أهدأ غاز في العالم يتيح لعلماء الفيزياء سماع آثارٍ كمومية ضعيفة

تمكن علماءُ الفيزياء في جامعة كاليفورنيا University of California في بيركلي Berkeley، من تبريد غاز إلى أهدأ وضعٍ تم الوصول إليه في أي وقتٍ مضى. وكان الدّافع وراء تجرِبتهم هذه اكتشاف آثارٍ كموميةٍ ضعيفة ضاعت في ضجيج الموائع الأكثر برودةً وضجيجاً.

وعلى الرّغم من أن درجة حرارة الغاز فائق البرودة، والتي تبلغ واحداً على مليارٍ من الدرجة فوق الصفر المطلق، وتعدُّ أكثرَ حرارةً بمرتين من درجة البرودة القياسية، إلا أن الغاز يتمتع بالحدّ الأدنى من الإنتروبي (entropy) التي تم قياسها على الإطلاق. والإنتروبي عبارةٌ عن مقياسٍ للاضطراب والضجيج في نظامٍ ما. وليس من الضرورة طبعاً أن يكون الغاز صاحب درجة البرودة القياسية هو صاحب أقلِّ ضجيج.


عندما يتم خفض الإنتروبي أو الضجيج في النظام، تصبح المعلومات الخفية مرئيةً، مثل الكلمة الباهتة "بيركلي" في هذه الصورة. المصدر: صورة لـ ريان أولف Credit: Ryan Olf image
عندما يتم خفض الإنتروبي أو الضجيج في النظام، تصبح المعلومات الخفية مرئيةً، مثل الكلمة الباهتة "بيركلي" في هذه الصورة. المصدر: صورة لـ ريان أولف Credit: Ryan Olf image


يقول دان ستامبر كورن Dan Stamper-Kurn، المؤلف المساعد في البحث، وأستاذ الفيزياء في جامعة كاليفورنيا في بيركلي: "يشير هذا الحدّ الأدنى من الإنتروبي، أو الحد الأدنى من الضجيج إلى إمكانية استخدام الغاز الكمومي (quantum gas) لإحداث تأثيراتٍ كمومية ميكانيكية تتصف بأنها خفية ومتصاعدة، وذلك على اعتبارها هدفاً رئيسياً للأبحاث الحديثة حول المواد، وفيزياء الجسم المتعدد (many-body physics)"، ويضيف دان قائلاً: "عندما يكون كل شيءٍ هادئاً وساكناً، ربما يمكن تمييز صوت موسيقي خفي يعود لميكانيكا الكم المعنية بفيزياء الجسم المتعدد".

يتكون الغاز الكمومي، والذي يُدعى أيضاً تكاثف بوز-أينشتاين (Bose-Einstein condensate)، من نحو مليون ذرّة روبيديوم (rubidium) محاصرة بواسطة شعاع ضوئي ومعزولة في الفراغ، والتي تم تبريدها إلى أدنى مستوى لها من الطاقة. وقد كانت درجة الحرارة والإنتروبي منخفضتين جداً بشكلٍ توجّب فيه على العلماء تطوير نوعٍ جديدٍ من مقاييس الحرارة كي يستطيعوا قياسها.

وعلى الرغم من أن الوصول إلى درجة حرارة منخفضة جداً سيدخلهم في سجلات الأرقام القياسية، إلا أن ريان أولف (Ryan Olf) طالب الدراسات العليا في جامعة بيركلي يقول: "ما يهدف العلماء إلى تحقيقه اليوم، هو الوصول إلى مستوى منخفض من الإنتروبي يُمكّنهم من دراسة وفهم المواد التي تتصف بأنها أكثر إثارةً للاهتمام، ولكنها بنفس الوقت أكثر صعوبة للدراسة من غيرها".

ستسمح قدرة فريق علماء جامعة كاليفورنيا في بيركلي على التعامل مع الغازات فائقة البرودة وذات الإنتروبي المنخفضة، بدراسة هذه النظم الكمومية بما في ذلك المغانط الكمومية، والتي يمكن أن تكون مفيدة في الحواسيب الكمومية وفي الموصلات الفائقة (superconductor) ذات درجات الحرارة العالية. وتُعتبر الموصلات الفائقة ذات درجات الحرارة العالية مواداً تجريبية قادرة على إظهار الموصلية الفائقة، أي تدفق الكهرباء بدون مقاومة، في درجات الحرارة العالية نسبياً، وذلك بالمقارنة مع 3 أو 4 درجاتٍ فوق درجة الصفر المطلق لنماذج المواد المستخدمة في الموصلات الفائقة التقليدية.

في معظم حالات تكاثف بوز-أينشتاين، نرى الغاز الكمومي (الذروة الصفراء) يرافقه اهتزاز في الغاز الطبيعي مع وجود ضجيج حراري (الحدبة الزرقاء أسفل الذروة). وعندما تنخفض ضوضاء الإنتروبي، فإن الاهتزاز يختفي أيضاً ليترك غازاً كمومياً صرفاً تقريباً. Credit: Ryan Olf graphic.
في معظم حالات تكاثف بوز-أينشتاين، نرى الغاز الكمومي (الذروة الصفراء) يرافقه اهتزاز في الغاز الطبيعي مع وجود ضجيج حراري (الحدبة الزرقاء أسفل الذروة). وعندما تنخفض ضوضاء الإنتروبي، فإن الاهتزاز يختفي أيضاً ليترك غازاً كمومياً صرفاً تقريباً. Credit: Ryan Olf graphic.


يقول أولف: "يتمثل أحد أهم الكنوز الثمينة في الفيزياء الحديثة في فهم هذه المواد الغريبة بما فيه الكفاية لتصميم نموذج منها يعمل كموصل فائق دون الحاجة إلى عملية التبريد على الإطلاق". ويردف أولف قائلاً: "يأمل الباحثون عبر دراسة خصائص الغازات ذات الإنتروبي المنخفضة من خلال عدة أشكال مختلفة، في معرفة الشيء الذي يجعل هذه المواد الرائعة تعمل بهذه الطريقة".

يعتبر أولف إن المعيار الصائب الذي يجب اتباعه عند المقارنة بين النظم هو معدل الإنتروبي لكل جسيم، وذلك بدلاً من درجة الحرارة. وتكافح الغازات فائقة البرود التي تم إنتاجها إلى الآن، كي تصل إلى مستوى منخفض من الإنتروبي، والذي يُعد أمراً ضرورياً من أجل إجراء اختبارات على نماذجَ من هذه المواد.

ويتابع أولف: "على نحوٍ واقعي تماماً، سيؤدي هذا إلى تشكيل أبرد غازٍ تم إنتاجه على الإطلاق، وهو يعدّ أخفضَ بـ 50 مرة من درجة الحرارة التي تصبح فيها تلك الآثار الكمومية الإحصائية واضحةً وظاهرة، أي درجة حرارة تكاثف بوز-أينشتاين".

وقد نُشرت تفاصيل هذه التجربة الشهر الماضي على شبكة الإنترنت، كما أنها ستُنشر في النسخة الورقية للإصدار القادم من مجلة Nature Physics.

خفض مستوى الضجيج


يقوم ستامبر كورن Stamper-Kurn وفريقه المخبري بتبريد الغاز إلى مستوى درجةِ حرارةٍ منخفضةٍ جداً بحيث تسود تلك الآثار الكمومية، مما يؤدي لسلوكٍ غريبٍ مشابه لسلوك المائع الفائق (superfluid)، كتدفقٍ لا احتكاكي (frictionless flow). ويشتهر الهيليوم فائق الميوعة بقدرته على الصعود والتدفق إلى أعلى لبلوغ قمة كأس الاختبار، بينما تظهر الغازات فائقة الميوعة بشكل دوامات -كتلك الدوامات الصغيرة التي تحدث في فنجان القهوة عندما نقوم بتحريكه- تدوم إلى الأبد.

ويصف كورن بأن هذا التهيج أو الاهتزاز قليل الطاقة للذرات هو عبارة عن موجات صوتية، عند درجات الحرارة المنخفضة، فيقول: "تولد درجة الحرارة صوت قرقعة أو دمدمة بشكل منتظم في الغاز، أما الإنتروبي فهي بمثابة حساب عدد اهتزازات الموجة الصوتية الباقية. فكلما انخفضت درجة حرارة الغاز، كلما أصبحت الإنتروبي الخاصة به أقل، وأصبح الغاز أكثر هدوءاً".

عادةً، يعتبر تكاثف بوز-أينشتاين مزيجاً من الغاز الكمومي والغازِ الطبيعي، وتُحَدّدُ درجة حرارته عن طريق قياس الخواص الحرارية للغاز الطبيعي. وتقريباً يتألف الغاز ذو الإنتروبي المنخفضة من غازٍ كموميٍ فحسب، لذا يتوجب على فريق الباحثين أن يجدَ طريقةً مختلفة لقياس درجة الحرارة. وقد استطاع الباحثون فعل ذلك عن طريق حَرفِ الاستقطاب المغناطيسي (magnetization) للدورانات الذرية (atomic spins)، ومن ثم قياس الخواص الحرارية للاستقطاب المغناطيسي المائل، أي باختصار صنع مقياس حرارة معتمدٍ على المغنين.

يقول أولف إن هذه الدورانات المائلة تساعد العلماء على تبريد الغاز إلى أخفض مستوى له من الإنتروبي، وذلك عن طريق تعزيز التبريد التبخيري (evaporative cooling)، والذي اعتمد عليه الباحثون منذ فترة طويلة لإنتاج الغازات فائقة البرودة. وبالإضافة إلى إزالة الذرات الساخنة بهدف خفض متوسط درجة حرارة الغاز، قام الباحثون باستخدام تقنية التبريد التبخيري للدورانات المنتجة للنيوترونات الحرارية (thermalized spins)، وذلك بغية خفض درجة الحرارة إلى 1 نانو كلفن (أي واحداً على مليارٍ من درجة الحرارة فوق الصفر المطلق). وتعني هذه النتيجة أن الإنتروبي هنا أخفض بـ 100 مرة من التجارب السابقة.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • مادة فائقة الموصلية (superconductor): هي مادة قادرة على نقل الإلكترونات أو إيصال الكهرباء دون وجود أي مقاومة.
  • الإنتروبي (entropy): هو كمية الطاقة غير المتاحة للقيام بعمل في نظام فيزيائي، وقد أطلق عليه كلاوزيوس مصطلح الإنتروبي ملهماً بكلمة tropi التي تعني التحول، واختيرت لتكون أقرب ما يُمكن من كلمة الطاقة (energy)، ويقول أشهر قوانين الطبيعة المعروف بالقانون الثاني في الترموديناميك "لا يُمكن لانتروبي نظام فيزيائي مغلق أن يتناقص أبداً".
  • الغاز (Gas): أحد الحالات الأساسية الثلاث للمادة. في هذه الحالة تتحرك الذرات، أو الجزيئات، أو الأيونات بحُريّة، فلا ترتبط مع بعضها البعض. وفي علم الفلك، تُشير هذه الكلمة عادةً إلى الهيدروجين أو الهيليوم. المصدر: ناسا

اترك تعليقاً () تعليقات