مسحٌ مجرّيّ للتحقق من سبب تسارع الكون

نعرفُ أن كوننا يتمدد بمعدل متسارع، ولكنّ سبب هذا النمو لا يزال لغزاً. يوضّح التفسير الأكثر احتمالاً أن هناك قوةً غريبةً يُطلق عليها اسم "الطاقة المظلمة" (dark energy) تتسبب بذلك، وتتوفر الآن أداة فلكية جديدة تُسمى "كاميرا فيزياء الكون المتسارع" (Physics of the Accelerating Universe Camera) أو اختصاراً (PAUCam)، ستبحث عن إجابات عبر وضع خريطة للكون بطريقة مبتكرة.

وقد تقوم هذه الكاميرا، التي ستسجل مواقع حوالي 50000 مجرة في وقت واحد، بتسليط الضوء أيضاً على ماهية المادة المظلمة وكيفية تطور النظام الكوني.

في تسعينيات القرن العشرين، اكتشفت مجموعة من علماء الفلك الذين كانوا يدرسون المستعرات العظمى (supernova) في المجرات البعيدة أن تمدّد الكون يتسارع، وقد نزل هذا الخبر كالصاعقة، إذ إن العلماء كانوا يظنون حينها أن الكون يتباطأ. وبسبب عدم وجود حل واضح في متناول اليد، اعتبر العلماء أنه لا بد من وجود قوة غامضة من نوع ما (كالطاقة المظلمة) تؤدي إلى تباعد الكون عن بعضه.


ربما كان فهم كيفية تنظيم المجرات هو مفتاح معرفة سبب تمدد الكون. المصدر: ESA/Hubble, NASA and S. Smartt (Queen's University Belfast), CC BY
ربما كان فهم كيفية تنظيم المجرات هو مفتاح معرفة سبب تمدد الكون. المصدر: ESA/Hubble, NASA and S. Smartt (Queen's University Belfast), CC BY


وبعد عقدين من الزمن، ما زلنا لا نعرف ما هي الطاقة المظلمة، والتي يُعتقد أنها تشكل 71% من مُجمَلِ الطاقة في الكون. تقول إحدى النظريات أنه من الممكن تفسيرها من خلال نسخة مهملة من نظرية أينشتاين عن الجاذبية -تعرف باسم "الثابت الكوني" (cosmological constant)- وهو مقياس لكثافة طاقة فراغ الفضاء. وتقول نظرية أخرى إنها نتجت عن حقول كمية غير موجهة (scalar fields) غامضة، يمكن أن تختلف في الزمان والمكان. حتى أن بعض العلماء يعتقدون أن "سائل طاقة" ما من نوع غريب يملأ الفضاء، ربما كان هو ما يؤدي إلى هذا التمدد.

وضع خريطة للسماء


إن الطريقة الوحيدة للمعرفة هي بطبيعة الحال عن طريق الملاحظة. وبعد أن أمضى اتحادٌ من المؤسسات البحثية الإسبانية ست سنوات في تصميم وتصنيع PAUCam تم اختبارها بنجاح للمرة الأولى خلال الشهر الماضي، حيث التقطت أولى صورها من خلال تلسكوب وليام هيرشيل (William Herschel Telescope) في لابالما-جزر الكناري، والذي يبلغ قطر مرآته 4.2 متر.

ويتم حالياً إعداد فريق دولي يضم باحثين من معهد جامعة دورهام للحوسبة الكونية لاستخدام المعلومات التي التقطتها PAUCam بهدف وضع خريطة فريدة لكيفية تنظيم المجرات في الكون.

الإطار الزمني للكون لدى افتراض وجود الثابت الكوني. المصدر: Coldcreation/wikimedia, CC BY-SA
الإطار الزمني للكون لدى افتراض وجود الثابت الكوني. المصدر: Coldcreation/wikimedia, CC BY-SA


سوف تحتوي مثل هذه الخريطة على معلومات جديدة مفصلة عن الأرقام الأساسية التي تحكم مصير الكون وتمدده، وعن كيفية تشكل المجرات نفسها، كما ستكشف الخريطة عن امتداد البُنى في توزيع المجرات، إذ إن هذه البُنى تكبر بسبب الثقالة، وإذا كان تمدد الكون يتسارع، فمن الصعب على الثقالة أن تجذب المادة إلى بعضها البعض وتُنشئ هذه البُنى، وبالتالي، فإن معرفة قوة الثقالة وقياس حجم البٌنى في توزيع المجرة يمكن أن يساعدنا في الاستدلال على تاريخ تمدد الكون.

يستطيع علماء الفلك تعيين مواقع المجرات في السماء من خلال التقاط الصور، وهذه المواقع مُسقطة، ولذلك، فهي لا تخبرنا عن بعد المجرة عن الأرض، فالمجرة قد تبدو باهتة جداً إما لأنها على بعد كبير عنا، أو لأنها ببساطة قريبة ولكنها خافتة بسبب احتوائها على عدد قليل من النجوم الساطعة.

استخدم علماء الفلك تقليدياً التحليل الطيفي (spectroscopy) لقياس المسافات إلى المجرات، حيث تعمل هذه التقنية من خلال التقاط الضوء من المجرة وتوزيعه بشكل طيفي وفقاً لأطواله الموجية. يستطيع العلماء من خلال هذه الطريقة فحص نمط الخطوط المنبعثة من العناصر المختلفة في النجوم التي تُؤَلِّفُ هذه المجرة، وكلما ازدادت المجرة بعداً، زادَ تمددُ الكون من انزياح هذه الخطوط، بحيث تظهر في موجاتٍ أطول وتردداتٍ أقل عما ستبدو عليه في المختبر هنا على الأرض، وبالتالي، يمكن تحديد المسافة التي تفصلنا عن المجرة من خلال تحديد درجة هذا الانزياح، والذي يدعى بالانزياح نحو الأحمر (redshift).

كانت المسوحات القديمة لمواقع المجرات تقوم، بشق الأنفس، بقياس مثل هذه الأطياف الخاصة بمجرة واحدة فقط في كل مرة، وذلك عبر توجيه التلسكوب إلى كل مجرة على حدة، أما الآن، فبوسع المسوحات الحديثة تسجيل ما يقارب بضعة آلاف من أطياف المجرات في عرض واحد.

هذا وسوف تؤدي PAUcam إلى ثورة في علم الفلك المسحي (survey astronomy) عبر قياس المسافات إلى عشرات الآلاف من المجرات، التي تستطيع رؤيتها في كل مرة تنظر فيها إلى السماء، وستفعل ذلك من خلال التقاط أربعين صورة باستخدام مرشحات خاصة تعزل مقداراً من الضوء المنبعث من مجرة ما، وسيسمح ذلك ببناء طيفٍ سريعٍ لكل مجرة بجزء ضئيل من التكلفة التقليدية، كما إن هذا الطيف يعمل أيضا مثل الـDNA لكل مجرة، إذ يقوم بتشفير المعلومات عن عدد النجوم التي تحتويها، ومدى السرعة التي تتشكل بها النجوم الجديدة.

صورة جانبية اختُبرت الكاميرا باستخدام تلسكوب ويليام هارشيل. المصدر: Wikimedia commons, CC BY-SA
صورة جانبية اختُبرت الكاميرا باستخدام تلسكوب ويليام هارشيل. المصدر: Wikimedia commons, CC BY-SA


البحث عن إجابات


سيقوم فريق يعمل فيه كارلتون بوف Carlton Baugh، في دورهام، ببناء نماذج حاسوبية لتطور الكون تستهدف وصف الكيفية التي تطورت بها بُنى مثل المجرات منذ ما يزيد على 13.7 مليار سنة من التاريخ الكوني. يتألف الكون بالنسبة لعلماء الكونيات (cosmologists)، في معظمه، من مادة مجهولة تدعى بالمادة المظلمة، مع كمية قليلة من "المادة العادية" (normal matter). وستتيح PAUCam لعلماء الكون اختبار نماذجهم حول بنية المجرات بواسطة قياس درجة التراص في توزيع المجرة على الخريطة الجديدة. إن هذا أمر مهم، لأنه يخبرنا عن توزيع المادة المظلمة، التي لا نستطيع رؤيتها مباشرة.

نحن نعلم من ملاحظات سابقة أن العناقيد المجرّيّة تحتوي على مادة مظلمة. ومن خلال إحصاء عدد المجرات في عنقود ما، يستطيع علماء الفلك تقدير الكمية الإجمالية للمادة (الظاهرة) في العنقود. فضلا عن ذلك، فإن قياس سرعات المجرات قد أتاح للعلماء العثور على مجرات تتحرك بسرعات عالية، بحيث يُفترض أن تتيح هذه السرعات لها الانفلات من السَّحْبِ الثقاليّ للعنقود. ولكن هذه المجرات لا تتمكن في الواقع من مغادة العنقود المجريّ، والسبب هو أن الكميات الهائلة من المادة المظلمة غير المرئية تزيد من السّحْبِ الثقالي. وإذا كانت المجرات شديدة الاحتشاد -أو كان توزيعها متراصّاً- فستبيّن المحاكاة الحاسوبية أن هذا يعني أن المجرات تحيا داخل بنى من المادة المظلمة ذات كتلة أكبر.

كما ستتيح PAUCam لنا معرفة المزيد عن تأثير يسمى بالعدسات التثاقلية (gravitational lensing)، حيث تتسبب الأجرام الثقيلة في الكون بانحناء الضوء القادم من المجرات البعيدة، مما يؤدي إلى تشوّه صورها، ويستطيع العلماء دراسة التشوّهات لحساب الكتلة الفعليّة للجرم الذي أدى إلى هذا التأثير، بما في ذلك المادة المظلمة، وتعتبر هذه الوسيلة من الطرق الأساسية للكشف عن الطاقة المظلمة التي ستستعمل في بعثة إقليدس (Euclid mission) التابعة لوكالة الفضاء الأوروبية، والتي من المقرر إطلاقها في عام 2020.

يعتمد التشوّه الناتج عن العدسات التثاقلية على درجة تكتّل المادة المظلمة، التي تَتَحَدَّدُ بدورها بمدى سرعة تمدد الكون، فإذا ما تمدد الكون بمعدل سريع، فسيصعب على الثقالة جذب البُنى إلى بعضها البعض لصنع بُنى أكبر. وسوف تساعدنا PAUCam على تمييز إشارات العدسات التثاقلية الناجمة عن تراصف المجرات على خط واحد خلال تشكلها بالنسبة للراصد من الأرض.

لم يسبق وأن كانت هناك أي محاولة سابقة لإجراء مسحٍ مجرّيّ على هذا المستوى كما هو الحال مع PAUCam. ستصبح الخريطة الناتجة مورداً فريداً مساعداً لنا في الحصول على مزيد من المعرفة حول كيفية تشكل المجرات، وكذلك في إضاح السبب المسؤول عن التسارع الظاهري في تمدد الكون. ونأمل في الحصول على الإجابة فور الانتهاء من مسح PAUCam

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • المفعول العدسي التثاقلي (gravitational lensing): المفعول العدسي التثاقلي: يُشير إلى توزع مادة (مثل العناقيد المجرية) موجودة بين مصدر بعيد والراصد، وهذه المادة قادرة على حرف الضوء القادم من المصدر أثناء تحركه نحو الراصد. ويُترجم أحياناً بالتعديس الثقالي أيضاً.
  • الثابت الكوني (cosmological constant): هذا الثابت لازمٌ لتفسير السبب في أن تمدد الكون يبدو متسارعا. ويُنسب هذا التسارع إلى المفعول العدسي (gravitational lensing) لأنه يجعل العالم أكبر. المصدر: العلوم الأأمريكية.
  • السيد ويليام هيرتشيل (William Herschel): اُشتهر السيد ويليام هيرتشيل (William Herschel) بكونه اول فلكي اكتشف المنطقة تحت الحمراء من الطيف الكهرومغناطيسي في العام 1800. المصدر: ناسا
  • التحليل الطيفي (Spectroscopy): التحليل الطيفي ببساطة هو علم قياس شدة الضوء عند الأطوال الموجية المختلفة. وتُسمى المخططات البيانية الممثلة لهذه القياسات بالأطياف (spectra)، وهي المفتاح الرئيسي لكشف تركيب الأغلفة الجوية للكواكب الخارجية. المصدر: ناسا
  • الطاقة المظلمة (Dark Energy): هي نوع غير معروف من الطاقة، ويُعتقد بأنه المسؤول عن تسارع التوسع الكوني.
  • المستعرات الفائقة (السوبرنوفا) (supernova): 1. هي الموت الانفجاري لنجم فائق الكتلة، ويُنتج ذلك الحدث زيادة في اللمعان متبوعةً بتلاشي تدريجي. وعند وصول هذا النوع إلى ذروته، يستطيع أن يسطع على مجرة بأكملها. 2. قد تنتج السوبرنوفات عن انفجارات الأقزام البيضاء التي تُراكم مواد كافية وقادمة من نجم مرافق لتصل بذلك إلى حد تشاندراسيغار. يُعرف هذا النوع من السوبرنوفات بالنوع Ia. المصدر: ناسا
  • معهد أبحاث الفضاء في روسيا، و هو تابع لأكاديمية العلوم الروسية. (IKI): معهد أبحاث الفضاء في روسيا، و هو تابع لأكاديمية العلوم الروسية.

اترك تعليقاً () تعليقات