الواقع الافتراضي وتأثيره على تعاطف البشر مع بعضهم

على اليسار فيرناندا هيريرا Fernanda Herrera تشاهد زميلتها الطالبة هانا ميزكاوسكي Hannah Mieczkowski وهي تخوض تجربة واقع افتراضي تبدأ بإشعار إخلاء. حقوق الصورة: L.A. Cicero
 

"أن تصبح مُشرّدأ Becoming Homeless" اسم تجربة الواقع الافتراضي المُطَّورة في جامعة ستانفورد Stanford University الأمريكية تساهم في تطوير الأبحاث حول تأثير تقنية الواقع الافتراضي على مستويات التعاطف لدى الناس.
 

أظهر بحثٌ جديد من جامعة ستانفورد أن الأشخاص الذين يعايشون حالة خسارة منزلهم أو عملهم باستخدام تقنية الواقع الافتراضي VR يكتسبون مشاعر تعاطف تجاه الأشخاص المشرّدين لفترة أطول مقارنةً بالأشخاص الذين خاضوا هذه التجربة بالاعتماد على وسائط مختلفة عن الواقع الافتراضي، كالنصوص المقروءة مثلاً. تم نشر نتائج هذا البحث في جلة بلس ون PLOS ONE العلمية في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2018.


يقول جيرمي بيلينسون Jeremy Bailenson بروفيسور في التواصل وأحد المشاركين في تأليف الورقة العلمية: "التجارب التي نخوضها هي ما يبني إنسانيتنا، لذا ليس من المستغرب أن تجربة مكثفة باستخدام الواقع الافتراضي ستأثر بشكل أكبر مقارنةً مع تخيل التجربة فقط".
 

أبحاث جديدة، تقنية ناشئة 
الكثير من الشغوفين بتقنية الواقع الافتراضي ينظرون إلى هذه التقنية المذهلة على أنها "آلة التعاطف المطلقة" التي يمكنها مساعدة الناس على فهم بعضهم البعض بشكلٍ أكبر بالمقارنة مع الروايات أو الأفلام أو البرامج التلفزيونية. إلا أن الأبحاث التي تدرس كيف يمكن لهذه التقنية الناشئة أن تعدل من سلوك الناس قليلة جداً.


فيرناندا هيريرا Fernanda Herrera طالبة دراسات عليا من قسم التواصل والمؤلفة الأساسية في الورقة البحثية، تقول: "الكثير من الناس بإمكانهم الآن عيش تجارب الواقع الافتراضي المختلفة، حيث هناك قرابة العشر ملايين من معدات الواقع الافتراضي بيعت في الولايات المتحدة خلال العامين السابقين، لكن مازالت معرفتنا حول تأثير الواقع الافتراضي على الناس محدودة". وتضيف: "يعد هذا البحث خطوةً هامة في اكتشاف مدى تأثير هذه التقنية على مستويات التعاطف لدى الناس على المدى الطويل".


أظهرت أبحاث سابقة حول الواقع الافتراضي و علاقته بالتعاطف نتائج مختلطة واستخدمت عينات اختبار بحجم صغير مكونة من طلاب جامعيين فقط. بالإضافة إلى ذلك، فإن تلك الدراسات لم تبحث في تأثير الواقع الافتراضي على التعاطف على المدى الطويل، إذ لم تتجاوز الأبحاث أسبوعاً واحداً.


بالتعاون مع زملائها جميل زكي Jamil Zaki الباحث في علم النفس في جامعة ستانفورد وبيلينسون وإيريكا ويز Erika Weisz طالبة دراسات عليا في علم نفس و إيليس أوغل Elise Ogle أحد المشاركين في الورقة البحثية، أجرت هيريرا دراستين كل منهما امتدت على مدى شهرين على أكثر من 560 شخص تتراوح أعمارهم بين 15 و 88 ويمثلون ثمانية خلفيات عرقية مختلفة على الأقل.


خلال البحث، خاض بعض المشاركين تجربة واقع افتراضي بعنوان "أن تصبح مُشرّداً Becoming Homeless" مدتها سبع دقائق طوّرها مختبر التفاعل البشري الافتراضي Virtual Human Interaction Lab في جامعة ستانفورد.


خلال تجربة "أن تصبح مُشرّداً"، يُرشِد راوٍ المشتركين عبر عدة سيناريوهات واقع افتراضي تفاعلية تظهر ما سيحدث إذا خسر المشتركون وظائفهم. في إحدى المشاهد، يجب على المشترك البحث في شقته عن أشياء يمكنه بيعها ليسدد إيجار الشقة. في مشهدٍ آخر، يتخذ المشارك موقف باص عام كملجأٍ له وعليه حماية ممتلكاته من السرقة.


وجد الباحثون أن احتمالية تكوين سلوك إيجابي مستمر نحو الأشخاص المتشردين هي أكبر لدى الأشخاص الذين شاركوا بتجربة "أن تصبح مشرّداً" بالمقارنة مع الأشخاص الذين قاموا بمهام أخرى مثل قراءة السيناريو نفسه أو التفاعل مع نسخة ثنائية الأبعاد عنه من خلال الحاسوب. كما وضح البحث أن هؤلاء الأشخاص (الذين خضعوا لتجربة الواقع الافتراضي) ازدادت احتمالية دعمهم وتوقيعهم لعريضة تطالب بتأمين مسكن بتكاليف مقبولة.


تقول هيريرا: "معايشة ظروف الآخرين من خلال الواقع الافتراضي يُكوِّن تعاطفاً وسلوكاً اجتماعياً إيجابياً لدى الناس بعد خوضهم للتجربة مباشرةً وعلى مدى الوقت بالمقارنة مع تخيل تلك الظروف فحسب. إن هذا الاستنتاج مثيرٌ جداً".
 

قياس التعاطف عبر الزمن
التعاطف هو القدرة على مشاركة وفهم مشاعر الآخرين ويعد جزءاً أساسياً من التفاعلات الاجتماعية، وفقاً للباحثين. أُثبِتَ أن التعاطف يزيد من تفهم الناس لبعضهم البعض ويُحفّز سلوكياتً اجتماعيةً إيجابيةً كالتبرّع أو التطوع أو التعاون مع الآخرين.


يقول زكي الأستاذ مساعد في مجال علم النفس وأحد المشاركين بالورقة البحثية: "إنّنا نميل للاعتقاد بأن التعاطف هو شيءٌ إمّا أن تملكه أو لا تملكه، لكن الكثير من الدراسات أظهرت أن التعاطف ليس مجرّد طبعٍ لدى الإنسان بل هو شيءٌ يمكن السّعي لاكتسابه وكذلك رفع شدته أو خفضها وفقاً لحالاتٍ مختلفة".


بينت نتائج الدراسات أن المشاركين في تجربة "أن تصبح مشرّداً" أصبحوا ميَّالين بشكلٍ أكبر للموافقة على شعاراتٍ مثل "إنّ مجتمعنا لا يُقدّم ما يكفي لمساعدة المُشردين" وأصبحوا مهتمين بشكلٍ أكبر بأزمة التشرد، كما بينت الدراسة أن سلوكهم التعاطفي تجاه المشردين استمر لوقت طويل.


إضافةً إلى ذلك، ووفقاً للدراسة الأولى، فإن 82% من المشاركين في تجربة الواقع الافتراضي وقعّوا عريضةً داعمةً لأسعار السكن المقبولة، بينما وقّعها 67% فقط من الأشخاص الذين قرأوا سيناريو دَفَعَهُم لتخيل كونهم متشردين.


في الدراسة الثانية، 85% من المشاركين بتجربة الواقع الافتراضي وقّعوا العريضة بينما وقّعها 63% مِمَّن قرأوا السيناريو. من بين المشاركين الذين تفاعلوا مع النسخة ثنائية الأبعاد من التجربة على الحاسوب، 66% منهم وقّع العريضة. يقول بيلينسون: "المميز في هذا البحث هو أنه يمنحنا دليلاً طويل الأمد بأن تقنية الواقع الافتراضي تغير السلوكيات البشرية بطريقة إيجابية".
 

أبحاث أخرى في المستقبل

يقول الباحثون أن ليس كل التدريبات المتعلقة بالتعاطف والتي تُعرِّف الناس على ظروف غيرهم ستُكوّن لديهم تأثيراتٍ إيجابية دوماَ. على سبيل المثال، أظهرت دراسات سابقة أنه عندما طُلب من الناس مُعايشة ظروف ووجهات نظر منافسيهم أصبحوا أقل تعاطفاً نحوهم.


تضيف هيريرا: "علاوةً على ذلك، فإن بنية وتصميم تجربة الواقع الافتراضي لها أهمية أيضاً في كيفية تعديلها لسلوكيات الناس".


تعمل هيريرا وبيلنسون وباحثون آخرون على دراسات لاكتشاف الفروق الدقيقة لتأثيرات الواقع الافتراضي على الناس. حالياً، هيريرا وفريقها متحمسون جداَ للدلائل التي حصلوا عليها في دراستهم الجديدة . تقول هيريرا: "بعد إنهائنا لدراستنا بمدةٍ طويلة، بعض المشتركين بالدراسة أرسلوا لي رسائل الكترونية عبروا فيها عن انعكاسات التجربة عليهم إذ أصبحوا يعملون على معالجة مشكلة التشرد بشكلٍ أكبر مما كانوا عليه. أحد المشاركين صادق متشرداً من حيّه وكتب لي مجدداً عندما وجد ذلك المتشرد منزلاً. إنه من المثير للإلهام جداً أن ترى هذه الإيجابية وهذا التأثير المستمر".
 

الأبحاث كانت مدعومة مالياً من مؤسسة روبرت وود جونسون Robert Wood Johnson Foundation.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات