حين أُطلقت بعثة ناسا الخاصة بالمجال الكروي المغناطيسي متعددة المجالات Magnetospheric Multiscale أو MMS، عرف العلماء بأنها ستجيب عن تساؤلات جوهرية متعلّقة بطبيعة كوننا، ولم تخيّب MMS ظنهم.
فقد قدّمت البعثة اكتشافات جديدة عُرضت في أطروحة نُشرت في Nature Communications لتقدّم بذلك إثباتاً رصدياً لنظرية عمرها 50 عاماً، وتعيد تشكيل فهم أساسي لنوع من الأمواج في الفضاء يعرف باسم موجات ألفن الحركية kinetic Alfvén wave. وهذه النتائج، التي تكشف عن تعقيدات غير متوقعة على نطاق صغير في الموجة، يمكن تطبيقها أيضاً في تقنيات الاندماج النووي التي تعتمد على تقليص وجود مثل هذه الأمواج إلى حدوده الدنيا ضمن المعدات لرفع الكفاءة الحرارية.
كانت أمواج آلفن مثاراً دائما للشكّ في إمكانية نقلها للطاقة ضمن البلازما Plasma عبر الكون (البلازما هي حالة أساسية من حالات المادة تتكون من جسيمات مشحونة) وبمساعدة MMS أصبح العلماء قادرين على إلقاء نظرة عن قرب على الفيزياء المجهرية لهذه الموجات ضمن مجالات صغيرة نسبياً، حيث يحصل انتقال فعلي للطاقة، وهو الأمر الذي لم يكن ممكناً قبل الآن.
ويقول دان جيرشمان Dan Gershman، المؤلف الأساسي وعالم بعثة MMS في مركز غودارد للطيران الفضائي Goddard Space Flight Center التابع لناسا في غرينبلت، ميريلاند وكذلك في كلية بارك في جامعة ميريلاند:" هذه المرة الأولى التي نتمكن فيها من مشاهدة انتقال الطاقة هذا مباشرة، إننا نشاهد موجات آلفن بصورة أكثر تفصيلاً مما حصلنا عليه من قبل".
ويمكن دراسة الموجات على نطاق صغير للمرة الأولى بسبب تصميم MMS الفريد من نوعه، إذ إنّ مركبات MMS الفضائية الأربعة تحلّق في تركيبة هرمية ثلاثية الأبعاد ومحكمة، تفصل بين كلّ واحدة منها أربعة أميال فقط، وهذه المسافة القريبة بين المركبات فاقت ما قد أُنجز سابقاً، إذ إنها صغيرة بما يكفي لتدخل بين قمتين موجيتين. وسمح امتلاك المركبات الفضائية المتعددة للعلماء بقياس تفاصيل دقيقة حول الموجة، كسرعة انتقالها والاتجاه الذي تنتقل به.
Credit: NASA's Goddard Space Flight Center/Genna Duberstein
أما البعثات السابقة متعددة المركبات الفضائية فقد حلّقت ضمن مسافات فاصلة أكبر بين بعضها، ما لم يمكّنها من مشاهدة المجالات الصغيرة، حيث يشبه الأمر محاولة قياس ثُخْن ورقة بعصا مقياس الأراضي. أما تركيبة تحليق MMS المحكمة للمركبات الفضائية فتسمح بتقصي الأطوال الموجية الأقصر من موجات آلفن الحركية، بدلاً من إخفاء التأثيرات صغيرة النطاق.
ويقول جيرشمان:" تتمكن الأمواج من نقل الطاقة عند هذه المجالات الصغيرة، الأمر الذي يجعل دراستها مهمّة جداً". وعندما تتحرك موجات آلفن الحركية عبر البلازما، تُلتقط الإلكترونات المتحركة بسرعة مناسبة في النقاط الضعيفة من المجال المغناطيسي للموجة؛ ولأن الحقل يكون أقوى في كلا الطرفين، فإنّ الإلكترونات ترتدّ ذهاباً وإياباً كما لو أنها محدودة بحائطين، ويعرف هذا الأمر بالمرآة المغناطيسية للأمواج.
وكنتيجة لذلك، لا تتوزع الإلكترونات بالتساوي في جميع الأنحاء، إذ تكون لبعض المناطق كثافة إلكترونية أعلى من غيرها، في حين تبقى بعض الجيوب بعدد أقل من الإلكترونات. وبعض الإلكترونات المنتقلة بسرعات كبيرة أو ببطء شديد ممتطية الموجة، ينتهي بها الأمر بتمرير الطاقة ذهاباُ وإياباً مع الموجة التي تمتطيها لتبقى مواكبة لها.
في أمواج آلفن النموذجية، تتحرك الجسيمات (الصفراء) بحرية على طول خطوط الحقل المغناطيسي
لقد تمّ التنبؤ بقدرة الموجة على احتجاز الجسيمات منذ أكثر من 50 عاماً مضت، ولكنها لم تلتقط بشكل مباشر بمثل هذه القياسات الشاملة حتى الآن، كما تُظهر النتائج الجديدة أيضاً معدلاً أعلى مما كان متوقعاً للاحتجاز.
كما توفّر هذه الطريقة في احتجاز الجسيمات تطبيقات في تكنولوجيا الاندماج النووي أيضاً، إذ تستخدم المفاعلات النووية المجالات المغناطيسية لاحتجاز البلازما من أجل استخلاص الطاقة. وتُعَدُّ الطرائق الحالية غير فعالة؛ إذ إنها تتطلب كميات كبيرة من الطاقة لتغذية الحقول المغناطيسية والمحافظة على درجات حرارة مرتفعة للبلازما. وقد توفّر النتائج الجديدة فهما أفضل لإحدى العمليات التي تنقل الطاقة عبر البلازما.
وفي هذا السياق يقول ستيوارت براجر Stewart Prager، عالم البلازما في مختبر برينستون لفيزياء البلازما في جامعة برينستون في نيوجرسي:" إذا بذلنا بعض المجهود، فإنّ بإمكاننا أن ننتج هذه الأمواج مخبرياً لدراستها، إلا أن هذه الأمواج أصغر بكثير مما هي عليه في الفضاء، ففي الفضاء بإمكاننا أن نقيس،بشكل أفضل، بعضَ الخصائص التي يصعب قياسها مخبرياً".
في أمواج آلفن الحركية، تُحتجز بعض الجسيمات في نقاط الحقل المغناطيسي الضعيفة للموجة وتسير إلى جانب الموجة المتحركة عبر الفضاء.
قد يعلّمنا هذا العمل المزيد عن شمسنا؛ إذ يعتقد بعض العلماء أن موجات آلفن هامة جداً بالنسبة للكيفية التي تُسخّن بها الرياحُ الشمسية solar wind التدفّقَ المستمر للجزيئات الشمسية التي تتأرجح خارجة نحو الفضاء لدرجات حرارة عالية، حيث تُقدّم النتائج الجديدة رؤى عن الكيفية التي من الممكن أن تتم بها هذه العملية.
تنشأ أمواج آلفن الحركية واسعة الانتشار خلال الأوساط المغناطيسية عبر الكون، ومن المتوقع وجودها أيضا في اندفاعات الكوازارات quasarsquasars خارج المجرة. وبدراسة البيئة المجاورة لأرضنا، بإمكان بعثات ناسا مثل MMS الاستفادة من المخابر القريبة والفريدة من نوعها لفهم فيزياء الحقول المغناطيسية عبر الكون.