دوردو غوني Durdu Güney واقفٌ في مختبره، حيث قام مع فريقه بالعمل على عدسة مثالية باستخدام مادة خارقة.
تزخر نقطة الدم الواحدة بالكائنات الحية الدقيقة (microorganisms)، تخيلوا لو أمكننا رؤيتها -أي رؤية هذه الكائنات الحية الدقيقة- بالعين المجردة، أو حتى رؤية الفيروسات ذات الحجم النانوي. تحقيق هذا الشيء ممكن جداً باستخدام ما يسميه العلماء بالعدسة المثالية (perfect lens). مع أنه لم يُصنع مثل هذه العدسة بعد، إلا أنها من الناحية النظرية، عدسة متقنة الصنع، مصنوعة بواسطة مواد خارقة (metamaterials) تتم هندستها بحيث تتغير الطريقة التي تتفاعل بها هذه المواد مع الضوء.
على الرغم من أن العدسة المثالية -وكذلك المواد الخارقة التي استخدمت في صنعها- تكون تقريباً مثالية، لكن مثل هذه العدسات غير محصنة ضد الفشل. ومع توسع البحث في هذا المجال خلال الـ15 سنة الماضية بدأت التحدّيات تظهر أكثر فأكثر.
مؤخراً، نجح علماء من جامعة ميشيغان التقنية Michigan Technological University، في إيجاد طريقة يمكن بها حل واحدٍ من أكبر التحديات في هذا المجال، وهو جعل موجات الضوء تعبر خلال العدسة دون أن تُستهلك. نشرت دورية Physical Review Letters هذه الدراسة في شهر تموز/يوليو من هذه السنة 2015، وهي استكمال لعمل دوردو غوني Durdu Güney، وهو بروفيسور في هندسة الكهرباء والحاسوب بجامعة ميشيغان التقنية.
عمل غوني مع كل من مهدي ساداتغول Mehdi Sadatgol وهو مرشح لنيل درجة الدكتوراه من نفس الجامعة، وساهين كايا أوزدِمير Sahin Kaya Özdemir، ولان يانغ Lan Yang، وكلاهما يعمل في شعبة الهندسة الكهربائية وهندسة الأنظمة بجامعة واشنطن Washington University الواقعة بسانت لويس St. Louis.
وقد جاء في الورقة التي كتبها الفريق ما يلي: "تفتح النتائج التي توصّلنا إليها باب الاحتمالات لإحياء الأحلام القديمة في صنع مواد خارقة سحرية، من مواد بسيطة".
وعد المواد الخارقة
عادةً ما يتم تصنيع المواد الخارقة باستخدام مواد طبيعية، ولكنها من الممكن أن تُعدَّل لتمتلك خصائص بصرية (optical) مختلفة. لذا فإن المواد الخارقة تتفوق على المواد الطبيعية مثل الزجاج والبلاستيك والمعادن والخشب. تم تطويع وتعديل المواد الأساسية المستخدمة في صنع المواد الخارقة (كأفلام الفضة الرقيقة التي تستخدمها مجموعة غوني) على مستوىً دون الطول الموجي subwavelength scale، بحيث تتفاعل موجات الضوء مع طبقات الفضة الرفيعة بطرق جديدة. بينما لم يتمكن أحد من صنع العدسات المثالية حتى الآن. نجد أن القاعدة المعدنية التي يختبرها غوني تبدو وكأنها عدسة زجاجية عادية يمكن للضوء أن يمر عبرها بدلاً من أن ينعكس عنها.
في هذا الصدد يقول غوني في معرض شرحه للاستخدام الناجح للألمنيوم والفضة في صنع مواد خارقة، برغم ميلها لامتصاص موجات الضوء: "الألمنيوم والفضة هما أفضل الخيارات حتى الآن في مجال طيف الضوء المرئي visible light spectrum، ليس فقط لصنع عدسة مثالية، وإنما لصنع كل المواد الخارقة"، ويضيف: "الفقد، أو الامتصاص غير المرغوب به للضوء، أمر جيدٌ في الخلايا الضوئية لكنه غير جيدٍ في العدسات، بسبب تدهور موجات الضوء". يكمن حل مشكلة الحصول على صورة أكثر حدة في أن نضحي ببعض موجات الضوء.
الحل الموجود للمواد الخارقة ذات المؤشر السلبي Negative index
يكمن حل مشكلة امتصاص الضوء في الموجات الضوئية نفسها، فهي تبدي سلوكاً غريباً في المواد الخارقة. ولصنع عدسة مثالية تمتاز بالقدرة على حني الضوء كما في الخيال العلمي يجب الاعتماد على مواد خارقة ذات مؤشر سلبي. تعود "السلبية" و"الإيجابية" هنا إلى الطريقة التي تستجيب بها المادة لموجات الضوء المنتشرة أو المضمحلّة، وهو ما يمكن اعتباره كـ "الـين واليانغ" yin and yang لعلم البصريات. معظم المواد ذات المؤشر الإيجابي تسمح فقط بمرور موجات الضوء المنتشرة عبرها. أما من الناحية الأخرى، نجد أن المواد الخارقة ذات المؤشر السلبي تسمح بنفس الشيء لكنها تقوم أيضاً بتكبير موجات الضوء المضمحلة.
يشرح غوني هذه الفكرة قائلًا: "لكي تعمل العدسة المثالية، علينا تجاوز العديد من القيود الكهرومغناطيسية فنحن لا نعرف على وجه الدقة الوسائط البصرية المطلوبة (أي موجات الضوء في المادة) التي يجب علينا إثارتها وحمايتها في العدسة بحيث نحصل على تكوين مثالي للصورة".
قادت هذه الصعوبة الباحثين إلى محاولة القيام بعدة تعديلات في تكوين المادة الخارقة، مضيفين نماذج ذات تعقيد متزايد، بهدف تصيّد الأخطاء. يقترح غوني وفريقه أن يتم الابتعاد عن التعقيدات والتركيز على الضوء نفسه. وعبر خطتهم التي تسمى حقن البلازمون plasmon-injection، واختصاراً (pi-scheme or π-scheme)، يستخدم الباحثون ميزة معرفتهم بالموجات الضوئية التي تتفتت عند عبورها عبر عدسة ذات مؤشر سلبي. فهم يستخدمون هذه الموجات -والمقدر لها أن تفشل- لحماية الموجات المرغوبة والسماح لها بعبور العدسة بدون تغيير.
يقول غوني: "عبر هذه الطريقة يمكن لك أن تهندس هذه الموجة كتضحية، ومن الصعوبة بمكان أن نقوم بنفس الشيء بطرق أخرى".
تطوير هذه التقنية يعني ظهور أجهزة طبية متيسرة وسهلة المنال، ومعدات ذات وزن خفيف، وهذه هي البداية فقط. يضيف غوني (موضحًا أنه يمكن للعدسة المثالية أن تتيح آفاقاً حقيقية جديدة في العلم والطب): "يعتبر التصوير أحد التقنيات الأساسية في هذا المجال، الأمر الذي يجعل الحياة أكثر سهولة، فبإمكان الناس بعيونهم المجرّدة، أن يروا أشياء كثيرة لم يكن من الممكن رؤيتها".
