ما هو نموذج السحابة الالكترونية وكيف غيرت ميكانيكا الكم عالمنا؟

نموذج ثلاثي الأبعاد لمدارات الإلكترون بالاعتماد على نموذج السحابة الإلكترونية.

كانت بدايات القرن العشرين فترةً مبشرة للغاية فيما يتعلق بالعلوم؛ فعدا عن ولادة النموذج القياسي (Standard Model) لفيزياء الجسيمات على يد إيرنست راذرفورد ونيلز بور، حفلت أيضاً تلك الفترة بتطوّرات جديدة في مجال ميكانيكا الكم (quantum mechanics). وبفضل الدراسات المتواصلة لسلوك الإلكترونات تمكّن العلماء من اقتراح نظريات عن قيام تلك الجسيمات البسيطة بسلك طرقٍ تتحدى الفيزياء الكلاسيكية النيوتينية.

أحد الأمثلة على ذلك نموذج السحابة الالكترونية (Electron Cloud Model) الذي طرحه إيرفين شرودينجر، فبفضل ذلك النموذج لم تعد الالكترونات تصوّر كجسيمات تدور حول نواةٍ مركزية في مدار ثابت. بدلاً من ذلك طرح شرودينجر نموذج يمكن للعلماء من خلاله وضع تخمينات علمية فيما يتعلق بمواقع الالكترونات، وبذلك تُصف تلك المواقع كجزءٍ من سحابة حول النواة يحتمل وجود الالكترونات فيها.
 

  • الفيزياء الذرية حتى القرن العشرين

    إن أقدم الأمثلة المعروفة للفيزياء الذرية يعود أصلها لليونان القديم والهند حيث افترض بعض الفلاسفة من أمثال ديمقريطس Democritus أن المادة بمجملها تتكوّن من وحدات دقيقة لا تُرى بالعين المجردة ولا يمكن قصمها. فتمّت صياغة مصطلح الذرّة (atom) في اليونان القديم وظهرت على إثره مدرسة فكرية عُرفت بالمذهب الذريّ (atomism)، لكن هذه النظرية كانت تمثّل مفهوماً فلسفياً أكثر من كونها نظرية علمية.

    ذرات وجزيئات مختلفة كما رُسمت في مؤلف دالتون المعروف بنظام جديد لفلسفة الكيمياء (1808)
    ذرات وجزيئات مختلفة كما رُسمت في مؤلف دالتون المعروف بنظام جديد لفلسفة الكيمياء (1808)


    لم يتمّ إعلان نظرية الذرات كمادّة علمية حتى القرن التاسع عشر عندما أجريت أولى التجارب المبنيّة على البراهين، فعلى سبيل المثال استخدم العالم الإنكليزي جون دالتون John Dalton في بدايات القرن التاسع عشر مفهوم الذرّة لتفسير سبب تفاعل عناصر كيمائية بأساليب معينة قابلة للمراقبة ويمكن التنبؤ بها. وعبر سلسلة من التجارب المرتبطة بالغازات ذهب دالتون لتطوير ما عُرف بنظرية دالتون الذرية (Dalton’s Atomic Theory).

    لقد قدمت تلك النظرية شرحاً مفصّلاً لقوانين دراسة الكتلة والمقادير المحدودة وتوصّلت لخمس مسلّمات: تتألف العناصر في أنقى حالاتها من جسيمات تدعى الذرات؛ والذرات الموجودة في عنصر محدد جميعها متشابهة حتى آخر ذرة؛ ويمكن تمييز ذرات العناصر المختلفة عن بعضها البعض من خلال أوزانها الذرية؛ وتتحّد ذرات العناصر لتشكّل مركبات كيماوية؛ ولا يمكن خلق الذرات ولا تدميرها في التفاعل الكيميائي، وكل ما يتغير هو التجمعات.
     
  • اكتشاف الالكترون

    في أواخر القرن التاسع عشر بدأ العلماء بالتنظير حول تكوّن الذرة من أكثر من وحدة أساسية، حتى أنّ معظمهم تجرّأ على طرح أن حجم هذه الوحدة سيكون مساوياً لحجم أصغر ذرة معروفة وهي ذرة الهيدروجين. لكن مع اقتراب نهاية القرن التاسع عشر تغّير ذلك الطرح جذرياً بفضل أبحاث أجراها علماء مثل السير جوزيف جون ثومسون Joseph John Thomson.

    لاحظ ثومسون عبر سلسلة من التجارب باستخدام أنابيب الأشعة المهبطية التي تعرف بأنبوب كروكس (Crookes’ Tube) أن الأشعة المهبطية يمكن حرفها باستخدام الحقول الكهربائية والمغناطيسية. وخلُص إلى أن تلك الأشعة لا تتكون من الضوء بقدر ما هي مكونة من جسيمات سالبة الشحنة أصغر من الهيدروجين بألف مرة وأخفّ منه بـ 1800 مرة.

    نموذج
    نموذج


    أسهم ذلك بشكل فعال في نفي الفكرة القائلة بأن ذرة الهيدروجين هي أصغر وحدات المادة، وذهب ثومسون أبعد من ذلك باقتراح أن الذرات قابلة للفصم. ولشرح الشحنة الكلية للذرة المؤلفة من شحنات موجبة وسالبة طرح ثومسون نموذجاً مفاده أن الجسيمات الكروية سالبة الشحنة تتوزع ضمن بحر متجانس من الشحنات الموجبة، وهذا ما يعرف بنموذج حلوى الخوخ (Plum Pudding Model).

    وسميت هذه الجسيمات الكروية لاحقاً بالإلكترونات استناداً إلى الجسيم النظري الذي توقّعه عالم الفيزياء الإنكليزي الإيرلندي جورج جونستون ستونيز George Johnstone Stoney عام 1874 ، وانطلاقاً من هنا ولد نموذج حلوى الخوخ حيث سُمّي كذلك لأنه يشبه إلى حدّ كبير التحلية الإنكليزية المكوّنة من كيكة الخوخ والزبيب. وتمّ تعريف العالم بهذا المفهوم في طبعة المجلة الفلسفية (Philosophical Magazine) البريطانية التي صدرت في آذار من عام 1904 لتلقى ترحيباً واسعاً.
     
  • تطور النموذج القياسي

    أظهرت التجارب اللاحقة عدداً من المشكلات العلمية المتعلقة بنموذج حلوى الخوخ، فبالنسبة للمبتدئين ثمة مشكلة توضيح امتلاك الذرة لشحنة خلفية موجبة متجانسة التي أصبحت تُعرف بمشكلة ثومسون (Thomson Problem). وبعد خمس سنوات تمّ نقض النموذج من قبل هانز جايغر Hans Geiger وإيرنست مارسدن Ernest Marsden اللذين أجريا سلسلة من التجارب باستخدام جسيمات ألفا ووريقات الذهب عرفت باسم تجربة وريقات الذهب.

    قاس جايغر ومارسدن في هذه التجربة نمط تشتت جسيمات ألفا باستخدام شاشة متلألئة، فوجدوا أنه لو كان نموذج ثومسون صحيحاً لمرّت جسيمات ألفا عبر النسيج الذري للوريقات دون عرقلة. وأشاروا عوضاً عن ذلك إلى أن رغم مرور معظم تلك الجسيمات بشكل مستقيم إلا أنّ بعضها تشتت في مختلف الاتجاهات حتى أن البعض منها عاد متجهاً إلى المصدر.

    توضيح للبنية الذرية لذرة الهليوم.
    توضيح للبنية الذرية لذرة الهليوم.


    خلُص جايغر ومارسدن إلى أن الجسيمات جابهت قوة كهربائية ساكنة أقوى بكثير من تلك المسموح بها حسب نموذج ثومسون، وبما أن جسيمات ألفا هي مجرد نويات هيليوم موجبة الشحنة فهذا يوحي ضمنياً بأن الشحنة الموجبة في الذرة لم تتشتت على نطاق واسع بل تركّزت ضمن مقدار بالغ الصغر. علاوة على ذلك فإن حقيقة مرور تلك الجسيمات غير المنحرفة دون عراقيل تعني أن تلك المساحات الموجبة تفصل بينها خلجان شاسعة من مساحة فارغة.

    بحلول عام 1911 فسّر الفيزيائي إيرنست راذرفورد تجارب جايغر ومارسدن ونبذ نموذج الذرّة الخاص بثومسون، وبدلاً عن ذلك طرح نموذجاً ينص على أن الذرة تتكون بمعظمها من مساحة فارغة وأن شحنتها الموجبة بأكملها تتركز في الوسط ضمن مقدار متناهي الصغر حيث تحيط بها سحابة من الالكترونات، فأصبح هذا يُعرف بنموذج راذرفورد للذرّة (Rutherford Model).

    وقد عدّلت التجارب اللاحقة التي أجراها كلّ من أنطونيوس فان دين برويك Antonius Van den Broek و نيلز بور ذاك النموذج بشكل كبير، فبينما اقترح فان دين برويك أنّ العدد الذري لعنصر ما مشابه جداً لشحنته النووية، اقترح الأخير نموذجاً للذرة مماثلاً للمجموعة الشمسية حيث تحتوي النواة على العدد الذري من الشحنة الموجبة ويحيط بها عدد مساوٍ من الالكترونات ضمن مدارات على شكل قوقعة وهو ما عُرف بنموذج بور (Bohr Model).
     
  • نموذج السحابة الإلكترونية

    خلال فترة العشرينيات من القرن المنصرم كان الفيزيائي النمساوي إيرفين شرودينجر مفتوناً بنظريات ماكس بلانك وألبرت آينشتاين ونيلز بور وأرنولد سومرفيلد وغيرهم من الفيزيائيين، حيث انخرط أيضاً في مجالات النظرية الذرية والأطياف الذرية خلال تلك الفترة، وكان يجري أبحاثه في جامعة زيورخ ومن ثم جامعة فريدريك ويلهلم في برلين (حيث خلف بلانك عام1927).

    تصور فني لنموذج السحابة الالكترونية، الذي يصف الموقع المرجح لمدارات الالكترون بمرور الزمن.
    تصور فني لنموذج السحابة الالكترونية، الذي يصف الموقع المرجح لمدارات الالكترون بمرور الزمن.


    في عام 1926 تطرّق شرودينجر إلى مسألة الدالّة الموجية (wave function) والالكترونات في سلسلة من الأبحاث، فعدا عن توصيفه لما عُرف لاحقاً بمعادلة شرودينجر- وهي معادلة تفاضلية جزئية تصف كيفية تغير الحالة الكمومية لنظام كمي مع الزمن– قام أيضاً باستخدام المعادلات الرياضية لتوصيف احتمالية وجود إلكترون ما في موقع معين.

    أضحى ذلك الأساس لما عُرف لاحقاً بالسحابة الالكترونية أو النموذج (الميكانيكي الكمومي) بالإضافة لمعادلة شرودينجر. وبناءً على نظرية الكمّ التي تنصّ على أن لكل المواد خصائص مرتبطة بدالّة موجية فإنّ نموذج السحابة الالكترونية يختلف عن نموذج بور بأنه لا يحدّد طريق الالكترون بدقّة، وإنما يصور الموقع المحتمل لمكان توضّع الالكترونات بناء على تابع احتمالات.

    يصف التابع الاحتمالي بشكل رئيسي منطقة شبيهة بالسحابة يحتمل وجود الالكترون فيها، ومن هنا أتى اسم النموذج. وحيث تبلغ السحابة أقصى كثافتها تزيد احتمالية العثور على الالكترون، وبالمقابل فكلما قلّ احتمال وجود الالكترون كلما قلّت كثافة السحابة؛ وتعرف المناطق ذات الكثافة بالمدارات الالكترونية (electron orbitals) بما أنها تشكل المواقع الأكثر احتمالاً لدوران الالكترون. وعند توسيع نموذج السحابة ليشمل فضاء ثلاثي الأبعاد نرى ذرّة على شكل زهرة أو أداة رفع الأثقال (كما في الصورة في الأعلى)، ومن هنا فإن المناطق المتفرعة عنها هي المناطق الأكثر احتمالاً لوجود الالكترون.

 

 

​بفضل عمل شرودينجر بدأ العلماء بفهم استحالة معرفة الموقع الدقيق للالكترون وعزمه في ذات الوقت في عالم ميكانيكا الكم، وبصرف النظر عن المعرفة المبدئية للمراقب بخصوص جسيم ما فكل ما يمكن توقعه إما موضعه التالي أوعزمه من وجهة نظر احتمالية. كما لا يمكن تحديد الوقت الذي يمكن فيه التيقّن من ذلك، وفي الواقع كلما ازدادت معرفة عزم الجسيم كلما قلّت معرفة موضعه والعكس بالعكس؛ وهذا ما يعرف اليوم بمبدأ الارتياب (Uncertainty Principle). وتجدر الملاحظة بأن المدارات المذكورة في الفقرة السابقة مشكّلة من ذرة هيدروجينية (أي ذرة وحيدة الالكترون)، لكن عند التعامل مع ذرات تحوي عدداً أكبر من الالكترونات فإن مناطق دوران الالكترون تتوزع بالتساوي داخل كرة ضبابية مؤلفة من كريّات، وهذا أكثر ما يتوافق مع مصطلح السحابة الالكترونية.
 

هذا الإسهام أُقرّ عالمياً كأحد أهم الإسهامات في القرن العشرين حيث أحدث ثورة في مجالات الفيزياء وميكانيكا الكم وكل العلوم في الواقع، ومنذ ذلك الحين لم يعد عمل العلماء مقتصراً على كون يتّسم بحقائق مطلقة فيما يخص المكان والزمان بل باتوا يعملون ضمن حالات ارتياب كمومية وضمن نسبية مكانية زمانية!

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • التابع الموجي (wave function): يصف هذا التابع في ميكانيك الكم الحالة الكمومية لنظامٍ معزول مكون من جسيمٍ او أكثر.
  • نموذج بور (Bohr model): يُصور هذا النموذج الذرة على أنها مكونة من نواة مشحونة إيجابياً وصغيرة، وهي محاطة بإلكترونات تتحرك على طول مسارات دائرية حول النواة بشكلٍ مشابه لما يجري في النظام الشمسي، لكن القوة الجاذبة هنا هي الكهرباء الساكنة.
  • الالكترون (Electron): جسيم مشحون سلبياً، ويُوجد بشكلٍ عام ضمن الطبقات الخارجية للذرات. تبلغ كتلة الالكترون نسبة تصل إلى حوالي 0.0005 من كتلة البروتون.

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات