عندما يتعلق الأمر بالإلكترونات،أو بوزونات هيغز(Higgs bosons) أو الفوتونات، فإنه لا توجد أمور كثيرة تتعلق بها. لديها عملية دوران وشحنة وكتلة و… هذا كل شيء. بالإضافة لذلك، تحمل بعض من هذه الجسيمات أحيانًا عددًا قليلًا من هذه السِّمات. كتلة الجسيم خاصية من المهم أن نفهمها لأنها ترتبط بجذر فيزياء الجسيمات الأساسية (fundamental particle physics).
إذًا ما هي الكتلة بالمعنى الفيزيائي؟ لماذا تملك بعض الجسيمات كتلة في حين لا يملكها البعض الآخر؟ ربما لن تعتقد بأن هذا الشيء قد يكون مُهمًا، لكن السؤال الأهم هو: لمَ تملك الجُسيمات كتلة من الأساس؟
للإجابة على هذه الأسئلة، ولتجاوز ما عَلِمَهُ ألبرت أينشتاين عن الكتلة، دعونا نغوص في فيزياء الجسيمات والنسبية العامة.
قياسها
قال لي أحد الأساتذة مرة أن أفضل تعريف للخاصية الفيزيائية هو أنها طريقة للقياس. وبناءً على هذا التعريف، هيا بنا نرى كيف نقيس الكتلة. عندما تصعد فوق الميزان، سيقوم بتسجيل وزنك أعجبك الأمر أم لا. هذا لأن الأرض تجذبك بقوة الجاذبية. القوة بينك وبين الأرض موجودة لأن كل واحد منهما يملك كتلة.
إن قمت بالصعود على نفس الميزان على القمر سيقوم بتسجيل جزء صغير من وزنك الذي على الأرض. تقريبًا السُدس، لنكون دقيقين. (لا توجد حمية أفضل من هذه: أخسر 83% من وزن جسمه فقط بذهابك إلى القمر).
وزنك على القمر أقل لأن كتلة القمر أقل من كتلة الأرض، وقوة الجاذبية بينك وبين القمر (M) تتناسب مع كتلة القمر وكتلتك (m). ويمكن التعبير عن ذلك بالمعادلة \(F = GMm/R^2\). حيث R نصف قطر القمر وG ثابت جاذبية نيوتن.
الكتلة هي المسؤولة عن التفاعل الثقالي وبدونها لن تكون قوة الجاذبية موجودة. يشير الفيزيائيون لهذه الظاهرة باسم كتلة الجاذبية. عندما تقوم بفتح باب، يجب عليك أن تدفعه بقوة، وإلا لن يتحرك. لأن الباب يملك كتلة تتجلى في القصور الذاتي (inertia)، والتي تمنعك من تغيير وضع حركته.
القانون الثاني لنيوتن يقول بأن القوة التي تحتاجها لتغير حالة حركة جسم ما تتناسب مع كتلته القصورية (F=ma) . فدفع باب خفيف أسهل من دفع الباب الثقيل عند المقدار نفسهُ من التسارع.
الكتلة الموحَّدة
ربط أينشتاين كتلة القصور والكتلة الثقالية عبر مبدأ تكافؤ الجاذبية الخاصِّ به. يقول هذا المبدأ ببساطة أن كتلة القصور والكتلة الثقالية هي شيء واحد. بالرُّغم من أنَّ هذه الجملة البسيطة دُمجت بالفكرة الرياضية التي تقول أن المعادلات الفيزيائية لا يجب أن تعتمد على إطار مرجعي، إلَّا أنها تقودنا بعيدًا.
النتيجة الرئيسة لمبدأ التكافؤ هي معادلات الجاذبية الخاصة بأينشتاين. هذه المعادلات تحدد كيف تعمل الكتلة على حَني المكان وطيِّ الزمان. معنى معادلات الجاذبية الخاصة بأينشتاين بسيط: تقوم الكتلة بطيِّ الزمكان، والزمكان المطوي يحرك الكتلة حوله. إن رأيت سابقًا عملة معدنية تنزل إلى قاع بئر للأمنيات شكله كالقمع، فستعلم ما الذي اتكلم عنه.
بحسب تصوُّر أينشتاين الهندسي للجاذبية، فإنَّ الأرض تدور حول الشمس لأن الأخيرة تقوم بخلق بئر جاذبية في نسيج الزمكان شكله كالقمع والأرض تدور فيه مثل العملة التي تدور في بئر الأمنيات.
لو كانت الشمس لا تملك كتلة، لن يكون بئر الجاذبية الذي حولها موجوداً وستحلق الأرض بشكل مستقيم. لو كانت الأرض لا تملك كتلة، لن تشعر بالانحناءات وبالغالب أنها ستطير بعيدًا في خط مستقيم أيضاً. هذه النسبية العامة في شكل يشبه قشرة الجوز المخروطية.
عَلِم أينشتاين بكل هذا وبالمزيد. بعد كل شيء، ألَّف كتابًا عن النسبية - النسبية الخاصة والعامة. واكتشف أن الكتلة لها علاقة بالجاذبية والطاقة. تم تغليف العلاقة الأولى بمعادلاته في حقل الجاذبية، والثانية هي \(E = mc^2 \)المعروفة على نطاقٍ واسعٍ، للأسف، لم تتح له الفرص ليعلم سبب امتلاك الأشياء لخاصية الكتلة. هناك المزيد حول الكتلة، خصوصًا بعد أن أعطتنا فيزياء الجسيمات الأساسية الحديثة إجابات عندما تم أخيرًا اكتشاف بوزونات هيغز في عام 2012.
كما رأينا سابقًا، السؤال مهمٌّ جدًا، فبدون كتلة لا توجد جاذبية. أو ربَّما هناك؟ حسنًا،، هناك. خذ فوتونًا على سبيل المثال. الفوتون هو أفضل مثال على انعدام الكتلة. حسب فهمنا الحالي، أحد أكثر القوانين الأساسية في فيزياء الجسيمات عمقًا، والذي يطق عليه مقياس التناظر (gauge symmetry)، يمنع أي جسيم يحمل قوة بما في ذلك الفوتونات من الحصول حتى على أصغر مقدار من الكتلة.
الفوتون يُجذب للشمس. أثبتت عمليات الرصد بشكل واضح أن الضوء القادم من مجرة بعيدة جدًا، موجودة خلف الشمس بالضبط، يمكن أن يُرصد على كلا جانبي الشمس. استعملت حقيقة أن حقل الجاذبية الخاص بالشمس يعمل على حني الضوء لإثبات صحَّة النسبية العام عام 1919، لنتأكد أن الضوء يتفاعل أيضًا مع حقول الجاذبية بسبب المعادلة \(E = mc^2\).
تخبرنا هذه المعادلة أنه من منظور الجاذبية، الطاقة والكتلة متكافئتان. يحمل الفوتون جزءً قليلاً من الطاقة، لذلك يُجذب بشكل طفيف إلى الشمس. حقيقة انجذاب الطاقة مهمة للغايَة، لأن الجزء الأكبر من الكتلة التي حولنا هو عبارة عن طاقة. ومن المعروف أنَّ كل أجزاء المجرات المرئيَّة والنجوم مصنوعة من الهيدروجين بمعظمها، والذي هو عبارة عن بروتونات وإلكترونات فقط.
تتكون الأرض من ذرات مختلفة، مصنوعة من إلكترونات ونيوكلونات (nucleons): بروتونات ونيوترونات. الإلكترونات أخف بـ2000 مرة من النيوكلونات، لذلك أهميتها أقل من حيث الكتلة. وبشكل مميز، معظم كتلة البروتونات والنيوترونات هي عبارة عن طاقة مخزنة في مادة لاصقة.
الغراء (او كما يُسمى علميا الغلونات gluon) هو مجموعة الأشياء التي تربط البروتونات والنيوترونات معاً. إنه ناقل للقوة الأكبر. طاقة الربط المخزنة في الغلونات هي سبب معظم كتلة البروتونات، والنيوترونات، والهيدروجين، أو أي ذرة مثلها.
دور بوزونات هيغز
يمكننا التوقف هنا، لأننا فهمنا مصدر معظم الكتلة المرئية في الكون. لم يعرف أينشتاين من أين تكتسب الأجسام الكبيرة كتلتها، لكن فيزياء الجسيمات كشفت عن ذلك في أواخر القرن العشرين.
هناك حيلة أخرى في القصة. ربما أكثرها روعة. لو علم بها أينشتاين لأحبَّها بكلِّ تأكيد. يعود الأمر إلى بوزونات هيغز في توليد الكتلة. بوزونات هيغز، والتي تنشأ عن استثارة حقل هيغز، هي ما يزود الكتلة في المستوى الأساسي: فهي تُقرض الكتلة للأجسام الأولية.
بدأت قصة هيغز بمشكلة حقيقية في فيزياء الجسيمات. بحلول القرن العشرين كان من الواضح أن قياس التماثلات، الذي ذكرناه سابقًا، هي قوانين أساسية وتعمل على منع أي كتلة لحاملات الطاقة.
لكن عام 1938 تم اكتشاف بوزون W وبوزون Z من قبل الإلكترون بوزيترون الضخم (LEP) -وهو سلف مصادم الهايدرونات الضخم (LHC). كان هذا لغزًا صعبًا: أحد أكثر قوانين الطبيعة أساسية، قياس الثبات (gauge invariance) كان قاب قوسين أو أدنى من التخلي عنه، مما سيعني إعادة بدء علم فيزياء الجسيمات من جديد.
بشكل مثير للدهشة، اكتشف علماء نظريون أذكياء طريقة للحصول على كعكتهم وأكلها أيضاً، قدموا آلية هيغز التي سمحت لنا بحفظ التناظرات المعيارية مع الإبقاء على إمكانية الخروج عنها، كالجسيمات الفائقة الكتلة W وZ في كوننا بشكل خاص.
منحت هذه الحيلة الرائعة شيلدون كلاسهو Sheldon Glashow، وعبد السلام Abdus Salam، وستيفن واينبرغ Steven Weinberg جائزة نوبل في الفيزياء لعام 1979. بالإضافة لحاملات القوة، تقرض آلية هيغز أيضًا الكتلة لجسيمات المادة الأساسية، مما يفسر امتلاك الإلكترونات والنيوترينوات والكوراركات للكتلة.
إسهام كتلة الإلكترون أو الكورارك أو النيوترينو جدير بالإهمال بالمقارنة بالكتلة المولَّدة من قِبل الغلونات من حولنا. لذا، هل يعني هذا أن الهيغز يمكن أن يُهمَل في المستوى الذري؟
الجواب لا! بدون بوزونات هيغز، الإلكترونات لن تملك كتلة وستنهار كل الذرات.
النيوترونات لن تضمحل ، فستبدو نوى الذرات مختلفة. كل هذا مع بعضه، سيكون كونًا جديدًا ومختلفًا، بدون مجرات ولا نجوم ولا كواكب.
ثم يأتي الشيء المظلم
حسنًا، الآن نحن نعرف كل شيء عن الكتلة، صحيح؟
- للأسف لا. فقط 5% من الكتلة في الكون تاتي من المادة المرئية (وهي الكتلة المعروفة والتي نفهمها).
- قرابة 70% من كتلة الكون مصدرها الطاقة المظلمة و25% منها يأتي من المادة المظلمة.
- نحن لسنا فقط جاهلين بماهية تلك الكتلة، بل أيضًا لا نعلم ما الذي يتشكل منه القطاع المظلم. لذا إبقوا مستعدين لأن قصة الكتلة ستستمر أيضًا خلال الألفية القادمة.
ملاحظات
[1]القصور inertia: مصطلح فيزيائي يعني مقاومة الجسم الساكن للحركة ومقاومة الجسم المتحرك بتزويده بتسارع ثابت أو تغيير اتجاهه، ولقد عبر نيوتن عن هذا المصطلح في قانونه الأول المعروف أيضاً بقانون القصور الذاتي.
[2]الغلونات gluon: هي الجسيمات التي تُلصق الكواركات ببعضها البعض.