يمكنك الاستماع إلى المقال عوضاً عن القراءة
ماذا يعني مصطلح التفرد التكنولوجي؟!

تتشابه أفلام الخيال العلمي في طرحها لفكرةٍ أساسيةٍ، تتبلّور حول مستقبل الجنس البشري الذي يكافح من أجل البقاء على قيد الحياة، حين يكتشف العلماء أن آلاتهم أصبحت قويةً جدًّا وخارجةً عن السيطرة، لتجبر البشر على العبودية والخضوع، وبالرغم من الشرخ الكبير بين مضمون هذه الأفلام والواقع الحالي، إلا إن بعض العلماء والفلاسفة يعتقدون بأن هذا النوع من الأفكار يكتسب المزيد من المصداقية في كلّ عامٍ مع التطوّر السريع للتكنولوجيا والعلوم.

هل من الممكن أن تحلّ الآلات بديلًا عن البشر كقوةٍ مهيمنةٍ على هذا الكوكب؟! قد يجادل البعض بأننا وصلنا فعلًا إلى هذه النقطة، فها نحن نسمح لأجهزة الحاسوب بالتواصل مع بعضها البعض للتحكم بنظم المعلومات المعقدة والمهمة كالأسواق التجارية والبنوك، وحتى بالسيطرة على الأسلحة الأكثر خطورةً في العالم، ويمكن القول إن الروبوتات سيطرت على جزءٍ كبيرٍ من وظائف الإنسان، حيث أصبح بمقدورها القيام بأعمالٍ عديدةٍ، تتراوح من صناعة السيارات إلى صناعة رقاقات الحاسوب.

ورغم ذلك، فإنّ هذه الآلات تفتقر إلى القدرة على اتخاذ قراراتٍ خارج مسارات برامجها وخارج الصلاحيات المحدّدة لها، بسبب عدم التمتّع بالحدس والوعي الذاتي أو حتى القدرة على الاستقراء تبعًا للمعلومات المتاحة، فهي لا تزال أدوات لها وظائف محددةٌ فقط، لكن هل ستبقى الأمور كما هي عليه؟ وإلى متى؟ وهل ستمتلك تلك الآلات في المستقبل شكلًا من أشكال الوعي؟ وفي حال حدث ذلك فما هو مصير الجنس البشري؟ هل سندخل في عصرٍ جديدٍ تقوم فيه الروبوتات بجميع الأعمال لنتمتع نحن البشر بثمار تلك الأعمال؟ أم سنتحوّل إلى مخلوقاتٍ لا نفع لها كما هو الحال في فيلم ماتريكس (Matrix)؟ أم أنّ هذه الآلات ستمحو الجنس البشري عن وجه المعمورة؟

بالنسبة للأشخاص العاديين، قد تبدو هذه الأسئلة غريبةً بعض الشيء أو حتى غير مستساغة الطعم، ولكن يعتقد البعض أننا بحاجةٍ لطرح مثل هذه الأسئلة، وأحد هؤلاء الأشخاص هو فيرنر فينج Vernor Vinge، أستاذٌ سابقٌ في الرياضيات في جامعة سان دييغو الأمريكية San Diego State University، حيث يعتقد فينج بأن البشرية تتجه نحو مصيرٍ لا رجعة فيه، ستخرج فيه التكنولوجيا عن السيطرة، وهو ما يسميه بالتفرّد أو الاستقلالية Singularity فما هو التفرّد التكنولوجي؟ وكيف يمكن حدوثه؟

في مقالته (التفرّد التكنولوجي القادم، وكيفية البقاء على قيد الحياة في عصر ما بعد البشرية)، يقترح فينج تنبؤاً مثيرًا للاهتمام ومخيفًا في نفس الوقت، حيث يعتقد أن البشرية ستصل إلى مستوىً عالٍ جدًّا من التكنولوجيا قبل عام 2030 فيحدد المقال أربعة احتمالاتٍ لكيفية حصول التفرّد التكنولوجي:

  1. اصطناع العلماء لروبوتاتٍ تتفوق على الجنس البشري باستخدام الذكاء الصنعي.
  2. إمكانية أن تصبح شبكات الحاسوب قادرة على التفكير والوعي والإدراك بطريقةٍ أو بأخرى.
  3. الدمج بين الإنسان والآلات عالية التقنية بحيث يتطور الإنسان بحدّ ذاته إلى نوعٍ جديد.
  4. يتيح التقدم في العلوم البيولوجية للإنسان القدرة على تصميم الذكاء البشري فعليًا.


تبدي أول ثلاثة احتمالاتٍ إمكانية تمرّد الآلات واستيلائها على الإنسان، وبالرغم من تناول فينج هذه الاحتمالات جميعها في مقالته، إلا أنه يقضي وقته في دراسة الاحتمال الأول، لذلك دعونا نلقي نظرةً على نظريته.

تتقدم تكنولوجيا الحواسيب بمعدلٍ أسرع بكثيرٍ من أيّ علومٍ وتكنولوجيا أخرى، حيث تزداد قوةً بمقدار الضعف كل سنتين تقريبًا، ويرتبط ذلك بقانون مور Moore's Low
، الذي ينص على أن عدد الترانزستورات على شريحة المعالج يتضاعف تقريبًا كل 18 شهرًا، وبالمقابل تلعب التجهيزات والعتاد الصلب دورًا لا يقل أهميةً عن الدور الذي سيلعبه الذكاء الصناعي، وبناءً على ذلك، يعتقد فينج بأنها مسألة وقتٍ قبل بناء البشر لآلةٍ قادرةٍ على التفكير بوعيٍ مثل الإنسان.

العتاد المادي هو فقط جزءٌ من المعادلة، فقبل ابتكار العتاد على شخصٍ ما ابتكار برمجية تسمح بتحليل البيانات واتخاذ القرارات والتصرف بشكلٍ مستقلٍ، وفي حال حدوث ذلك فإننا نتوقع أن نرى آلاتٍ تقوم بتصميم آلاتٍ جديدةٍ وتعمل على تطويرها، لتصبح البشرية من المخلوقات التي عفا عليها الزمن، وما يثير الرعب هو إن هذا التقدم سيصل دون أيّ سابق إنذارٍ بحيث لا يمكن تجنبه. وفي وقتٍ قصيرٍ، سنصل لمرحلة الاستقلال أو التفرّد التكنولوجيّ، حيث لا مكان للإنسان.

ماذا سيحدث بعد ذلك؟ يقول فينج ربما سيأخذ الكون منحىً مختلفًا تمامًا في عملية تطوره، لكن بالمقابل لا بدّ من النظر بتفاؤلٍ إلى هذا الجانب، فربما سنعيش عهدًا يستمتع فيه الإنسان، فيندمج الوعي البشري مع شبكات الحاسب، أو من الممكن أن تنجز الآلات مهامنا فتسنح لنا الفرصة بالعيش في رغدٍ ورفاهيةٍ، قبل أن تبدأ مرحلة استنساخ نفسها، وتصبح قادرةً على إصلاح نفسها، وهكذا يصبح الإنسان ليس فقط بلا فائدةٍ ولكن أيضًا غير مرغوبٍ به، ربما يكون ما ذُكِر عبارةً عن سيناريو مخيفٍ، إلا إنه يبقى تخمينًا مع وجود احتمالاتٍ لتحققه أو عدم تحققه، لكن هل توجد طريقةٌ لتجنب ذلك قبل فوات الأوان!؟؟

يعتقد الكثير أن هذا الأمر مبالغٌ فيه، ولا يمكن أن نصل إلى التفرّد والاستقلالية التي تكلّم عنها فينج، ولفهم هذه النظرية فإننا نحتاج للعودة إلى قانون مور الذي ذُكر سابقًا، ففي عام 1965 اقترح مهندس الترانزستورات غوردن مور Gordon E. Moore ما نسميه اليوم بقانون مور، حيث لاحظ تضاعف أعداد الترانزستورات مع مرور الزمن مقابل انخفاض سعرها وتكاليف تصنيعها، أي أصبح بالإمكان إنتاج داراتٍ متكاملةٍ بقدرة عملٍ أقوى وبنصف التكلفة، ومع التقدم التكنولوجي العالي أصبح سعر الترانزستور ذي المقياس النانوي قريبًا من الصفر في المعالجات المستخدمة في الوقت الحالي، مثل معالجات شركات Intel وشركة AMD، والتي تحوي على ترانزستورات بقياس 45 نانو متر.

لكن بالمقابل، لا يعلم العلماء إلى أيّ حدٍّ يمكننا تقليص أحجام الترانزستورات أكثر، فحتى لو تمكنّا من صناعة ترانزستورٍ قياسه عدّة نانومتراتٍ، فليس بالضرورة أن يعمل. وذلك لأنه عند المقاييس دون الذرية تختلف القوانين، فعلينا التعامل مع الفيزياء الكمّية عندها، ومثالًا على ذلك، وجد الباحثون أن الإلكترونات تخترق المادة الرقيقة من أحد الجوانب إلى الجانب الآخر، كما لو إن هذه المادة غير موجودةٍ، وتُدعى هذه الظاهرة بالنفق الكموميّ، لتخالف بذلك قاعدة انتقال الشحنات عبر سطوح المواد، أي ستُفقَد القدرة على التحكّم بتدفق الإلكترونات المارّة وهنا تكمن إحدى المشاكل.

لذلك يجب الحذر عند التعامل مع المواد ذات المقياس النانوي، وخاصةً عند إنشاء آلاتٍ معقدةٍ خوفًا من أن تصبح هذه الآلة جامحةً وقادرةً على التفكير الذاتي نتيجة ظواهر ليست بالحسبان، ويمكن أيضًا حصول التفرّد التكنولوجي من خلال بناء الرقاقات النانوية الضوئية بشكلٍ عموديٍّ Vertical Optic Nanotechnological chips، حيث تقلّل هذه الطريقة من جموح الإلكترونات، لكن ربما لن تلغي قانون مور بشكلٍ كاملٍ، إلا أنها ستأخذ وقتًا أطول من الزمن الذي تنبأ به فينج، وهناك طريقةٌ أخرى لمنع التفرّد التكنولوجي، تتضمن اتباع قوانين السلامة الثلاثة للروبوتات التي اقترحها العالم إسحاق عظيموف Isaac Asimov، إلا أن فينج يردّ على ذلك بأنه في حال كانت الروبوتات أذكى من الإنسان، فإنها لن تتوانى عن ابتكار طرقٍ للالتفاف حول هذه القوانين.

بالرغم مما سبق كله، فإن فينج لا يسلم بحتمية وصول الإنسان إلى عصر التفرّد التكنولوجي، لكن ربما يجب أن نفكّر مرتين قبل الإساءة إلى آلةٍ ما، لعلها ستعود للانتقام لاحقًا في يومٍ من الأيام
.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

اترك تعليقاً () تعليقات