التصادمات مع المذنبات قد تُفسر لغز الدوامات القمرية الغامضة

وجد باحثون من جامعة براون Brown University دليلاً جديدًا عن سبب تكون الدوامات القمرية (lunar swirls) -وهي مناطق رقيقة ومضيئة منتشرة على سطح القمر– ويقول هذا الدليل بأنها تكونت من اصطدام عدة مذنبات خلال فترة 100 مليون سنة السابقة. 

وفي هذا البحث، الذي نشر في المجلة العلمية أيكاروس Icarus، استخدم بعض الباحثون نماذج حاسوبية مبتكرة لمحاكاة ديناميكية (أي تفاصيل حالة الحركة) [1] اصطدام المذنبات مع التربة التي تغطي سطح القمر، وتقترح نتائج هذه المحاكاة السبب وراء تكون معظم التشكيلات الغامضة التي تشبه الدوامات على سطح القمر. 

يشير بيتر شولتز Peter Schultz، وهو عالم في جيولوجيا الكواكب من جامعة براون، إلى ذلك قائلاً: "نعتقد أن هذه الدراسة ستوفر لنا أساسا جيدًا للقول أن هذه الدوامات هي بقايا لاصطدام المذنبات". لقد قام شولتز مع أحد طلبته السابقين وهي ميكان بروك-سايل Megan Bruck-Syal بالمشاركة في كتابة البحث العلمي، وبروك-سايل هي الآن باحثة في مختبر لورنس ليفرمور الوطني Lawrence Livermore National Laboratory.

لقد كانت الدوامات القمرية سبباً للنقاش منذ عدة سنوات، فبعض هذه الدوامات يبدو على شكل خطوط ملتوية من مادة بيضاء تمتد على طول سطح القمر في بعض الأحيان لآلاف الكيلومترات، ومعظم هذه الدوامات موجود على الجزء البعيد غير المنظور من القمر [2]، لكن أحدى أشهر هذه الدوامات المسماة رينير كاما (Reiner Gamma) يمكن رصدها بمقراب (تلسكوب) من الأرض، وتوجد في الزاوية الجنوب-غربية من الجزء القريب من القمر، ويعلق شولتز على هذه الدوامة قائلا: "كانت هذه الدوامة الجزء المفضل للرصد عندما كنت من هواة الرصد".

وعندما تشاهد لأول مرة لا تبدو هذه الدوامات مرتبطة مع الفوهات التصادمية الكبيرة، أو أي ترطيب جغرافي آخر على سطح القمر، ويذكر شولتز أن: "هذه الدوامات ببساطة تبدو وكأن شخص ما رسم سطح القمر بإصبعه. ولطالما كان هناك نقاش حاد حول سبب هذه الاشكال المميزة".

وفي سبعينيات القرن الماضي، إكتشف العلماء أن عددًا كبيرًا من هذه الدوامات يرتبط بعلاقة مدهشة مع المناطق التي تبدي شذوذًا في المجال المغناطيسي السطحي للقمر، وأدت هذه العلاقة إلى اقتراح إحدى الفرضيات التي تحاول تبرير سبب وجود هذه الدوامات، فالصخور التي تقع تحت السطح في المناطق التي تحوي على هذه الدوامات ربما تتكون من بعض المواد المتبقية من أولى مراحل تشكل القمر، بحيث تبدي صفات مغناطيسية معينة، ففي تلك الفترة يعتقد أن المجال المغناطيسي للقمر كان أقوى بكثير مما هو عليه الآن. فالإقتراح السابق ينص: "أن وجود مثل هذه الصخور تحت سطح القمر في مناطق معينة سيولد حقولاً مغناطيسية قوية"، وهذه الحقول تقوم بدورها بحرف وإبعاد سيل الرياح الشمسية التي ربما كانت هي المسؤول عن إسوداد سطح القمر، فالمناطق التي تبدو مثل دوامات مضيئة على السطح إنما هي مناطق محمية بهذه الحقول المغناطيسية. 

بمعنى آخر، كان كامل القمر في أول أيامه بهذا السطوع لكن تأثير الشمس تسبب باسوداد تدريجي لغالب المناطق بينما بقيت بعض المناطق الأخرى محمية بفضل نوع الصخور التي تحت سطحها. 

الفكرة التي يقدمها شولتز لتفسير تكون الدوامات مختلفة عن هذه، وفكرته في الأصل لها جذور تتعلق بمراقبة طريقة هبوط البعثات التي أرسلت للقمر ضمن برنامج أبوللو (Apollo) وهبطت على سطحه، وما تركته من آثار، ويبين شولتز ذلك بقوله: "يمكنك أن تلاحظ أن كل المناطق التي تحيط بمواقع هبوط المركبات على سطح القمر هي مناطق ناعمة ومضيئة أكثر من غيرها، وذلك بسبب نفث الغاز الذي ولدته محركات هذه المركبات. هذه الملاحظة هي التي دفعتني للتفكير باحتمالية كون سبب الدوامات الكبيرة هو ارتطام المذنبات على السطح".

تحمل المذنبات غلافها الغازي الخاص بها، وهذا الغلاف البسيط يسمى الذؤابة (Coma)، ويعتقد شولتز أن بعض المذنبات الصغيرة قد تلامس سطح القمر وتستمر بذلك لمسافة قبل أن تصطدم بالكامل على سطحه –وهو حدث غالبا ما يحصل-. وفي أثناء هذه العملية سيتسبب الغاز الذي في ذؤابة المذنب بقشط وصقل جزء من تربة سطح القمر، وبالتالي سيكشف عن طبقات جديدة كانت تقع تحت السطح، وعملية الصقل هذه ربما كانت هي السبب وراء ظهور الدوامات. 

جرت أولى محاولات شولتز لنشر بحث عن هذا الموضوع على صفحات المجلة العلمية الطبيعة Nature في العام 1980، وفي ذلك البحث تمّ التركيز على كيفية حصول عملية الصقل لتلك الطبقات الرقيقة من تربة القمر، والتي يمكن أن تتسبب مناطق مضيئة تشبه الدوامات. 

إن تركيب الحبيبات الترابية على سطح القمر، والتي تسمى "تركيبات القلعة الرقيقة" (Fairy Castle Structures) لأنها دقائق متكتلة من التراب ترتبط مع بعضها بطريقة مميزة سوف تشتت الأشعة الشمسية وهو ما يتسبب بظهور المناطق الباهتة والمظلمة على السطح. عندما يجري قشط هذه الطبقة، سيكشف ذلك عن الطبقات الناعمة والمضيئة التي لا تزال غير متأثرة بالأشعة الشمسية، وخصوصًا إذا كانت هذه الأشعة تسقط بزوايا معينة. 

في حالة دوامة رينير غاما على السطح القريب من القمر، ستكون هذه المناطق هي الأكثر سطوعا خلال طور الربع الأخير من القمر قبيل شروق الشمس. 

اليوم، أصبحت محاكاة ديناميكا الإصطدام باستخدام الحواسيب متطورة كثيرًا عن السابق، ولهذا قرر الباحثان شولتز و بروك-سايل أن الوقت ربما صار ملائما لإعادة النظر مرة ثانية حول سبب تكون هذه الدوامات، للتأكد إن كانت قد نتجت فعلا من اصطدام المذنبات وسببت صقلا لمناطق معينة في سطح القمر. 

تُبين نتائج المحاكاة التي أجروها فعلا أن الغاز الذي يكّون ذؤابة المذنب مع النواة الثلجية للمذنب نفسه [3] سوف ينفخان جزءًا من الطبقة السطحية لتربة القمر، وستتكون الدوامات نتيجة لذلك؛ وبينت الدراسة أيضا أن طول عملية الصقل هذه قد تصل لآلاف الكيلومترات في بعض الحالات بعد نقطة الإصطدام، وهو ما يتفق مع ما يلاحظ من أشكال الدوامات الممتدة على طول سطح القمر، أما الأشكال الملتوية للدوامات التي تشبه الجيوب، فقد فُسرت بسبب ما يولده سقوط المذنب من هبّات غازية ونفخات على سطح القمر. 

ملاحظات:

[1] الديناميكا (Dynamics) هو فرع من علوم الفيزياء الذي يختص بدراسة القوى المؤثرة على جسم ما وما ينتج عنها من عزوم (جمع عزم) تسبب الحركة. المقابل لهذا الفرع هو الستاتيكا (Statics) وهو ذلك الفرع الذي يعني بدراسة القوى المؤثرة على جسم ما وما ينتج عنها من زخوم (جمع زخم) عندما لا تكون هناك حركة. هذان الفرعان يقابلان فرع الكاينماتيكا (Kinematics) وهو فرع الفيزياء الذي يعني بدراسة الحركة التي يمر بها جسم أو نقطة ما بدون الإهتمام بسبب القوى المؤثرة والمسببة لتلك الحركة. 

[2] الجزء البعيد من القمر أو (Far Side of the Moon) هو نصف القمر الذي يعاكس إتجاه الأرض. يدور القمر حول الأرض مرة كل 24 ساعة تقريبا، ويدور حول نفسه بنفس الفترة وهي حالة تسمى"تزامن الحركة" (Motion Synchronization)، ولهذا السبب نحن دائما نرى نفس الوجه من القمر ودائما لا نرى الجزء الآخر، وهو النصف البعيد. 

قد يُسمى هذا الجزء من القمر أيضًا "النصف" (Near Side) أو "الوجه اللامع" (Bright Side) . ملاحظة: إن حركة القمر حول الأرض هي حركة معقدة جدًا لكنها منتظمة زمنيًا، وفيما يخص مواجهته للأرض، فهو ملتزم بتزامن الحركة، ولذلك فنحن نرى نفس الوجه من القمر في كل ليلة، لكن موضع القمر يتغير في كل ليلة من كل شهر عند نفس الساعة. 

[3] المذنب (Comet) هو جرم سماوي يدور حول الشمس ويتكون من ثلاثة أجزاء رئيسية:

  1.  نواة المذنب (Cometary Nucleus)، وهي جسم مكون من الصخور والجليد أي (ثلج الماء القاسي) وقطرها يتراوح بين عدة عشرات الأمتار إلى بضعة كيلومترات.
     
  2. الذؤابة أو دوامة الغاز (Coma) وهي طبقة غازية تحيط بنواة المذنبارتفاعها يقدر ببضع عشرات إلى مئات الأمتار فقط، وتتكون من بخار الماء وأبخرة بعض المواد الأخرى، إضافة إلى نسبة من غبار الصخور التي في نواة المذنب.
     
  3.  الذنب (Cometary Tail) وهو ذلك الامتداد لغازات تنبعث من النواة ومن الذؤابة. للمذنبات في العادة ذنبين منفصلين هما أ- الذنب الأيوني أو الغازي (Ion or Gas Tail) المكون من المواد المتأينة ويكون طويلا جدا مقارنة مع حجم نواة المذنب إذ يصل طول هذا الذنب إلى أكثر من مليون كيلومتر في بعض الأحيان، ب- الذنب الغباري (Dust Tail) وهو ذنب قصير عادة مكون من أتربة وصخور مطحونة تنطلق من نواة المذنب. وفي بعض الاحيان يلاحظ وجود ذنب ثالث يسمى "ذنب الصوديوم" (Sodium Tail) وهو ذنب أيوني لكنه مفصول طولًا واتجاهًا عن الذنب الأيوني الأساسي. 



قد تُفسر فرضية المذنبات أيضا سبب الشذوذ المغناطيسي بالقرب من أماكن الدوامات، فقد وضحت المحاكاة أن ارتطام المذنبات قد يتسبب بصهر بعض الحبيبات الصغيرة للتربة التي تتواجد على السطح وأسفله مباشرة، وقد بينت مشاهدات سابقة ومنفصلة أنه عندما تصهر حبيبات ترابية صغيرة وغنية بالحديد ثم تبرد، فسوف تخزن جزءًا من الحقل المغناطيسي القريب منها، ويبرر شولتز ذلك بالقول: "تجلب المذنبات معها حقلاً مغناطيسيا خاصا بها ينتج عن تفاعل دفق الأيونات التي تنتج مع الرياح الشمسية. وعندما تحصل عملية الإصطدام بين الغاز الذي يجلبه المذنب معه وبين سطح القمر، ستنصهر بعض الحبيبات وفي ذات الوقت سيتضخم الحقل المغناطيسي القمري، ويخزن في تلك الحبيبات ثم تبرد".

وبأخذ هذين السببين معا، توفر نتائج هذه الدراسة صورة أكثر اكتمالًا للعلماء عن طريقة تكون الدوامات كما يشير البحث. 

أخيرا يشير شولتز إلى أن: "هذه هي المرة الأولى التي يتمكن فيها أي شخص من النظر إلى هذه الدوامات باستخدام برامج محاكاة حاسوبية حديثة. وفي الحقيقة، تناسب كل ما لوحظ من محاكاة اصطدام المذنبات مع سطح القمر واتفق مع شكل الدوامات التي ترى على سطح القمر. ونعتقد أن هذه النتائج توفر تفسيرا متسقاً مع المشاهدات، لكنها ربما لا نزال بحاجة لإرسال بعثة أخرى إلى سطح القمر بغرض إجراء بعض التجارب وحسم النقاش بصورة نهائية".

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • الحركة (Kinematics): تُشير إلى الحسابات أو الوصف الموجود خلف آليات حركة جسم فلكي ما. على سبيل المثال، في علم الفلك الراديوي، يُستخدم مخطط الخط الطيفي من أجل حساب علم الحركة أو الحركات النسبية للمواد الموجودة في مركز مجرة ما أو في محيط نجم ما أثناء ولادته. المصدر: ناسا
  • الذيل الغباري (Dust tail): عبارة عن مجرى من جسيمات الغبار الصادرة عن نواة مذنب ما، وهي الجزء الأكثر ظهوراً من المذنب.
  • الغبار (Dust): ليس الغبار الذي يقوم أحدهم بإيجاده حول المنزل فقط (الذي هو في العادة عبارة عن ذرات دقيقة من خلايا الجلد ومواد أخرى)، ولكن بالإضافة إلى ذلك، هذا الغبار في الفضاء عبارة عن الحبيبات شاذة الشكل مكونة من الكربون و/أو السليكون ويبلغ عرضها ميكرون واحد تقريباً، ويمكن إيجادها بين النجوم. يُمكن الاستدلال على وجود الغبار بشكلٍ أساسي عبر قدرته على الامتصاص، الأمر الذي يؤدي إلى تشكل أقسام كبيرة مظلمة في مناطق من مجرتنا درب التبانة ونطاقات مظلمة في كافة أرجاء المجرات الأخرى.
  • الغاز (Gas): أحد الحالات الأساسية الثلاث للمادة. في هذه الحالة تتحرك الذرات، أو الجزيئات، أو الأيونات بحُريّة، فلا ترتبط مع بعضها البعض. وفي علم الفلك، تُشير هذه الكلمة عادةً إلى الهيدروجين أو الهيليوم. المصدر: ناسا

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات