اكتشاف ظاهرة مجهرية كمومية في الثلج

(a) يمكن للبروتون أن يستقر في أحد المواقع بين ذرات الأكسجين، بسبب اختلاف أطوال الرابطة مع الأكسجين. إذا قامت 6 بروتونات بالمرور النفقي الكمومي في نفس الوقت من موقع لآخر، كما يظهر في انتقال من البنية (b) إلى (c)، عندها سيتم حفظ قوانين الجليد.

حقوق الصورة: Yen and Gao. ©2015 American Chemical Society


اكتشف العلماء شذوذاً في خصائص الجليد عند درجات حرارة باردة جداً تقارب الـ 20 كلفن، ويعتقدون أن هذا الشذوذ يمكن تفسيره بحصول عملية نفق كمومي (quantum tunneling) لعدة بروتونات بشكل متزامن. ويعتبر حصول هذا السلوك الكمومي في المستوى الميكروسكوبي من الحالات النادرة وغير العادية، لأنها المرة الثانية (المرة الأولى كانت ذات صلة بالتوصيل الفائق) التي تمت فيها ملاحظة ظاهرة كمومية على المستوى الميكروسكوبي.


وقد تمت هذه الملاحظة في نظام قائم على الفرميونات (fermions) والتي تحتوي بدورها على بروتونات، وإلكترونات، وكل أشكال الجسيمات المادية الأخرى. أما الأنظمة الأخرى التي أظهرت ظاهرة كمومية على المستوى الميكروسكوبي، فكانت كلها قائمة على الفوتونات، ونوع من البوزونات (bosons) التي تلعب دور وسيط يقوم بنقل القوى بين الجسيمات. 


قام العالمين فيِّ يين Fei Yen من الأكاديمية الصينية للعلوم Chinese Academy of Sciences و تيان جاو Tian Gao من جامعة شانغهاي للطاقة الكهربائية Shanghai University of Electric Power، بنشر ورقة عن الشذوذ الذي رصد في الجليد، بمجلة Physical Chemistry Letters.

قوانين الجليد (ice rules): 


حسب شرحهما، عندما يتجمد الماء، تقوم ذرات الأكسجين في الجليد بترتيب نفسها في قطع سداسية الشكل، بينما تظل ذرات الهيدروجين غير مرتبة. 

عملية التجمد هذه محكومة بقانوني الجليد، وينص هذان القانونان على أنه بإمكان ذرة هيدروجين واحدة أن تستقر بين ذرتي أكسجين، بينما بإمكان كل ذرة أكسجين أن ترتبط مع أربع ذرات هيدروجين عبر روابط ذات طولين مختلفين. وبسبب وجود طولين مختلفين لكل زوج من هذه الروابط، يصبح هناك موقعين متاحيين لذرة هيدروجين واحدة (بفقدانها لإلكترونها تصبح عبارة عن بروتون). عند درجات حرارة مرتفعة بما فيه الكفاية (أي أعلى من 136 كلفن) يكون للبروتونات طاقة كافية للتحرك بين الموقعين المتاحيين. لكن عندما تتدنى الحرارة (تصبح أقل من 136 كلفن) عندها لن تمتلك البروتونات الطاقة اللازمة للتحرك بين المواقع المتاحة لذا فهي تتجمد بشكل عشوائي في أحد المواقع. 

البروتونات و النفق الكمومي:


في دراسة حديثة، وجد العلماء أنه باستطاعة البروتونات التحرك بين الموقعين المتاحين حتى عند درجات حرارة منخفضة جداً تصل لما هو أدنى من 20 كلفن. لكن في هذه الحالة لا يمكن للبروتونات أن تتحرك بالطرق التقليدية بسبب عدم امتلاكها للطاقة الكافية لإجراء مثل هذا التحرك تقليدياً، لذا يتم التحرك عن طريق عملية النفق الكمومي، أي التحرك عبر عائق الطاقة التقليدي.


كشفت تجارب الباحثين مقداراً أدنى في الجزء التخيلي لثابت العزل الكهربائي (dielectric constant) عند درجة حرارة تقارب 20 كلفن (كما موضح في الصورة). هذه النتائج تشير إلى زيادة في حركة الشحنات عند درجات حرارة أقل من 20 كلفن، وهو ما يُظَن بأنه ناتج عن مرور البروتون عبر نفق كمومي. حقوق الصورة: Yen and Gao. ©2015 American Chemical Society
كشفت تجارب الباحثين مقداراً أدنى في الجزء التخيلي لثابت العزل الكهربائي (dielectric constant) عند درجة حرارة تقارب 20 كلفن (كما موضح في الصورة). هذه النتائج تشير إلى زيادة في حركة الشحنات عند درجات حرارة أقل من 20 كلفن، وهو ما يُظَن بأنه ناتج عن مرور البروتون عبر نفق كمومي. حقوق الصورة: Yen and Gao. ©2015 American Chemical Society


على الرغم من أن النفق الكمومي يحدث للجسيمات الشبيهة بالموجة في المستوى الكمومي، ولا يمكن حصوله عند المستوى الميكروسكوبي، إلا أن العلماء وعبر هذه التجربة أظهروا أن الآثار الكلية المدمجة للنفق الكمومي يمكن أن تتم رؤيتها وقياسها في المستوى الميكروسكوبي.  الدليل الميكروسكوبي لهذه الظاهرة الكمومية يأتي من قياس خصائص العزل الكهربائي للجليد، ويعتبر الجليد مادة عازلة للكهرباء، لكن في حال وجود مجال كهربائي تصبح الجزئيات مستقطبة لذا تبدأ بالتجمع في محاذاة المجال الكهربائي. 


لاختبار خصائص العزل الكهربي للجليد، قام العلماء بأخذ قياساتهم مستخدمين زوجاً من لوحات البلاتنيوم (pair of platinum plates) التي أدخلت في جليد داخل حاوية من التيفلون (Teflon container) و تم تجميد كل هذه الأشياء معاً في كرايوستات (cryostat) -ثرموستات لحفظ درجات الحرارة المنخفضة- ليكتشف العلماء وجود حد أدنى في الجزء الخيالي من ثابت العزل الكهربي للجليد عند درجة حرارة تعادل 20 كلفن، بدون أي تغير في الجزء الحقيقي. 


وكما يقول العلماء، فإن التفسير الفيزيائي لهذا الشذوذ يمكن تأويله كزيادة في حركة الشحنات، أو بعبارة أخرى تتحرك البروتونات للأمام والخلف بين المواقع المتاحة، أيضاً وجدوا أن هذا الشذوذ لم يحدث في الثلج الثقيل (أي الديوتريوم - deuterium- والذي يحتوي على بروتون ونيوترون) وهو ما يشير إلى أن الاكتشاف أيضاً يظهر تأثير اختلاف النظائر. 


كيف بإمكان البروتونات القيام بهذا؟ 


في محاولة لتحسين فهم ما يمكن أن يحدث على المستوى الذري، قام العلماء بالتوجه لقوانين الجليد مرة أخرى. وبناءاً على هذه القوانين، لايمكن لبروتون منفرد أن ينتقل بين عدة مواقع في وقت واحد، لأن هذا الشئ يتداخل مع الهيكل الكريستالي عالي الترتيب للجليد، لكن لن تكون هناك مخالفة لقوانين الجليد في حال تحركت كل البروتونات الستة في ذات الوقت داخل الحلقة السداسية، وهو ما يشير إلى أن البروتونات الستة معأ أسهمت في عملية النفق الكمومي بشكل مرتبط. 


لكن للنفق الكمومي الارتباطي مشكلة أخرى. فَوفق قوانين الميكانيكا الحرارية، حتى تقوم عدة بروتونات بعملية نفق كمومي معاً، يجب أن يكون لها كلها نفس الدالة الموجية (wave function) وأن تكون كلها عند نفس الحالة القاعية (ground state). أيضاً هذا الترتيب يخالف مبدأ باولي للإقصاء (Pauli exclusion principle) بشكل مباشر. وهو مبدأ ينص على أنه لا يمكن لفيرميونات متطابقة أن تتخذ نفس الحالة الكمومية في ذات الوقت. 


لحل هذه المشكلة، خمن العلماء أن البروتونات تمر عبر نفق كمومي في شكل أزواج تتفاعل كبوزون، وهي مسموح لها أن تنهار إلى حالتها القاعية لعدم خضوعها لمبدأ باولي للإقصاء. هذا المقترح يشبه الآلية التحتية التي تستخدم في مجال التوصلية الفائقة (superconductivity)، حيث يقوم زوج من الإلكترونات بتكوين زوج كوبر (Cooper pair) والذي يتفاعل كبوزون أيضاً وبالتالي يتكثف لحالته القاعية، في الحالتين تسمح عملية تكوين الأزواج بحركة عدة فيرميونات معاً بشكل متزامن، مما أدى إلى حصول تلك الظاهرة الكمومية في المستوى الميكروسكوبي. 


ماذا بعد؟ 


رصد ظاهرة كمومية في المستوى الميكروسكوبي ليس موضوعاً أساسياً مهماً وحسب، بل يتوقع العلماء أن يقود هذا البحث لآفاق جديدة يوماً ما.
في إفادة من  Fei Yen لموقع Phys.org قال: "مع كل ظاهرة جديدة تنشأ تطبيقات جديدة، وهو ما ينطبق على مجال الظاهرة الكمومية في المستوى الميكروسكوبي. قد يحدث أمر مشابه لما تم من إنجازات في مجالي التوصلية الفائقة و الليزر، أما بالنسبة للنفق الكمومي الارتباطي للبروتون، ربما يمكن تحقيق مستويات أعلى من الدقة في بعض الثوابت الأساسية، مثل تأثير هال الكمومي (quantum hall effect)، حيث تم تحديد ثابتي فون كليتزينق (von Klitzing) والهيكل الدقيق (fine structure) بشكل أعلى من حيث الدقة"

 
خطط العلماء للبحث عن نفس الظاهرة في أنظمة ذات صلة، وفي هذا السياق قال (يين): "لقد اعتقدنا بأن النفق الكمومي الارتباطي للبروتون في المستوى المجهري، ليس محدوداً على الجليد فقط، إذ يمكن لنفس الشيء أن يحدث في مركبات أخرى تحتوي على الهيدروجين، آخذين في الاعتبار أن درجة الحرارة يجب أن تكون منخفضة بشكل كافٍ، وما زال بحثنا يركز حول الثلج المائي، لكن مع وجود ضغط أعلى سيتبلور الجليد في شكل رباعي الزوايا (tetragonal) أو أحادي الميلان (monoclinic) أو شبكات المكعبات المتقاطعة (interpenetrating cubic lattices)، وسنحاول أن نرى ما إذا كان بإمكاننا رصد نفس الظاهرة مع هذه الحالات أم لا".

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • النفق الكمومي (quantum tunneling): يُشير هذا المصطلح إلى ظاهرة كمومية يُمكن من خلالها للجسيمات عبور حاجز لا يُمكنها عبوره في الفيزياء الكلاسيكية.
  • التابع الموجي (wave function): يصف هذا التابع في ميكانيك الكم الحالة الكمومية لنظامٍ معزول مكون من جسيمٍ او أكثر.
  • الأيونات أو الشوارد (Ions): الأيون أو الشاردة هو عبارة عن ذرة تم تجريدها من الكترون أو أكثر، مما يُعطيها شحنة موجبة.وتسمى أيوناً موجباً، وقد تكون ذرة اكتسبت الكتروناً أو أكثر فتصبح ذات شحنة سالبة وتسمى أيوناً سالباً

اترك تعليقاً () تعليقات