الغموضية الكمومية.. غابرة ولكن غير منسية

هل للغموضية Mysticism مكان في ميكانيكا الكم اليوم؟ أم الأفضل أن نترك للتأملات الفلسفية فكرة: أن العقل يلعب دوراً في خلق الواقع؟ يعارض المؤرخ خوان ميغيل مارين Juan Miguel Marin من جامعة هارفارد الرأي السابق، ليس لأنه يجب على الفيزيائيين توضيح مسألة الوعي في بحوثهم في يومنا هذا، ولكن لأن معرفة التاريخ القديم للأفكار الفلسفية داخل ميكانيكا الكم هو شرط أساسي لفهم النظرية في جوهرها.

قدّم مارين في مقال له نُشر بالمجلة الأوروبية للفيزياء European Journal of Physics، سجلًا موجزًا مبنيًّا على تحليلٍ أطول للنقاش الذي دار حول الغموضية في مجتمع الفيزياء الكمومية السالف. وقد ظهر الجدال بألمانيا في عشرينات القرن الماضي بين صفوف الفيزيائيين كردّ فعل للنظرية الجديدة لميكانيكا الكم، لكن يختلف النقاش آنذاك عن نقاش مثل هذا الموضوع في العصر الراهن.

 

بالفعل، لم تكن العلاقة بين الدين -باعتبار الغموضية ضرب من ضروب التعبير الديني- والعلم في ذلك الوقت محسومةً تمامًا كما هو الحال الآن، حتى أن الفكر الغموضي الشرقي كان مصدر إلهام بعض الفيزيائيين في ذلك العصر.

لسبر خفايا ذاك النقاش في تحليله، قام مارين بتحديد دور ووجهة نظر كل من ساهم في الجدال، كما أكد أن دراسة التفسيرات الأصلية لميكانيكا الكم، قد تساعد العلماء في الوصول إلى فهم أفضل لهذه النظرية، وقد تفيد عامة الناس نظرًا لأهميتها.


و أضاف مارين: ''إن نشر الوعي حول هذا الموضوع قد يساعد عامة الناس على إدراك العلاقات المتعددة التي تربط بين الدين والعلم، إلى جانب العلاقة القائمة على الفصل بين الاثنين''. كما قال مارين في مقابلة له مع موقع PhysOrg.com: ''المعارضة بين الدين والعلم التي تفرض الاختيار بينهما هي حديثةٌ للغاية، ومن المستحيل أن تكون قد نالت قبول مؤسسي نظرية الكم، أو حتى اعترافهم بها".

أهمية العقل


يكمن مصدر هذا الجدل في التساؤل الأزلي عن طبيعة الحقيقة. كما سأل أينشتاين Einstein (الواقعي الصامد): ''هل يوجد القمر فقط عندما ننظر إليه؟'' ولو أن وجهة نظر كهذه تبدو لنا مستبعدة في حياتنا اليومية، إلا أنه في نظرية الكم، يمكن أن تؤثر عملية رصد الفيزيائيين للأجسام دون الذرية على هذه الأخيرة على المستوى الكمومي. كما يزعم تفسير (كوبنهاجن) الشهير لميكانيكا الكم، لا يمكننا التحدث عن حقيقة موضوعية غير تلك التي نحصل عليها من خلال الرصد والقياسات.

مثلما يفسر مارين، بدأ النقاش حول الوعي في النظرية الكمومية تقريبًا في سنة 1927، عندما اتهم أينشتاين العالم نيلز بور Neils Bohr بإدخال غموضية تتعارض مع العلم. وقد رفض بور ذلك الاتهام ولام أينشتاين على سوء فهمه لخطابه عندما قال: "إن الإنسان ممثِّل ومتفرج في نفس الوقت في هذا العالم". مع ذلك، رغم اعتقاد بور أن حدوث العمليات الكمومية مستغنٍ عن وجود راصد، إلا أنه كان يؤيد كذلك فكرة :أن امتدادًا لنظرية الكم قد يساعد في فهم مسألة الوعي.

أما أينشتاين فقد كان يرفض بشدة وجود أي ذاتية في العلم، بحيث خالف وجهة نظر بور عندما اعتبر هذا الأخير أن التحري عن حياة أو موت قطة شرودنغر في علبة، قبل رصدها أمر غير علمي. وقد كرّس أينشتاين أواخر حياته للبحث عن عناصر من الواقع تجعل من ميكانيكا الكم نظريةً مبنيةً على الواقعية. على سبيل المثال: حاولت تجربةٌ لمفارقة أينشتاين-بودولسكي-روزن (Einstein-Podolsky-Rosen paradox) أُجريت سنة 1935، أن تسترد خاصيتي الواقعية والسببية إلى النظرية. 

من جهة أخرى، كان فولفغانغ باولي Wolfgang Pauli يشارك إحدى الأفكار التي كان أينشتاين يلوم بور عليها. فضّل باولي فرضية 'الغموضية الصافية' وهي مزج بين الدين والعقلانية، حيث كان يظن أن النظرية الكمومية قد توحد النهجين النفسي/العلمي والفلسفي/الغموضي اللذين يهتمان بالوعي. إن رأي بور متأثر بتفكير الفيلسوف أرتور شوبنهاور Arthur Schopenhauer، والذي تأثر بدوره بالديانات الشرقية.

لكن مازال هناك العديد من الفيزيائيين الذين تختلف آراؤهم. فيحتج مارين أن ماكس بلانك Max Planck -وهو مؤيد للمسيحية- بنى الجدال على تعارض موضوعية العلم والمسيحية، مع غموضية شوبنهاور وترويجه للبوذية والهندوسية. كان بلانك يعتبر دين المسيحية والعلم متوافقين بناءً على رأيه، بحيث إنه كان يعتقد أن الموضوعية أساس كليهما، إلا أنهما يشيران إلى جوانب مختلفة من الواقع. إبان ذلك، رفض بول ديراك Paul Dirac كل أنواع المفردات الدينية، زاعماً أن ''الدين خليط من الادعاءات الخاطئة التي ليس لها أي أساس في الواقع".

بعد ذلك، توسع النقاش إلى أن ضم عامة الناس، بداية بالكتاب الشهير ''طبيعة العالم المادي'' (The Nature of the Physical World)، والذي ألفه عالم الفيزياء الفلكية آرثر إدنجتون Arthur Eddington سنة 1929. ورغم أن الكتاب حرّف العديد من المفاهيم، إلا أن دفاعه عن الغموضية لفت انتباه الإعلام على الصعيد العالمي. غالبًا، كان يُعرف إدنجتون بتأكيده لنظرية النسبية لأينشتاين من خلال قياس الكسوف، مما أدى إلى تصاعد شهرة أينشتاين بشكل كبير.

في السنوات التالية، فضل فيرنر هايزنبيرغ Werner Heisenberg، وإروين شرودنغر Erwin Schrödinger دعم الغموضية، مسببان بذلك غضب أينشتاين وبلانك. لكن لم يكن موقف الآخرين محسومًا.

 

فحسب مارين: تعمّد عالم الرياضيات جون فون نيومان John Von Neumann استخدام كلمات غامضة، عندما كان يناقش فلسفة المعادلات الكمومية، بطريقة تجعلها تلائم كلا الموقفين. في ذلك السياق، قال مارين: ''كان عبقرياً في مجال الابتكار اللغوي، حيث إنه اختار عبارات تقبل تفسيرات مختلفة". 

في سنة 1958، نشر شرودنغر محاضراته تحت عنوان ''العقل والمادة'' جراء تأثره بشوبنهاور Schopenhauer في شبابه. و يعلل فيه أن هناك فرقًا بين آلات القياس ورصد الإنسان، حيث لا يمكن اعتبار تسجيل (الترمومتر) عملية رصد؛ لأنه بلا معنى في حد ذاته. لذلك السبب الوعي ضروري لإعطاء معنى للواقع.

 

وكما ختم شرودنغر: ''بالتأكيد سيلقب بعضكم هذا بالغموضية. مع الاعتراف الكامل بأن النظرية الفيزيائية هي نسبية في كل زمان، وأنها تتوقف على مجموعة من الفرضيات الأساسية، أعتقد أنه يمكننا الادعاء أن النظرية الفيزيائية في مرحلتها الحالية، تشير إلى لا فنائية العقل مع مرور الزمان".

تأملات ثقافية


كما لاحظ مارين، تُمثل محاضرات شرودنغر نهاية جيل عاش جدال الغموضية. ثم يفسر لنا المؤرخ أنه و حتى الحرب العالمية الثانية، تواجدت ميكانيكا الكم في سياق ألماني بالدرجة الأولى. وقد ساعدت تلك الثقافة في تشكيل روح العصر الغموضي في ذلك الوقت. وقد اختفى الجدال في النصف الثاني من القرن الماضي، حينما أصبحت ثقافة الفيزياء إنجليزية-أمريكية. كان أغلب الفيزيائيين المعاصرين مثل أينشتاين، واقعيين ولا يعتقدون أن للوعي دورًا في نظرية الكم.

أما الفكرة الحديثة والسائدة: هي أن عملية الرصد لا تؤدي إلى وجود ذرة في الموضع المرصود، إنما الراصد هو الذي يجد موقع الذرة. فمثلما بيّن مارين: لا يشمل النقاش حول الغموضية بعض الفيزيائيين والمتصوفين فقط -كما يبدو أنه الحال اليوم- لكنه جلب في زمن سابقٍ مجتمعَ الفيزياء ككل. و منذ ذلك الحين، ظهرت بعض الأفكار مجدّدًا.

 

على سبيل المثال: بحث يوجين فايغنر Eugene Wigner الذي عالج ذلك الموضوع سنة 1961، والذي استوحى كتبًا واسعة الانتشار مثل "طاو الفيزياء" (The Tao of Physics)، و "أساتذة وو لي الراقصون" (The Dancing Wu Li Masters)، والتي تهدف إلى ربط ميكانيكا الكم والغموضية الشرقية لجيل جديد، بالإضافة إلى الفيلم الحديث "ما الذي نعرفه؟" (What the Bleep Do We Know


ويفسر مارين قائلًا: '' كانت هنا معارضة بين العلماء وغير العلماء. نرى اليوم تضادًا بين العلم والدين، لكن لم يكن هذا هو الحال في عهد تأسيس ميكانيكا الكم. كان هناك فيزيائيون متديّنون من جهتي النقاش، كانت تُدعِّم أغلبية الفيزيائيين البارزين ما يمكن أن نسميه اليوم المعتقدات الدينية، سواء كانت شرقية أم غربية".

 

وعندما نتحدث اليوم عن 'الثقافتين' أي : العلوم والإنسانيات، فإننا نشير إلى المحاضرة الشهيرة لشارلز بيرسي سنو Charles Percy Snow، والتي أُلقيت في بريطانيا في بداية الخمسينات، حيث تأسف العالم البريطاني على التفريق الموجود. وبما يتعلق بالمفكرين الألمان الذين ينتمون إلى الأجيال السابقة، الذين دخلوا بالكاد تلك المرحلة من التخصص في الفروع المعرفية. وفي نهايات القرن، ظل التمييز بين الرياضيات والفيزياء بناءً على 'الفلسفة الطبيعية' التي اخترعتهما.

يأمل مارين أن يكتسب الباحثون اليوم منظورًا جديدًا لبحوثهم، إذا أخذوا بعين الاعتبار وجهة نظر مؤسسي ميكانيكا الكم في النظرية. وقال مارين: ''عندما أقرأ مقالات علميةً تشير إلى المعادلات الكلاسيكية التي تصوّر العلماء الألمان، يبدو لي أنه كان من الممكن تحسينها من خلال البحث في تفسيرات العلماء نفسهم لمعادلاتهم''، وأضاف: ''من بين نظريات الحقل الكمومي المعاصر، فإن نظريات المقياس المهمة مدينة لعمل هيرمان ويل Hermann Weyl و باولي.

 

ومع ذلك قد يُصدم العديد من الفيزيائيين اليوم إذا علموا كيف يفسّر (ويل وباولي) مبدأ الحقل عندما ألّفا مقالاتهما الكلاسيكية. لقد كان العالمان مستغرقيْن في الغموضية، باحثيْن عن طريقة لتوحيد العقل والفيزياء. و نشر ويل محاضرة، ختمها بتفضيل الغموضية المسيحية-الرياضية لنيكولا أوف كوسا Nicholas of Cusa. في مقال منشور له عن كبلر، حيث يقدّم باولي هذا الأخير كجزء من تقاليد الغموضية الغربية التي أدرُس''



وقد ختم مارين قائلًا: ''بالنسبة للأشخاص الذين لا يؤيدون تفسير كوبنهاجن Copenhagen، ويفضلون البديل الذي اقترحه دافيد بوهم David Bohm، أنصحكم بقراءة محاورات بوهم المنشورة والمتعددة حول موضوع الغموضية الشرقية''، وأضاف: ''مثل كثيرين اليوم، حاول إدنجتون وشرودنغر توحيد قِواهما لصوغ نظرية الجاذبية الكمومية. هل لعبت الغموضية التي كانا يتشاركان، دورًا في المعرفة التي أدركاها، أو في الأخطاء التي ارتكباها؟ لا أعلم، لكن أظن أنه من المهم اكتشاف ذلك''.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

اترك تعليقاً () تعليقات