فيزياء الروسي إفيموف إلى الحياة مجدداً

رصد حالة إفيموف داخل جزيء "الأجزاء الثلاثة" للهيليوم!

 

اكتشف علماء فيزياء من جامعة غوته في ألمانيا، مؤخراً، حالة كمومية تنبأ بها الفيزيائي النظري الروسي، فيتالي إفيموف (Vitaly Efimov)، قبل أربعين عاماً؛ وحصل الاكتشاف داخل جُزيءٍ يتألف من ثلاث ذرات هليوم. ووفقاً للورقة العلمية للباحثين، المنشورة في مجلة "Science"، يتمتع هذا الجزيء بحجمٍ مكاني هائل، ويُوجد بشكلٍ رئيسي داخل منطقة النفق (tunneling region) المحظورة كلاسيكياً.

 

في العام 1970، حلّل فيتالي إفيموف النظام الكمومي ثلاثي الأجسام (three-body quantum system) الذي تتناقص داخله قوة التجاذب بين جسمين إلى درجة أنهما يصبحان معاً غير مرتبطين. ونصَّ تنبؤ إفيموف على أنه بدلاً من تحطم هذا الجزيء، المكون من ثلاثة جسيمات، يُمكنه في الحقيقة دعم عدد لا نهائي من حالات الترابط (bound states)، على مدى مسافات هائلة موجودة بين الشركاء المرتبطين. يقول البروفسور راينهارد دورنر (Reinhard Dörner)، رئيس مجموعة البحث في معهد الفيزياء النووية: "تسقط هنا كل الأفكار الكلاسيكية كتلك التي تحاول تفسير بقاء هذه البنية مستقرة".

 

قاد هذا التنبؤ، المنافي للبديهة، إلى حقل أبحاث يزدهر حالياً ويُعرف بفيزياء إفيموف (Efimov physics). وفي الحال، أصبح من الواضح أنّ نظاماً يتألف من ثلاث ذرات هليوم، أو ما يعرف بالأجزاء الثلاثة، (أو اختصاراً trimer)، سيكون المثال الرئيسي على هذا المفعول الكمومي، لكن فشلت كل التجارب المُجراة لإثبات وجود نظام الهليوم ضعيف الترابط هذا.

الدكتور مكسيم وهو من اكتشف حالة الأجزاء الثلاث في أنظمة الهليوم. حقوق الصورة: Lecher
الدكتور مكسيم وهو من اكتشف حالة الأجزاء الثلاث في أنظمة الهليوم. حقوق الصورة: Lecher

في العام 2006، وللمرة الأولى، وجد علماء فيزياء من جامع إنسبورغ أدلة غير مباشرة على أنظمة إفيموف (Efimov systems) في الغازات الكمومية الباردة والمكونة من ذرات السيزيوم؛ وتمكّن العلماء من التحكم الخارجي بالتفاعل بين الجسيمات داخل المصائد الذرية (atom traps) التي استخدموها. ومع ذلك، بدا من الواضح أنّ أنظمة إفيموف تُقذف خارج البيئة الصناعية للمصيدة الذرية وتصبح غير مرئية.

 

حالياً، أنتج عالم الفيزياء، ماكسيم كونيتسكي (Maksim Kunitski)، من مجموعة بحث البروفسور دورنر، نظام إفيموف مستقر ومكون من ثلاث ذرات هيليوم، وأنجز الأمر عبر ضغط غاز الهيليوم عند درجة حرارة 8 فوق الصفر المطلق، باستخدام فوهة صغيرة موجودة في فراغ شديد لتتشكل بالتالي، داخل الشعاع الجزيئي فائق البرودة، جزيئات هيليوم مكونة من ذرتين، أو ثلاث، أو أكثر، من ذرات الهيليوم. وبعد تسببهم في حيود الشعاع الجزيئي على حاجز فائق الرقة، تمكّن الفيزيائيون من فصل "التريمر" (trimers).

 

خلق الباحثون مشهداً انفجارياً لحالة إفيموف هذه، التي توضح بشكلٍ مباشر بنية "التريمر" والمسافات الكائنة بين الذرات داخله. وبعد ذلك، قام العلماء بتأيين كل ذرة هيليوم موجودة في الجزيء بمساعدة شعاع ليزر. وجرّاء التنافر الكهربائي الساكن، تحطم جزيء "الأجزاء الثلاثة" المشحون إيجابياً بشكلٍ انفجاري. بعد ذلك، وباستخدام مجهر COLTRIMS المُطوّر في جامعة غوته، قاس الباحثون كمية حركة أيونات الهيليوم في البيئة ثلاثية الأبعاد، مما سمح لهم بإعادة بناء هندسة جزيء "الأجزاء الثلاثة".

 

وبالتعاون مع عالم الفيزياء النظري، دويرت بلوم (Doerte Blume)، من جامعة ولاية واشنطن في الولايات المتحدة، اكتشف ماكسيم كونيتسكي أن حالة وحيدة من بين العديد من حالات إفيموف الممكنة حصلت طبيعياً داخل الشعاع الجزيئي، ووصلت المسافة بين الذرات المترابطة داخل الجزيء الضخم إلى أكثر من 100 انغستروم -علماً أن هذه المسافة تصل إلى 2 انغستروم في جزيء الماء مثلاً.

 

ونتيجة لما سبق، فإنّ ذرات الهيليوم لا تُشكل مثلثاً متساوي الساقين، وإنما تتموضع بشكلٍ غير متناظر، ويتفق ذلك الأمر بشكلٍ جيد مع التنبؤات النظرية التي طالما وُجدت على مدار العديد من السنوات.

 

يقول دورنر: "هذه هي المرة الأولى التي يُكتشف فيها نظام إفيموف مستقر. لقد حلّق نظام الأجسام الثلاثة في المختبر داخل حجرة تخلية، من دون وجود أي تفاعلات لاحقة، ومن دون الحاجة إلى حقول خارجية أيضاً. أجرى ماكسيم هذا العمل الرائد داخل مختبر ليزر في جامعة غوته بفرانكفورت، ولم يحتاج إلى آلة كبيرة لإنجاز الأمر".

 

يقول كونيتسكي: "حالة إفيموف ليست حالة خاصة غريبة، وإنما هي مثال على مفعول كمومي عالمي يلعب دوراً أساسياً في العديد من مجالات الفيزياء". ويضيف أن الأمثلة على ذلك تتضمن فيزياء الذرات الباردة والتكتلات والفيزياء النووية، ومؤخراً فيزياء الحالة الصلبة. وأكثر من ذلك، نُشر مؤخراً أولى التقارير التي تذكر تمتعه بأهمية كبيرة في مجال البيولوجيا.

 

تحمّل راينهارد مسؤولية معالجة مشروع البحث، الذي كان خطيراً جداً بالنظر إلى إمكانية نجاحه لأنه في العام 2009 قدّمت مؤسسة الأبحاث الألمانية (DFG) مبلغ 1.25 مليون يورو كجزء من برنامج "كوسيليك". يقول دورنر متذكراً: "لقد كانت خطة جريئة. لكن الآن وفي نهاية المشروع، وفي الحقيقة بفضل تقديم DFG لي ذلك المبلغ الضخم، لمشروع خطير، ومن دون وجود تخطيط مفصل، يُمكنني القول إن البحث كان ناجحاً".

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات