الإدراك المعقّد وأثره في تشكيل فأس العصر الحجري


على الرغم من التدريب المكثف، فإنّ العقل الحديث يرى أنّ صناعة فأسٍ يدويٍّ من الحضارة الأشولينية أمرٌ صعب. يقول دييتريخ ستاوت عالم الآثار التجريبية: "يجب أن نكنّ الاحترام لصنّاع الأدوات من العصر الحجري". حقوق الصورة: Carol Clark.

بقلم كارول كلارك

تُظهر دراسة جديدة أن عمليّة صناعة فأسٍ يدويةٍ في العصر الحجري القديم السفلي Lower Paleolithic، تعتمد على تحكمٍ إدراكيٍّ معقدٍ من قبل الفص الجبهي المقدم prefrontal cortex، وعمليّة الإدراك هذه تشتمل على وظيفةٍ من وظائف الذاكرة العاملة working memory، تسمى "الوظيفة التنفيذيّة المركزيّة".

نشرت دورية PLOS ONE هذه النتائج، وهي نتائج تنفي العديد من النظريات القائلة أنّ الفؤوس اليدويّة في العصر الحجري هي عبارة عن أدوات بسيطة، لا تحتاج في صناعتها إلى الوظيفة التنفيذيّة عالية المستوى للدماغ.

يقول دييتريخ ستاوت Dietrich Stout، وهو عالم آثار تجريبي في جامعة إيموري وقائد الدراسة: "لقد أظهرنا -للمرة الأولى- وجود علاقةٍ ما بين درجة نشاط الفص الجبهي المقدم والقدرة على القيام بقرارات تقنية، والنجاح حقًا في صناعة أدواتٍ حجريةٍ. هذه النتائج هي ذات علاقة بالنقاشات الحالية الدائرة حول أصول الإدراك البشري الحديث، وحول دور التعقيد التقنيّ والاجتماعيّ في تطور الدماغ بين الأنواع الحية".

يقول ستاوت: "إنّ مهارة صناعة فأسٍ يدويةٍ في حقبة ما قبل التأريخ هي مهارة أكثر تعقيدًا وذات تفاصيل أكثر مما يظن أغلب الناس، ليس الأمر مجرد قرود إنسانية تقوم بطرق الصخور بعضها ببعض، يجب علينا أن نكنّ الاحترام لصنّاع الأدوات من العصر الحجري".

توفر الأدوات الحجرية -التي تُصنع عن طريق طرق "مركز" الحجر باستخدام قطعة من العظم، أو باستخدام قرن، أو حجارة أخرى- واحدًا من أكثر الدلائل الوافرة على تغيّر سلوك الإنسان عبر الزمن. كانت الرقائق الحجرية الأولدوانية Oldowan أولى الأدوات المعروفة، والتي يعود تاريخها إلى 2.6 مليون سنة. ويعود تاريخ فأس اليد الأشولينية Acheulean إلى 500٫000 سنة مضت. قد يكون من السهل تعلّم صناعة رقائق الحجارة الأولدوانية، ولكنَّ تعلم صناعة فأس اليد الأشولينية هو أمرٌ صعب الإتقان؛ وذلك بسبب مركزها الذي يشبه شكل العدسة، والذي يستدق حتى يصل إلى حوافها المتماثلة.




ويقول ستاوت: "أردنا أن نفصل أجزاء الدماغ، وأن نقارن تلك الأجزاء التي كان لها النشاط الأعلى في الدماغ، وهي الأجزاء التي استخدمت في هذه التقنيات الأدواتية الحجرية، وبالتحديد فقد أردنا أن ننظر إلى دور التحكم الحركي مقابل التفكير الاستراتيجيّ".

أمثلة من الحجارة الموكلة إلى كل متطوع
أمثلة من الحجارة الموكلة إلى كل متطوع


قام الباحثون بتوظيف ستة متطوعين، كلهم كانوا طلابًا في علم الآثار في جامعة إكزتر، وذلك بهدف تدريبهم على صناعة أدوات حجرية، وهي مهارة تعرف باسم "تشذيب الحجارة" knapping. تمّ اختبار قدرات المتطوعين قبل أن يتدربوا وبعد التدريب؛ من أجل تقييمهم في صناعة الأدوات الألدوانية، فقد طُلب منهم أن يفصلوا خمسة رقاقات عن مركزٍ لحجر صوان، ومن أجل تقييمهم في صناعة الأدوات الأشولينية، قاموا بصناعة أداة من مركزٍ موحدٍ من البورسلان.

خضع المتطوعون لتصويرٍ وظيفيٍّ بالرنين المغناطيسي (fMRI)، ولمسح بموتر الانتشار (DTI) لأدمغتهم، بينما كانوا يشاهدون مجموعة من الفيديوهات، وكان ذلك عند البدء بالتجربة، وفي منتصفها، وعند نهايتها بعد 18 شهرًا. أظهرت الفيديوهات مراكز الحجارة خلال دورانها، وقد كانت معلَّمَة بعلامات ملونة: فالنقطة الحمراء تعني نقطةً للضرب، وأما المنطقة البيضاء فهي تظهر الرقاقة التي يتوقع أن تنتج عن عمليّة الضرب.

سُئل المتطوّعون السؤال التالي: "إذا ما ضُرب المركز في المكان الموضح، هل المكان الذي يتوقع أن تخرج منه الرقاقة الناتجة عن الضرب صحيح أو لا؟" وكذلك: "هل المكان الموضح لضرب المركز هو المكان الصحيح للضرب، إذا أخذنا بالاعتبار الهدف الكامن من وراء هذه التقنية؟".

استجاب المتطوعون بالضغط على زر "Yes" أو "No".

تعتمد إجابة السؤال الأول -وهو كيف ستنكسر الصخرة عندما تضربها في مكانٍ محدد- على عملياتٍ انعكاسيّةٍ وعملياتٍ إدراكيّةٍ وعلمياتٍ تتحكّم بالحركة، وهي مرتبطةٌ بالأجزاء الخلفيّة من الدماغ. يقارن ستاوت هذا الأمر بالمنعكس التكراري المستخدم في حركة ضرب الغولف المُتَدرَّب عليها، أو بسياقة سيارة.

يتضمن السؤال الثاني -هل يُعدّ ضرب المركز في مكان محدد فكرةً جيدةً إذا ما كنت تريد صنع فأس يدويّة؟- على التفكير الاستراتيجي، وذلك كتخطيط مسار رحلة طريق. يقول ستاوت: "عليك أن تفكر بالمعلومات التي خزنتها في دماغك، وأن تجعلها متاحة على الخط، ثمّ تتخذ قرارًا حول كلّ خطوة في الرحلة".

تتيح لك (وظيفة التحكم التنفيذي للدماغ)، والمرتبطة بنشاطٍ في قشرة الفص الجبهي المقدم، أن تعكس ما سيحدث في المستقبل وتستخدم هذا الانعكاس ليقود أفعالك. يوضح ستاوت: "الأمر أشبه بسفرٍ زمنيٍ للعقل، أو باستخدام محاكاة حاسوبية. يعبِّر هذا الأمر عن قدرة إدراكية بشرية عالية المستوى".

قام الباحثون برسم خريطة لمستوى مهارة المتطوعين، باستخدام البيانات المأخوذة من مسوحات أدمغتهم ومن استجاباتهم للأسئلة. تُظهر النتائج أنه كلما زادت دقة المتطوعين في اختبار الفيديو حول توقع الاستراتيجية الصحيحة لصنع فأس يدوية، كلما كانت مهارتهم في صناعة الأدوات أعلى. كما كانت دقتهم في اختبار الفيديو متناسبة طرديًا مع النشاط الموجود في قشرة الفص الجبهي المقدم.

يقول ستاوت: "تقترح هذه البيانات أن صناعة فأس يدوية أشولينية ليست مجرد أمرٍ تكراريٍّ، وليست نشاط طيار آلي للدماغ، فهي تتطلب منك أن تستدعي بعضًا من التفكير المعقد".

أغلب الفؤوس اليدوية المصنوعة بالأيدي والعقول الحديثة للمتطوعين في التجربة، لن تكون كافية بالنسبة للعصر الحجري. يقول ستاوت: "لم تكن متوافقة مع المعايير العالية التي كانت موجودة قبل 500,000 سنة".

أظهرت دراسة سابقة للباحثين أن تعلم صناعة الأدوات الحجرية يصنع تغييرات بنيوية في ألياف الدماغ (السبل الليفية في الدماغ) التي تصل ما بين الفصين الجداري والجبهي، كما أن هذه التغييرات في الدماغ ترتبط بزيادات في الأداء. يقول ستاوت: "شيءٌ ما يحدث ليقوّي هذه الرابطة، يؤيد هذا الدليلُ الأدلةَ السابقة المشيرة إلى أهميّة هذه الأنظمة الدماغية في صناعة الأدوات الحجرية، كما يظهر كيف لصناعة الأدوات أن تكون قد ساهمت في تشكيل الدماغ".

أطلق ستاوت أخيرًا تجربة رئيسة في علم الآثار تمتد على ثلاث سنوات، والتي ستُبنى على هذه الدراسات وعلى غيرها.


هذه الدراسة المسماة بمشروع (لغة التكنولوجيا) تتضمّن 20 متطوّعًا، سيقومون بتخصيص 100 ساعة لتعلم فن صناعة الفؤوس اليدوية من العصر الحجري، كما سيقومون بسلسلة من التصويرات بالرنين المغناطيسي. يهدف المشروع إلى معرفة ما إذا كانت الأنظمة الدماغية المسؤولة عن وضع سلسلة من الكلمات مع بعضها لتنتج جملة مفهومة في اللغة، تتقاطع مع الأنظمة المسؤولة عن وضع سلسلة من الأفعال الفيزيائية مع بعضها للوصول إلى هدفٍ ذي معنى.


 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات