هل حقّاً ستفهم الحواسيب ما نقوله يوماً ما؟


من سيري Siri في منتجات شركة Apple (المساعد الشخصي الذكي) إلى روبوت شركة هوندا Asimo، يبدو أنّ الآلات تصبح أفضل وأفضل عبر التواصل مع البشر.


ولكن، يحذّر بعض علماء الأعصاب من أنّ الحواسيب الحاليّة لن تفهم على الإطلاق حقيقة ما نقوله، وذلك لأنّها لا تأخذ في الحسبان سياق المحادثة والطريقة التي يتواصل بها البشر.
 

لعبة يحاول فيها اللاعبون توصيل قواعد اللعبة لبعضهم البعض بدون حديث أو حتى بدون أن يرى أحدهما الآخر حيث يساعد ذلك علماء الأعصاب على عزل أجزاء الدماغ المسؤولة عن التفاهم بين اللاعبين. حقوق الصورة: آريين ستولك Arjen Stolk، جامعة كاليفورنيا في بيركلي UC Berkeley.
لعبة يحاول فيها اللاعبون توصيل قواعد اللعبة لبعضهم البعض بدون حديث أو حتى بدون أن يرى أحدهما الآخر حيث يساعد ذلك علماء الأعصاب على عزل أجزاء الدماغ المسؤولة عن التفاهم بين اللاعبين. حقوق الصورة: آريين ستولك Arjen Stolk، جامعة كاليفورنيا في بيركلي UC Berkeley.


وتحديداً، يقول زميل دراسات ما بعد الدكتوراه في جامعة كاليفورنيا في بيركلي University of California, Berkeley آريين ستولك Arjen Stolk وزملاؤه الهولنديين، إن الآلات لا تُطور التفاهم المشترك الخاص بالبشر، حيث أنّ المكان والحالة –والتي تتعلق غالبا بتاريخ اجتماعي طويل- هي الأساس في التواصل البشري. وبدون هذه الأرضيّة المشتركة، لن يستطيع الحاسوب أن يساعد في التواصل، بل سيكون في حالة ارتباك.

يقول ستوك: "يميل الناس غالباً للاعتقاد بأنّ التواصل هو عبارة عن تبادل إشارات لغويّة أو إيماءات، وينسون أنّ التواصل يعتمد بنسبة كبيرة على الحالة الاجتماعيّة، وعلى هوية الشخص الذي يتم التواصل معه".

فكلمة "بنك/ضفة Bank" على سبيل المثال، ستُفسر بطريقة إذا كنت تحمل أثناء قولها بطاقة ائتمان، ولكنها ستُفسر بطريقة أخرى إذا كنت تحمل صنارة صيد.


ومن دون الإهتمام بسياق الحديث، فقد توحي إشارة "V" بعلامة النصر، وقد تعني العدد إثنان، وقد تدل أيضاً على أصبعيك الذين قمت بكسرهما.

يقول ستولك: "كل هذه الخفايا تعتبر عوامل أساسيّة ليفهم أحدنا الآخر"، بل ربما أكثر أهمية من الكلمات والإشارات التي تركّز عليها الحواسيب، وكثير من علماء الأعصاب يعتبرونها أساس عمليّة التواصل." ويضيف: "وفي الحقيقة يمكن لأحدنا أن يفهم الآخر من دون لغة أو كلمات أو حتى علاماتٍ بمعانٍ مشتركة".

فالأطفال والأباء، ناهيك عن الغرباء الذين يفتقرون إلى أي لغة مشتركة، يتواصلون بشكل فعّال كل الوقت، حيث أن تواصلهم يستند فقط إلى إيماءات وسياق مشترك طوروه خلال مدّة قصيرة.

ويصرّ ستولك على أنّ العلماء والمهندسين يجب أن يركزوا أكثر على الجوانب المتعلّقة بسياق الحديث للفهم المشترك بين الأفراد، داعماً حديثه بدليل تجريبي من عمليّات مسح دماغيّة تبيّن أنّ البشر يحققون التفاهم المتبادل غير اللفظي فيما بينهم باستخدام آليات حسابية وعصبيّة فريدة. وقد أشارت بعض الدراسات التي أجراها ستولك إلى أنّ تعطّل آليّة الفهم المتبادل هو السبب وراء الاضطرابات الاجتماعيّة من مثل التوحّد. 

يقول الدكتور روبرت نايت Dr. Robert Knight، أستاذ علوم النفس في جامعة كاليفورنيا وأستاذ علوم المخ والأعصاب في جامعة كاليفورنيا سان فرانسيس UCSF:
"إن هذا التحوّل في فهم كيف يتواصل الناس فيما بينهم دون الحاجة إلى لغة يؤمّن أساس نظري تجريبي جديد لفهم أسس التواصل الاجتماعي العادي، ويفتح آفاقاً جديدة لفهم ومعالجة اضطرابات التواصل الاجتماعي ".

ويناقش ستولك وزملاؤه أهميّة "الانتظام المفاهيمي conceptual alignment " للفهم المتبادل في مقالة تعرض عدّة آراء ونُشرت في 11 كانون الثاني/يناير في مجلة "اتجاهات في العلوم المعرفيّة Trends in Cognitive Sciences

يمسح الدماغ منطقة صغيرة جداً بحثاً عن "التقاء العقول":

من أجل اكتشاف كيف تحقق الأدمغة الفهم المتبادل، ابتكر ستولك لعبة تتطلب من لاعبين أن يوصلا القواعد الخاصة بهذه اللعبة لأحدهما الآخر فقط عن طريق حركات اللعبة، بدون أن يتحدثا أو حتى أن يرى أحدهما الآخر، ليتخلص بذلك من تأثير اللغة أو الإيماءات. ومن ثم وضع كلا اللاعبين في جهاز تصوير بالرنين المغناطيسي fMRI، ومسح أدمغتهما في أثناء تواصلهما غير الشفهي مع بعضهما البعض، ولكن باستخدام الحاسوب فقط.

وقد وجد أنّ نفس المنطقة من الدماغ –المتوضعة أعلى الأذن مباشرة في الفص الصدغي الأيمن، الذي لا تتوافر عنه كثير معلومات -أصبحت فعّالة عند كلا اللاعبين أثناء محاولة أيصال قواعد اللعبة من أحدهما للآخر. وبشكل أساسي، حافظ التلفيف الصدغي العلوي للفص الصدغي الأيمن على ثباته، حيث بقي عند الحد الأساسي من النشاط خلال فترة اللعب، ولكنه أصبح أكثر نشاطاً عندما أدرك أحد اللاعبين ما يحاول اللاعب الآخر إيصاله. حيث أنّ النصف الأيمن من الدماغ أكثر انخراطاً في الفكر المجرّد والتفاعلات الاجتماعيّة من النصف الأيسر من الدماغ. 

يقول ستولك: "هذه المناطق في الفص الدماغي الأيمن تزيد من نشاطها في اللحظة التي ينشأ فيها فهم مشترك لشيء ما، وليس حين تقوم بتوصيل الإشارة فحسب، ومع تزايد فهم اللاعبين لبعضهم البعض يصبح نشاط هذه المنطقة أكبر"

هذا يعني أنّ كلا اللاعبين يبني نطاق عمل مفاهيمي في نفس المنطقة من الدماغ، مع فحص أحدهما للآخر بشكل مستمر، للتأكّد من انتظام مفاهيمهما. ويتم تنشيط هذا النطاق فقط في حالة ورود معلومة جديدة تغيّر الفهم المشترك. وقد أعلنت نتائج الدراسة في العام 2014 في مجلة وقائع الأكاديميّة الوطنيّة للعلوم Proceedings of the National Academy of Science.


يقول ستولك: "إنّه لأمر مفاجئ أن يزيد نشاط نفس المنطقة من الدماغ لدى كلا اللاعبين عندما يزيد الفهم المشترك بين اللاعبين أثناء اللعبة، أي اللاعبة 1 ذات الدخل الساكن أثناء تخطيطها لحركتها التالية والشخص المُرسل إليه، الذي يراقب الدخل البصري الديناميكي أثناء اللعبة. 

المنطق الإحصائي لدى الروبوت:



ومن ناحية أخرى، تتحاور الحواسيب والروبوتات فيما بينها بناءً على تحليل إحصائي لمعنى الكلمة، على حد تعبير ستولك. فلو كنت تستخدم كلمة "Bank" بشكل متكرّر لتعني بها مكاناً لصرف الشيكات، عندها سيكون هذا هو المعنى المُفترض في الحوار، حتّى لو كان الحوار عن صيد السمك.


يقول ستولك: "يركّز نظام سيري Siri الخاص بشركة آبل على الاضطراد الاحصائي، ولكن التواصل بشكل عام ليس فقط عبارة عن انسجام احصائي، فقد يأخذك ذلك بعيداً، وهي ليست طريقة عمل الدماغ.

ولجعل الحواسيب تتواصل معنا، فهي بحاجة إلى بنية إدراكيّة تلتقط وتُحّدث باستمرار الحيّز المفاهيمي الذي يتشاركونه مع شريكهم في التواصل أثناء الحوار".

نظريّاً، سيسمح إطار مفاهيمي ديناميكي كهذا للحواسيب بحل إشارات التواصل المبهمة في جوهرها والتي انتجها شخص حقيقي ما، متضمناً الاعتماد على معلومات مخزّنة منذ سنوات.

لقد سلّطت دراسات ستولك الضوء على مناطق الدماغ الأخرى الهامّة في عملية الفهم المشترك. في أحد دراسات التي أُجريت في العام 2014، استخدم ستولك محفّزات دماغيّة لتعطيل الجزء الخلفي من الفص الصدغي ووجد أنّه يلعب دوراً هاماً في عملية مُكاملة الإشارات الواردة مع المعلومات من التفاعلات السابقة. ووجدت دراسة لاحقة أنّ المرضى المصابين بصدمة في الفص الجبهي (قشرة الدماغ البطنيّة الأنسيّة) فقدوا القدرة على صقل القرارات التي يودّون إيصالها للمعرفة المخزّنة حول الشخص المُستقبل، وتُفسّر كلتا الدراستين السبب في أن مثل هؤلاء المرضى يبدون غريبي الأطوار اجتماعيّاً في التفاعلات اليوميّة.

هذا ويخطّط ستولك ونايت لدراسات مستقبليّة، باستخدام خرائط تفصيليّة لدماغ مصقول، على السطح الحقيقي لأدمغة المتطوعين، تُدعى "التخطيط الكهربائي لقشرة الدماغ" electrocorticography.

ويقول ستولك أنّه قد كتب الورقة البحثيّة الجديدة على أمل نقل دراسة التواصل إلى مستوى جديد مع التركيز على الانتظام المفاهيمي conceptual alignment.

ويضيف ستولك: "إنّ أكثر علماء الأعصاب الإدراكيّة يركزون على الإشارات نفسها وعلى الكلمات وعلى الإيماءات وعلاقاتها الإحصائيّة، ويهملون القابليّة المفاهيميّة الكامنة التي نستخدمها أثناء التواصل ومرونة حياتنا اليوميّة. إن اللغات مفيدة للغاية، ولكنّها ليست إلّا أداة للتواصل، وليست التواصل في حد ذاته. وبالتركيز على اللغة، فإنّك قد تركّز فقط على الأداة، وليس على الآليّة الرئيسيّة، حيث تساعدنا البنية الإدراكيّة التي نملكها في عقولنا على التواصل."

مساعدي ستولك في كتابة الورقة البحثيّة هم إيفان طوني Ivan Toni من معهد دوند رز لعلوم الدماغ والإدراك والسلوك Donders Institute، في جامعة رادبود Radboud University في هولندا، حيث أُجريت الدراسة، ولينارت فيرهاغن Lennart Verhagen من جامعة أوكسفورد University of Oxford.


 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

اترك تعليقاً () تعليقات