لسنين مضت، ألهم العقل البشري المطورين لتطوير الذكاء الاصطناعي، وقد حظي بالكثير من النجاح كنتيجة لذلك. والآن، بدأ التعلم العميق برد هذا الجميل لهم.
على الرغم من أنها لم تُصمَّم لهذه الغاية، ولكن تبدو بعض أنظمة الذكاء الاصطناعي كأنها تُقلِّد عمل أدمغتنا الداخلية أكثر مما كان يُعتقَد سابقاً، وهذا يشير إلى أن كلَّاً من الذكاء الاصطناعي وأدمغتنا قد تلاقت في نفس الاتجاه لحل المشاكل، إذا صحّ هذا، فإن مشاهدة الذكاء الاصطناعي أثناء عمله سيساعد الباحثين في سبر أغوار الدماغ لاحقاً.
يقول دانيال يامينز Daniel Yamins الأستاذ المساعد في علم النفس: "هناك اتصال حقيقي بينهما"، والآن الأستاذ دانيال الباحث في هيئة معهد ستانفورد للعلوم العصبية والعضو في ستانفورد بايو-إكس (Bio-x) يبني أبحاثه مع طاقم مختبره على ذلك الاتصال للحصول على نظريات أفضل عن الدماغ مثل كيفية إدراك الدماغ للعالم، وكيفية انتقاله بكفاءة من مهمة لأخرى، وربما يعرف يوماً ما كيف يفكّر.
لُبس في الرؤية عند الذكاء الاصطناعي
مازال الذكاء الاصطناعي يستعير من الدماغ منذ أيامه الأولى، أي منذ أن طور علماء الحاسوب وعلماء النفس الخوارزميات المسماة بالشبكات العصبية (Neural Networks) التي تحاكي الدماغ على نحو حر. وُجِّهت الكثير من الانتقادات لهذه الخوارزميات لكونها غير منطقيةٍ بيولوجياً، فقد كانت "الخلايا العصبية" في الشبكات العصبية شكل مبسط جداً عن الخلايا العصبية الحقيقية التي تشكل الدماغ، غير أن علماء الحاسوب لم يولوا اهتماماً للاستحسان البيولوجي، فقد كان هدفهم الحصول على أنظمةٍ قابلةٍ للعمل، ولهذا دأبوا على توسيع نماذج الشبكات العصبية بأي طريقة تساهم في تحسين الخوارزمية وجعلها أكثر قدرة على القيام بمهام معينة، وقد بلغ هذا الأمر ذروته فيما يسمى الآن بالتعلم العميق (Deep Learning).
ثم كانت المفاجأة! ففي عام 2012 أثبت باحثو الذكاء الاصطناعي بأن قدرة الشبكات العصبية التعلمية العميقة على تعلم كيفية التعرف على الأجسام في الصور مماثلة لقدرة البشر، وهذا ما حث علماء الأعصاب على التساؤل: كيف يستطيع التعلم العميق فعل هذا؟
فقد اتّضح لاحقاً أنّه يفعل ذلك بنفس الطريقة التي يفعلها الدماغ، ففي عام 2014 أظهر يامينز والزملاء أن نظام التعلم العميق الذي تعلم كيفية إدراك الأجسام في الصور -تقريباً كما يفعل البشر- قد فعل ذلك بطريقة تحاكي بشكل دقيق الآلية التي يعالج بها الدماغ الرؤية. في الحقيقة أدت الحسابات التي نفذها نظام التعلم العميق أداءً مطابقاً لدارات معالجة الرؤية في الدماغ وأفضل من أي نموذج آخر لتلك الدارات.
في نفس الوقت تقريباً، رصدت فرقٌ أخرى نفس المشاهدات حول أجزاء من دارات رؤية الدماغ ودارات معالجة الحركة، مما يشير إلى أنّ كلَّاً من الدماغ والتعلم العميق قد أظهرا حلولاً متقاربة لنفس النوع من المشاكل. وفي الآونة الأخيرة، برهن يامينز وزملاؤه مشاهدات مشابهة للنظام السمعي في الدماغ.
من جهة واحدة، هي ليست مفاجأة كبيرة بالفعل، فعلى الرغم من أن التفاصيل التقنية مختلفة، فإن التنظيم المفاهيمي للتعلم العميق يتم استعارته مما عرفه علماء الأعصاب بالفعل حول تنظيم العصبونات في الدماغ، ولكن نجاح أسلوب يامينز وزملائه وآخرين مثلهم يعتمد بنفس القدر على اختيار آخر أكثر دقة، فبدلاً من محاولة الحصول على نظام تعلم آلة مطابق تماماً لما يفعله الدماغ على مستوى الخلايا العصبية الفردية، كما فعل باحثون آخرون، أعطى يامينز وزملاءه نظام تعلم الآلة ببساطة نفس المشكلة: تحديد الأشياء في الصور، إذ لم يتمكن الباحثون من المقارنة بين كيفية وصول كل من الدماغ ونظام التعلم العميق إلى حلولهم إلا بعد قيام نظام التعلم العميق بحل تلك المشكلة، ليتبينوا فيما بعد أن أساليبهم كانت متشابهة من الأساس.
يقول دانيال بير Daniel Bear الباحث ما بعد الدكتوراه وأحد أعضاء فريق يامينز: "إن التطابق بين النماذج والنظام المرئي ليس محض صدفة، لأن الواحد منهما ألهم الآخر مباشرة، ومن الجدير بالذكر أن هذا يُعَدُّ تطابقاً جيداً كما هو".
أحد الأسباب المحتملة لذلك كما يقول بير، هو الانتقاء الطبيعي والتطور: "في الأساس، كان التعرف على الأجسام عملاً هاماًّ من الناحية التطويرية"، بالنسبة للحيوانات، لحل هذه المشكلة جذرياً، سيكون ذلك عبر إخبارنا بالفرق بين الأشياء التي تستطيع أكلها والأشياء التي تكون هذه الحيوانات وجبة دسمة لها. لعل محاولة فعل الشيء ذاته بالنسبة للإنسان والحيوان -مع استثناء الحاسوب- قاد الباحثين أساساً لإيجاد الحل ذاته.
السعي خلف ما يسعى إليه الدماغ
مهما كان السبب الرئيسي، أدت الأفكار المستمدة من دراسة عام 2014 إلى ما يُطلِق عليه يامينز نماذج الدماغ الموجهة بالأهداف: فبدلاً من محاولة نمذجة النشاط العصبي في الدماغ مباشرة، قام بتدريب الذكاء الاصطناعي لحل المشاكل التي يحتاج الدماغ لحلها، ثم استخدم نتائج نظام الذكاء الصناعي كنموذج للدماغ، منذ 2014 قام يامينز والمتعاونون بتكرير النموذج الأصلي الموجه للهدف الخاص بدارات الرؤية في الدماغ، وتوسيع العمل في اتجاهات جديدة، تشمل استيعاب الدارات العصبية التي تعالج المدخلات القادمة من شعيرات القوارض.
ربما في المشروع الأكثر طموحاً، يكتشف كل من يامينز وزميل ما بعد الدكتوراه نايك هابر Nick Haber كيفية تعلم الأطفال عن العالم من حولهم من خلال اللعب، هؤلاء الأطفال -الذين هم في الحقيقة محاكاة حاسوبية بسيطة- متحفزون للتعلم من خلال حبهم للاستطلاع، إنهم يتعلمون عن عوالمهم من خلال الحركة في المحيط والتفاعل مع الأجسام، يتعلمون من خلال توقعهم لما سيحدث عند قيامهم بضرب الكرات أو لف وجوههم. وفي الوقت نفسه، يتعلم النموذج توقُع الأجزاء التي لا يمكنه استيعابها عن العالم، ثم يحاول التعرف عليها.
عندما تبث الروح في المحاكاة الحاسوبية -إن جاز التعبير- بينما لا تعلم أي شيء عن العالم، فإنها تكتشف كيف تُصنَّف الأشياء المختلفة، أو حتى كيف تسحق اثنان أو ثلاثة منها معاً، وبالرغم من أن المقارنات المباشرة مع النشاط العصبي للأطفال سابقة لأوانها، ولكن قد تساعد النماذج الباحثين على فهم أفضل حول كيفية استخدام الأطفال اللعب للتعلم عن بيئاتهم، كما قال هابر.
ومن جهة أُخرى، تستطيع النماذج المستوحاة من الذكاء الاصطناعيّ المساعدة في حل اللغز المتعلق بالتخطيط الفيزيائي للدماغ، كما يقول إيشيد مارغليت Eshed Margalit طالب الدراسات العليا في علوم الأعصاب، ومع تطور دارات الرؤية في أدمغة الأطفال، فإنها تُشكِّل بقعاً محددة -مجموعات فيزيائية من العصبونات- تستجيب لمختلف الأنواع من المجسمات أو الكائنات، فعلى سبيل المثال يُشكّل البشر والرئيسيات الأُخرى جميعهم (رقعة الوجه)، والتي تنشط بشكل حصري عندما ينظرون إلى الوجوه.
يقول مارغليت أن سبب تشكيل الدماغ لهذه البقع غير واضح، فمثلاً لا يحتاج الدماغ لرقعة وجه حتى يتمكن من تمييز الوجوه بالبناء على نموذج ذكاء اصطناعي يحل في الأصل مهام التعرف على الوجوه مثل نموذج يامينز، يضيف مارغليت: "نستطيع الآن نمذجة ذلك التركيب المكاني وطرح السؤال حول لماذا صُمِّم الدماغ بهذه الطريقة وما هي الامتيازات التي يعطيها للكائن الحي".
إغلاق الحلقة
هناك الكثير من القضايا يجب معالجتها ولاسيما الكيفية التي تحث الذكاء الاصطناعي على التعلم، في الوقت الحالي يحتاج الذكاء الاصطناعي تدريباً أكثر -والكثير من التدريب الأكثر وضوحاً- مما يتلقاه البشر لتنفيذ المهام المختلفة كالتعرف على الكائنات، وتبقى الكيفية التي يحرز بها البشر نجاحاً بالقليل من البيانات غير واضحة.
المسألة الثانية هي كيفية تجاوز نماذج الرؤية والأنظمة الحسية الأخرى، يقول يامينز: "بمجرد امتلاكك انطباعاً حسياً عن العالم، ستكون راغباً بأخذ القرارات بناء على انطباعاتك هذه، إننا نحاول تصميم نماذج خاصة باتخاذ القرارات وتعلم كيفية اتخاذها، وكيفية التفاعل بين الأنظمة الحسية واتخاذ القرارات والذاكرة"، يبدأ يامينز بمعالجة هذه الأفكار مع كيفين فيجلز Kevin Feigelis طالب الدراسات العليا في الفيزياء الذي يعمل على بناء نماذج الذكاء الاصطناعي التي تستطيع تعلم كيفية حل المشاكل المتنوعة والانتقال بين المهمات حسب الحاجة، وهو الشيء الذي قلّما تجد أنظمة الذكاء الاصطناعي قادرة على فعله.
يخبرنا يامينز والأعضاء الآخرون في مجموعته بأنه وعلى المدى البعيد يمكن أن تغذي كل هذه التطورات أنظمة الذكاء الاصطناعي الأكثر قدرة، تماماً كما ساعدت أبحاث علم الأعصاب السابقة على تعزيز تطوير التعلم العميق، يقول هابر: "أعتقد بأن الناس في الذكاء الاصطناعي يدركون بأن هناك بعض الأهداف المستقبلية الجيدة جداً لأنظمة الذكاء الاصطناعي التي لها علاقة بالإدراك"، ويشمل ذلك أنظمةً كنظامه الذي يتعلم من خلال استكشاف عوالمهم بفعالية، "فالناس يلعبون بهذه الأفكار".