يمكنك الاستماع إلى المقال عوضاً عن القراءة
هل الزمكان قابل للعد؟

سؤال قد يُوحّد ميكانيك الكم والجاذبية
 
يفترض التفكير الحالي بالجاذبية الكمومية، أن الزمكان موجود في تكتلات قابلة للعد كحبيبات الرمال. هل يمكن لذلك أن يكون صحيحاً؟

تكمن أحد المشكلات الكبيرة في الجاذبية الكمومية بأنها تُولد اللانهائيات، التي لا تمتلك أي معنى فيزيائي. تظهر هذه اللانهائيات لأن ميكانيك الكم يُشير إلى أن القياس الدقيق للكون، عند سلالم القياس الأصغر، يتطلب طاقةً عالية جداً. لكن عندما يُصبح سلم القياس صغير جداً، تترافق كثافة الطاقة مع قياس كبير إلى درجة تقود إلى تشكل ثقب أسود، سيقوم بدوره بتدمير القياس، الذي أدى إلى ظهوره.

 
هذا النوع من اللانهائيات مزعج نوعاً ما، فطبيعته المتناقضة تجعل من الصعب جداً التعامل معه رياضياً، ومن الصعب أيضاً توفيقه مع معرفتنا للكون، الذي يتجنب هذا النوع من السلوك المتناقض، حسب ما نعرف.
 
لذلك ابتكر الفيزيائيون طريقةً من أجل التعامل مع اللانهائيات، وتُعرف تلك الطريقة بإعادة الاستنظام. (renormalisation). في جوهر هذه الطريقة، يفترض النّظريون أن الزمكان غير مستمر، وبالتالي لا يُمكن الاستمرار في تقسيمه بشكلٍ لانهائي. وبدلاً من ذلك، هناك حد أصغري لا يُمكن تقسيم أي شيء عنده إلى قيمة أصغر منه، ويُعرف هذا الحد بمقياس بلانك(Planck scale)، ويؤكد هذا الحد أن كثافات الطاقة لن تُصبح أبداً عالية بشكلٍ كافٍ من أجل ظهور ثقوب سوداء.
 
ذلك مكافئ للقول بأن الزمكان منفصل، أو كما تصفه الرياضيات، فهو قد يكون قابل للعد. وبكلمات أخرى، من الممكن تعيين رقم يرتبط بحجم منفصل من الزمكان القابل للعد، والأمر مشابه لحبيبات الرمل على شاطئ، أو الذرات في الكون.
 
يعني ذلك أنه من غير المرجح أن يكون الزمكان غير قابل للعد، كالمستقيمات التي يُمكن تقسيمها بشكلٍ لانهائي، أو درجات الحرية الموجودة في الحقول التي تُعتبر لبنات البناء الأساسية في الفيزياء، المُثبت رياضياً بأنها غير قابلة للعد. هذه الانفصالية مفيدة، لكنها تؤدي من ناحية أخرى إلى ظهور سؤال مهم وهو:
هل هي صحيحة؟ هل الكون في الحقيقة منفصل في جوهره كنموذج حاسوبي؟

اليوم، يُجادل شون غريب (Sean Gryb)، من جامعة رودبود في هولندا، بوجود نهج بديل يظهر على شكل صيغة جديدة للجاذبية، ويُعرف بديناميكا الشكل (shape dynamics). يُشير هذا النهج الجديد إلى أن الزمكان متجانس وغير قابل للعد، وقد يكون لمثل هذه الفكرة عواقب بعيدة المدى على طريقة فهمنا للكون.

 
يرقد في جوهر هذه النظرية الجديدة مفهوم ثبات المقياس (scale invariance)، وتعني هذه الفكرة أن جسم ما، أو قانون ما، سيمتلك الخواص نفسها بصرف النظر عن سلم القياس، المستخدم عند النظر إليه.
 
بشكلٍ عام، لا تتمتع القوانين الحالية في الفيزياء بهذه الخاصية. فعلى سبيل المثال، تعمل ميكانيك الكم فقط عند سلالم القياس الأصغر، في حين تعمل الجاذبية عند الأكبر. لذلك من السهل جداً معرفة السبب الذي من أجله يتلهف النظريون لخواص مثل ثبات المقياس. فوفقاً لهذه الخاصية، يجب أن يشمل الوصف، ثابت المقياس للكون، النظرية الكمومية والجاذبية.
 
ووفقاً لغْريب، تقوم ديناميك الشكل بذلك الأمر؛ فهي تُحقق ذلك عبر تجاهل العديد من المميزات الاعتيادية للأجسام الفيزيائية، كموقعها داخل الكون. بدلاً من ذلك، تُركز هذه النظرية على علاقات الأجسام مع بعضها البعض، كالزوايا الموجودة بينها، والشكل الناتج عن ذلك (من هنا جاء اسمها "ديناميكا الشكل").
 
يقود هذا النهج وبشكلٍ مباشر إلى صور ثابتة للواقع، فالزوايا عبارة عن ثوابت قياس لأنها تبقى نفسها بصرف النظر عن سلم القياس الذي نعتمده عند النظر إليها. إذاً، تصف طريقة التفكير الجديدة هذه الكون كسلسلة من اللقطات الفورية للعلاقة بين الأجسام. والنتيجة هي أن الثبات في سلم القياس مكاني بشكل بحت، لكن هذه الفكرة مختلفة كثيراً عن الفكرة الأكثر انتشاراً لثبات سلم القياس في الزمكان.
 
نتيجة لما سبق، اعتمد جزء مهم من عمل غريب على استخدام الأفكار الرياضية للتناظر من أجل البرهان على إمكانية تحويل الثبات في سلم القياس المكاني إلى ثبات في سلم قياس الزمكان. برهن غريب كيفية عمل ذلك الأمر في كون متوسع ومغلق، حيث تكون قوانين الفيزياء هي نفسها داخله بالنسبة لكل الراصدين العطاليين. وبالنسبة لأولئك، الذين تُمثل سرعة الضوء لهم مقدار ثابت ومحدود.
 
إذا ما بدا الشرطين الأخيرين مألوفين بالنسبة لنا، فذلك ناجم عن كونهما مسلمات استخدمها اينشتاين من أجل اشتقاق النسبية الخاصة، وصيغة غريب مكافئة لذلك. يقول غريب: "يُمكن إعادة تفسير الراصدين، في نظرية النسبية الخاصة بأينشتاين، على أنهم راصدين في فضاء ثابت المقاييس".
 
يؤدي ذلك إلى ظهور بعض الاحتماليات المهمة بخصوص نظرية أوسع للجاذبية الكونية، والأمر مشابه تماماً لقيام النسبية الخاصة بقيادة الطريق نحو نظرية أوسع للجاذبية، جاءت على شكل النسبية العامة. يصف غريب إمكانية خلق نماذج لزمكان منحني عبر القيام بلصق الأجزاء المحلية من زمكانات مسطحة، ويتساءل: "هل من الممكن القيام بشيء مشابه بخصوص ديناميكا الشكل، أي هل يُمكننا لصق الأجزاء المحلية من فضاءات مسطحة، ليكون من الممكن بعد ذلك ربطها بالنسبية العامة".
 
لم ينجح أحد في القيام بذلك الأمر على نموذج يتضمن الأبعاد الثلاثة للمكان والبعد الزمني، لكننا مازلنا في الأيام الأولى لديناميكا الشكل، ويعمل غريب وآخرون على حل هذه المسألة.
 
غريب متحمس بوضوح للاحتماليات المستقبلية، ويقول بأن ذلك يقترح طريقة جديدة للتفكير بالجاذبية الكمومية بدلالة ثبات المقياس، ويُضيف: "سيُقدّم ذلك الأمر آلية جديدة تُمَكنْ من التعامل مع عدد لانهائي، وغير قابل للعد من درجات الحرية الموجودة في حقل الجاذبية، ويحصل كل ذلك دون إقحام الانفصالية عند مقياس بلانك".
 
إنه نهج جديد ومثير، وقادم من صوت جديد قادر على شرح أفكاره بشكلٍ واضح لجمهورٍ واسع. لا تُوجد طريقة يُمكننا من خلالها معرفة الكيفية التي سيتطور بها هذا الخط من التفكير، لكننا نتطلع قُدماً إلى المزيد من تدفقات الأفكار القادمة من غريب.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • إعادة الاستنظام (Renormalisation): هي طريقة للتعامل مع التباعدات الحاصلة في النظريات. كما أنها أداة مهمة جداً ومستخدمة بشكلٍ واسع في نظرية الحقل الكمومي. وتقبل تلك النظرية هذه الطريقة في وصف الجسيمات العنصرية والتفاعلات.

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات