فيه، بما في ذلك الثقوب السوداء، يخضع للجاذبية.

على أية حال وبشكلٍ مخالف لكوننا، يمتلك هذا الكون حدوداً –أي مجالاً لا يوجد فيه جاذبية وإنّما فقط جسيمات عنصرية وحقول تخضع جميعها لميكانيك الكم.

و بصرف النظر عن الاختلافات، قادت دراسة الفيزياء في AdS إلى الحصول على العديد من الرؤى، لأن كل جسم وعملية فيزيائية داخل هذا الفضاء يُمكن تمثيلها بشكلٍ رياضي، وإرجاعها إلى جسم مكافئ أو عملية مكافئة موجودة عند حدود هذا الفضاء. فعلى سبيل المثال، يكافئ الثقب الأسود في AdS غازاً ساخناً من الجسيمات الكمومية الاعتيادية الموجودة عند الحد.

 

أفضل ما في الأمر، هو أنَّ الحسابات المعقدة في مجالٍ ما تتحول لتصبح بسيطةً في مجالٍ آخر. فبعد إنهاء الحسابات، فإنَّ الرؤى التي تمَّ الحصول عليها من AdS يُمكن ترجمتها بشكلٍ عام إلى كوننا نحن.

 

زيادة التعقيد


قرر ساسكيند النظر إلى ثقب أسود يُوجد في مركز كون AdS، واستخدام الوصف الحدّي من أجل استكشاف ما يحدث داخل أفق حدث الثقب الأسود، وحاول آخرون القيام بذلك العمل ولكنّهم فشلوا، واستطاع ساسكيند أن يعرف السبب بعد أن نظر إلى المسألة بالاعتماد على عدسات التعقيد الرياضي. إذ أن عملية الترجمة تتطلب من كون AdS داخل ثقبٍ أسودٍ عدداً ضخماً من الخطوات الحسابية، ويزداد هذا العدد بشكلٍ أسي مع اقتراب الشخص من أفق الحدث، كما يصفها آرونسون قائلاً: "إن قلب الثقب الأسود محميٌ بدرعٍ من التعقيد الحسابي".

 

هناك أكثر من ذلك، فقد لاحظ ساسكيند أن التعقيد الحسابي يميل إلى النمو مع مرور الزمن. وهذه ليست زيادة في الفوضى أو الانتروبي، وإنما هي عبارة عن تأثير كمي نقي ينتج عن الطريقة التي تؤدي من خلالها التفاعلات بين الجسيمات الحدية إلى التسبب بنموٍ انفجاري لتعقيد الحالة الكمومية الجمعية (collective quantum state) لتلك الجسيمات.

 

و في هذه الحالة بالضبط، يرى ساسكيند أن هذا النمو يعني أن التعقيد يسلك سلوكاً مشابهاً لحقل الثقالة، تخيّله كجسم ما عائم في مكانٍ ما خارج ثقب أسود، ووفقاً لساسكيند، فإنّ هذا يجري في AdS حيث يُوصف الجسم بوساطة تشكيل من الجسيمات والحقول الموجودة عند الحد. ولأن تعقيد هذا الوصف الحدّي يميل إلى التزايد مع مرور الزمن، فإن التأثير يتلخص في أن الجسم يقوم بالتحرك نحو المناطق التي تتمتع بتعقيدٍ أعلى داخل الفضاء. وبالنسبة لساسكيند فإنَّ هذا مجرد طريقة أخرى للتعبير عن سحب الجسم نحو الثقب الأسود. و لذلك اتخذ ساسكيند من هذه الفكرة شعاراً: "الأشياء تسقط بسبب وجود ميل نحو التعقيد".

 

لقد تَبيَّن وجود نتيجة أخرى لزيادة التعقيد، وهي قريبة جداً من المناقشة التي وضعها ساسكيند العام الماضي بالتعاون مع خوان مالدسينا Juan Maldacena، فيزيائي من معهد الدراسات المتقدمة في برينستون بنيوجيرسي، وهو أول باحث يتعرف على المميزات الفريدة لـ AdS.

 

وفقاً لنظرية النسبية العامة، لاحظ كل من ساسكيند ومالدسينا أنه يُمكن لثقبين أسودين بعيدين عن بعضهما البعض بمسافات تصل إلى العديد من السنين الضوئية أن يظلّا متصلين داخلياً عبر قناة في الزمكان، تُعرف بالثقب الدودي (wormhole). لكن وفقاً لنظرية ميكانيك الكم، فهذه الثقوب السوداء التي تفصل بينها مسافات كبيرة يُمكن أن تكون متصلة بسبب امتلاكها لحالات متشابكة، الأمر الذي يعني أن المعلومات المتعلقة بحالاتها الكمومية متشاركة بينهما بطريقة مستقلة عن المسافة.

 

بعد استكشاف التشابهات العديدة بين هذه الاتصالات، استنتج ساسكيند ومالدسينا أنهما كانا عبارة عن جانبين للشيء نفسه -درجة تشابك الثقب الأسود : هي ظاهرة كمومية نقية، ستقوم بتحديد عرض الثقب الدودي، تمثل بدورها قضية هندسية نقية.

 

يقول ساسكيند بأنه قد تبين له في عمله الأخير أن نمو التعقيد على حافة AdS يُشَاهد على شكل زيادة في طول الثقب الدودي. لذلك عند أخذ كل شيء بعين الاعتبار، يبدو أن التشابك يرتبط بطريقةٍ ما مع المكان، وأنّ التعقيد الحسابي بدوره يرتبط بطريقةٍ ما مع الزمن.

 

يعدُّ ساسكيند أول من اعترف بأنّ مثل هذه الأفكار عبارة عن اقتراحات استفزازية، لأنها لا تصنع مجتمعةً نظرية متينة بشكلٍ كامل، إلا أنه وحلفاؤه واثقون من أن هذه الأفكار تتجاوز مفارقة جدار الحماية. يعترف ساسكيند بصدق ويقول: "أنا لا أعرف إلى أين سيقود كل هذا. لكنني أؤمن بهذه التعقيدات، فالاتصالات الهندسية هي مجرد القمة الظاهرة من هذا الجبل الجليدي، وما خفي كان أعظم".

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • الهولوغرام أو المصّور التجسيمي (hologram): صورة ثلاثية الأبعاد مكونة من نمط معين من تداخل اشعة الليزر المنفلقة، مسقطة في الفراغ بالقرب من سطح خلفي له خصائص ضوئية معينة [كحاجب الريح الأمامي بغرفة الطيار] مُنار بإشعاع أحادي الطول الموجي مترابط الطور. المصدر: مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتكنولوجيا.

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات