ارتداد الجليد، الأرض شبه الصلبة!

تتفاعل الطبقة السفلى لغرينلاند والآخذة بالارتفاع مع عملية فقدان الجليد الناتجة عن تغيّر المناخ العالمي. المصدر: وكالة الفضاء الأوروبية/سينتينيل-2، بيانات كوبرنيكوس سينتينيل


ESA/ Sentinel-2, Copernicus Sentinel data


من المعروف أنه عند ملءِ حوضٍ بالماء، يرتفع الماء بنفس المعدلِ ونفس الارتفاع في كل زاوية من زوايا الحوض، لكن الوضع مختلف فيما يتعلق بِبحار الأرض، فهي ترتفع بمعدلاتٍ متباينة.


وفقاً لسجل بيانات الأقمار الصناعية التي جمعتها وكالة ناسا وشركاؤها على مدار 23 سنة، تبيّن أن مستوى سطح البحر يرتفعُ بضعةَ مِلليمتراتٍ في السنة (أي جُزءٍ من البوصة)، لكن لو كنت تعيش على الساحلِ الشرقي للولايات المتحدة، فستُلاحظ أن مُعدّل ارتفاع مستوى سطح البحر عندك أسرع بمرتين أو ثلاث من المُتوسط، ومن ناحية أخرى لو كنت تعيشُ في الدول الاسكندنافية فستُلاحظ أن مستوى سطح البحر في انخفاض، أما سُكان دلتا النهر الأصفر في الصين فسيغرقون بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر عندهم بمعدل يزيد عن تسعِ بوصاتٍ (25 سنتم) في السنة.

لكن ستُصبح هذه الاختلافات الإقليمية في تغير مستوى سطح البحر أكثر وضوحاً في المستقبل بسبب ذوبان المسطّحات الجليدية، فعلى سبيل المثال عندما يذوب قطاع بحر أموندسن Amundsen Sea الموجود في الغطاء الجليدي القطبي الجنوبي تماماً، سيرتفع متوسط مستوى سطح البحر في العالم بمعدّل أربعة أقدام، ولكن سيشهد الساحل الشرقي للولايات المتحدة لوحده ارتفاعاً بمعدّل 14-15 بوصة إضافية فوق ذلك المتوسط.

يلعب كلّ من المد والجزر والرياح والتيارات البحرية دوراً في هذه الاختلافات الإقليمية، لكن المُحرّك الرئيسي لها هي الأرض اليابسة نفسها. لا تؤثر ظاهرة الاحتباس الحراري على سطح عالمنا فقط، بل إنها تجعل الأرض تتحرك من تحت أقدامنا.

غالباً ما ننظر إلى كوكبنا على أنه صخرةٌ صلبة، لكننا سرعان ما نتذكّر أنه ليس كذلك، خاصة عندما يُذاعُ في نشرات الأخبار عن وقوع ثورانٍ بركاني أو زلزالٍ في منطقة ما من العالم، يجب أن لا ننسى أن هنالك طبقةً تقع داخل الأرض على مسافة 50 ميلاً من السطح يُقدّر سُمكها بآلاف الأميال، تتدفق على شكل سائلٍ لمدة آلاف السنين. تطفو الصفائح التكتونية (tectonic plates) في قشرة الأرض على هذه الطبقة اللزجة السائلة والتي تُعرف بالوِشاح (mantle)، وهو أشبه بويفر الفانيليا الموضوع على حلوى البودنغ السميكة جداً.

لنفترض أننا وضعنا قطعة فراولة على ويفر الفانيليا، سنُلاحظ أن الوزن الزائد سيجعل البسكويت يغوص في الحلوى، بنفس الطريقة، فإن الأوزان الثقيلة على قشرة الأرض تدفعها أسفل نحو الوشاح الذي يتدفق بعيداً ويبرزُ في أماكن آخرى.

عملت الصفائح الجليدية لآلاف السنين في غرينلاند والقطب الجنوبي، والتي يُقدّر سُمكها بعدة أميال، على الضغط على القشرة الأرضية من تحتها، وهذا الوزن له تأثيرٌ آخر، إذ تُؤثّر جاذبيته على المحيط حول هذه اليابسة ما يُؤدي إلى ارتفاع مستويات مياه البحر في سواحل العالم.

لكن هذه النتوءات والتجاويف الموجودة في طبقة الوشاح والناتجة عن الأوزان الثقيلة في الوشاح لا تتسبب بندوب دائمة، فعندما يزول الوزن الزائد، يرتد الوشاح لوضعه الطبيعي، وتجدر الإشارة إلى أن هذا الأمر يحدث كل يوم.

يقول مارك تاميسيا Mark Tamisiea وهو عالمٌ في المركز الوطني لعلوم المحيطات National Oceanography Centre في ليفربول، إنجلترا، والذي يدرس العلاقة بين مستويات البحار والعمليات الأرضية: "تستجيب الأرض اليابسة على الفور وبسرعة كبيرة"، واستشهد مارك بمثال المد والجزر على اليابسة الذي يسحب القشرة خارجاً بمقدار قدمٍ واحد (30 سم) باتجاه القمر عندما يمر فوقها، وبالمثل فإن للأرض استجابة أولية فورية إلى الأنهار الجليدية وذوبان طبقات الجليد، تُعرف بالاستجابة المرنة (elastic response).

ومنذ أن أطلقت وكالة ناسا القمرين الصناعيين في تجربة المناخ واستعادة الجاذبية جريس GRACE في العام 2002، حصل العلماء على قياسٍ دقيقٍ للغاية لمقدار مساهمة عملية فقدان كتلة المسطحات الجليدية في حدوث التغيرات في الجاذبية، إضافة إلى مساهمتها في ارتفاع مستوى سطح البحر. ويذكر ستيف نيريم Steve Nerem من جامعة كولورادو ورئيس فريق تغيّر سطح البحر في ناسا: "بسبب تجربة جريس أصبحت لدينا فكرة جيدة عن ما يحدث منذ عام 2002. نحن نعلم الآن مقدار ارتفاع مستوى سطح البحر الذي يأتي من غرينلاند، ومن القارة القطبية الجنوبية، والأنهار الجليدية كذلك."


بما أن لكل المسطحات والأنهار الجليدية موقعاً وحجماً فريدين من نوعهما، فإن كل واحدٍ منهما يخلق نمط استجابة خاص به في المحيط بما يُشبه البصمة، ويضيف مارك: "العمليات الفيزيائية الكامنة وراء فهم هذه البصمات واضحة لنا بشكل جيد، إنها مثل المد والجزر". قام مارك بالتعاون مع جيري ميتروفيتسا Jerry Mitrovica من جامعة هارفارد لتنفيذ عملية حسابٍ لبصمات منطقة شرق وغرب القارة القطبية الجنوبية وغرينلاند في جميع أنحاء العالم، ويُفسّر مارك هذا العمل بقوله: "نقوم بحسابِ كل مُسطحٍ جليديٍ على حدة حتى نتمكن من استخدام أحدث التحليلات التي يوفرها جريس. يمكنك جمع التأثيرات مع بعضها لترى ما هي النتيجة النهائية لأي مكان معين."

عندما يذوب أي مُسطحٍ جليدي تنخفض مستويات البحر على طول السواحل التي تبعد مسافة تصل إلى 1,500 ميل (2,000 كيلومتر) مع هروب مياه البحر بسبب انخفاض الجاذبية وارتفاع القشرة الأرضية. تتدفق أيضاً مياه البحر الهاربة على طول خط الاستواء، ويُؤثر ذوبان القطب الجنوبي على السواحل الشرقية والغربية للولايات المتحدة، بينما يُؤثر اختفاء غرينلاند على ساحل البرازيل. هذه الاختلافات الإقليمية بالغة الأهمية، كما هو الحال بالنسبة للساحل الشرقي للولايات المتحدة.


انهيار آخر منزل في جزيرة هولاند في خليج تشيسابيك Chesapeake Bay في ميريلاند بعد أشهرٍ قليلةٍ من تصويرِ هذه الصورة في العام 2010، وهو ضحيةٌ لعملية الارتداد ما بعد العصر الجليدي وارتفاع مستويات البحار في العالم. تم إنشاء هذه الجزيرة في القرن السابع عشر، لكنها الآن تحت الماء بشكل كامل عند ارتفاع المد. المصدر:حقوق الصورة لأحد أعضاء موقع فليكر baldeaglebluff / CC BY.
انهيار آخر منزل في جزيرة هولاند في خليج تشيسابيك Chesapeake Bay في ميريلاند بعد أشهرٍ قليلةٍ من تصويرِ هذه الصورة في العام 2010، وهو ضحيةٌ لعملية الارتداد ما بعد العصر الجليدي وارتفاع مستويات البحار في العالم. تم إنشاء هذه الجزيرة في القرن السابع عشر، لكنها الآن تحت الماء بشكل كامل عند ارتفاع المد. المصدر:حقوق الصورة لأحد أعضاء موقع فليكر baldeaglebluff / CC BY.

يُعتبر الساحل الشرقي أيضاً أحد ضحايا عمليةٍ أخرى هامة تحدث على الأرض واليابسة وتُؤثر على منسوبِ مياه البحار الإقليمية، وهي الارتداد ما بعد العصر الجليدي (postglacial rebound). وبعد الاستجابة المرنة لخسارة الوزن التي حصلت في القشرة الأرضية، تستمر عملية الارتفاع ببطءٍ لآلاف السنين. لا تزال أمريكا الشمالية تستجيب لعملية الذوبان الهائلة التي حصلت في نهاية العصر الجليدي الأخير، أي منذ ما يقارب الـ 6,000 عام. لم تكن الصفائح التكتونية لأمريكا الشمالية مُحمّلة بشكلٍ متساوٍ خلال ذلك العصر الجليدي، ذلك أن المسطّحات الجليدية كانت تتوزع على كلً من كندا وغرينلاند، في حين كانت معظم الأرض التي تحتلها الولايات المتحدة الأمريكية حالياً بلا جليد، وقد دفع حِمل الجليد هذا طبقة الوشاح من تحت كندا ورفع الولايات المتحدة نحو الأعلى. أما اليوم، يغرق الجانب الأمريكي لصفيحة أمريكا الشمالية بشكل كبير مع استمرار الجانب الشمالي بالارتفاع.

ارتفاع غرينلاند الناتج عن الارتداد ما بعد العصر الجليدي يعني أن الجزيرة تكتسب كُتلة من الأسفل، بينما تستمر طبقتها السفلية بالارتفاع. تفقد غرينلاند في الوقت نفسه كتلة من الأعلى بسبب ذوبان الجليد الموجود على سطحها. لا يقيس جريس عملية ذوبان الجليد فحسب، بل يقيس أيضاً النتيجة الصافية لهذه العمليات المتعارضة. تعمل مؤسسة العلوم الوطنية، إلى جانب برنامجٍ ممول من وكالة ناسا يُعرف بشبكة الملاحة عبر الأقمار الصناعية لغرينلاند (Greenland GPS Network) للتغلب على هذه المشكلة، ويستخدم البرنامج أكثر من 50 محطة GPS لقياس ارتفاع وهبوط غرينلاند، ويقوده مايكل بيفيس Michael Bevis من جامعة ولاية أوهايو. الشبكة كثيفة بما فيه الكفاية، والأدوات تُسجّل الارتفاعات بدقة كافية لتمييز الارتفاع الثابت طويل الأجل الناتج عن عملية الارتداد ما بعد العصر الجليدي من التغيرات قصيرة الأجل في الارتفاع الناتجة عن وزن ثلوج الشتاء وفقدان الوزن في فصل الصيف. الهدف من المشروع هو توفير "معامل تصحيح (correction factor)" لارتداد ما بعد العصر الجليدي يُمكن تطبيقه على القياسات التي يُجريها جريس والمهمات اللاحقة بحيث يمكن بعدها الحصول على قياسٍ دقيقٍ لمُعدّل فقدان الكتلة بسبب عملية الذوبان.

يعتقد العلماء حالياً أن بصمات المسطحات الجليدية ستكون المحرك الرئيسي للتغيرات الإقليمية في المستقبل في مستويات البحر. كما يعملون على العديد من القضايا مثل الكيفية التي تتفاعل بها عمليات اليابسة مع العوامل العالمية والمحلية الأخرى التي تُساهم في ارتفاع مستوى سطح البحر. من جهته، يقول مارك: "علينا أن نفهم التغيرات العالمية وكذلك الإقليمية لكي نتمكن من القيام بدراسات الأثر المحلية. في بعض الأماكن، قد تكون العمليات الإقليمية هي الإشارة الأهم، لذا يجب أن يكون هناك فهم مستمر للمتوسط العالمي، والتغيرات الإقليمية، والعمليات المحلية، سنحتاج كل تلك المعطيات لتقديم تنبؤات قابلة للتطبيق."

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات