عندما عبرَ المُستكشِفون الأوائلُ المحيطاتِ الشاسعةَ للوصولِ إلى عوالمَ جديدةٍ، حملوا معهم ما يحتاجونه فقط للوصول إلى هناك. وبعد الوصول إلى وِجهتهم، خطّط الرواد لكسب عيشهم من الأرض الجديدة. يطوّر مهندسو ناسا وعلماؤها الإمكانيّاتِ اللازمةَ لروادِ الفضاء للوصول إلى وجهاتهم التي قد تكون كويكبًا، أو القمر، أو كوكبًا كالمريخ.
في مركز كينيدي للفضاء Kennedy Space Center التابع لناسا في ولاية فلوريدا، يدرسُ الباحثونَ أفضلَ الطرق للاستفادة من الموارد الطبيعية في الموقع نفسه (in-situ resource utilization) أو اختصاراً (ISRU) بمعنى: الحصول والاعتمادُ على الموادِّ الخام المتاحة كلما ذهبَ روّاد الفضاء إلى وجهاتِهم في الفضاءِ السّحيق.
تُشير جوزفين بورنيت Josephine Burnett، مديرةُ منظّمة برامج كينيدي لعمليّات الاستكشافِ والبحوثِ والتّكنولوجيا الجديدة، إلى أهمّيةِ خلقِ قدراتٍ جديدة، وتُضيف: "يتطلّب الإبحارُ في الفضاءِ عدةَ تقنياتٍ ستغيّر من قواعد اللعبة، وبعضُها يجْري تطويرُه هُنا في كينيدي". وتُتابع: "هذه القدراتُ التكنولوجية الجديدة ستُمكن ناسا من الاعتمادِ بنسبةٍ أقل على الخدمات اللوجستية الأرضية، وعوضاً عنها ستسمحُ باستخدامِ المواردِ المتوفرةِ للحفاظِ على وجود، واستمراريّة البشر في الفضاء".
ووفقاً لجاك فوكس Jack Fox، رئيسُ شعبة العلوم والمشاريع التّقنية في منظمةِ برامج عملياتِ الاستكشافِ والبحوث والتّكنولوجيا في كينيدي، فإنّهُ يمكنُ بواسطة ISRU تخفيضُ وزنِ مركبةِ الاستكشافِ الفضائيةِ بعاملٍ بنسبة 40%.
ويُضيفُ جاك أنّ "الغرض من بحوثِ الاستفادة من موارد الموقع ISRU هو تسخيرُ هذه الموارد؛ فمثلاً، عندما جاءَ المستوطنون الأوائلُ إلى أمريكا الشمالية، أحضروا رؤوسَ الفؤوس فقط، فقد كانوا يعرفون أنّه بإمكانهم صنعُ مقابضٍ الفؤوسٍ من الأشجارٍ التي سيجدونَها عندما يصلونَ وجهتَهُم. ونحن نعتقدُ أنّ تعلّمَ العيشٍ بدون موارد متاحة يُقلل إلى حدٍ كبيرٍ من الكتلةِ، والتكلفةِ، ومخاطرِ استكشاف الفضاء على المدي القريبِ والبعيد."
وأوضحَ فوكس أنّ مواردَ مثلَ جليدِ الماءِ، والمعادن، والحطام الصخري ستكون متاحةً بكميات كبيرةٍ سواءً عند التخطيط للعمل على سطح القمر، أوالمريخ، أو أي جهةٍ أخرى.
إنّ الحطام الصخري هو طبقةٌ من مادةٍ رخوةٍ تُغطي الصخور الصلبة، وهي تحتوي على الغبارَ والتُّربةَ والصخورَ المتكسِّرة وموادَّ أخرى ذات صلة بها، وهي موجودةٌ على الأرضِ والقمرِ وبعض الكويكباتِ والمريخ.
ومن الجدير بالذكر أن هنالك مورداً واحداً هو المفتاحُ الأساسي للعديدِ من الأمور، ألا وهو الماء! يقول فوكس: "لقد أَرسَلت عدة بعثاتٍ كوكبيّة بياناتٍ تُشير إلى وجودِ الماءِ القمري الذي يُعتبرُ مَورداً هاماً يمكن أن يُستخدم من قِبَل المستكشفين في المستقبل".
أجرت مهمةُ كليمنتين Clementine، التي انطلقت من قاعدةِ فاندنبرغ الجويّةِ في عام 1994، تجربةَ رادار مزدوجة أظهرت احتمالَ وجودِ المياه في فوّهةِ شاكيلتون Shackelton بالقربِ منَ القطبِ الجنوبيِّ للقمر.
كان هدفُ مهمةِ كليمنتين، المعروفة رسمياً بـ "تجربة برنامج الفضاء السحيق للعلوم"، هو اختبار تعرض أجهزة الاستشعار ومكوناتِ المركباتِ الفضائيةِ لفتراتٍ طويلةٍ لبيئةِ الفضاء، والقيام بأرصاد علميةٍ للقمرِ ولأحدِ الكُويكبات.
اكتشفت مهمة التنقيب التي تم إرسالها إلى القمر حيث انطلقت من قاعدة كيب كانافيرال للقوات الجوية في عام 1998، كميّاتٍ مرتفعةٍ من الهيدروجين في المناطق القطبيةِ للقمر، لكنها لم تتمكن من تمييز شكله الكيميائي، وساعدت بياناتٌ أخرى قادمةٌ من هذه المهمة العلماءَ في بناءِ خريطةٍ تفصيليةٍ لتكوينِ سطحِ القمر.
قدّمت أداتا ناسا المصغرتان RF وM3، الموجودتان على متن المسبارِ القمريِّ تشاندريان-1 (Chandrayaan-1) التّابعِ لمنظمةِ أبحاثِ الفضاءِ الهنديّة، مزيداً من المعلومات حول مواردِ المياهِ فوق القمر، علماً أنّ تشاندرايان-1 كان أول مسبارٍ قمريٍّ هنديٍّ، وقد بدأ العملَ في عام 2008.
اكتشف مسبار الاستطلاع القمريّ ومرصدُ الفوهات القمرية LCROSS، الذي انطلقَ من كيب عام 2009، المزيدَ من المواردِ المائيّةِ المحتمَلةِ. وإضافةً إلى الفوائدِ الواضحة للماء نفسه، يجبُ ألا ننسى أنه مكون من الهيدروجين والأكسجين. يقول فوكس: "من خلال الفصلِ بين هذه العناصر، سيكونُ لدينا كلُّ ما يلزمُ لتشغيلِ خلايَا الوقودِ وتوليدِ الكهرباء،ويُقدّمُ هذا الأمرُ لنا القدرةَ على إيجادِ محطةِ توليدِ كهرباء في أماكنَ بعيدة".
تُحوّل خليةُ الوقودِ الطاقةَ من عنصر، مثل الهيدروجين السائل، إلى كهرباء من خلالِ تفاعلٍ كيميائيٍّ مع الأكسجين السائل، أو عاملٍ مؤكسِدٍ آخر. لازالت هذه التكنولوجيا قيد التطوير في مركز كينيدي، فالحمولةُ العلميةُ (من علوم البيئة والتربة، واستخراج المواد القمرية المتطايرة) (RESOLVE) قيد التطوير لتكونَ جزءاً من مسبارٍ مستقبليٍّ للتنقيبِ عن الموارد. وما يُميز هذه المهمة، التي تخضع لمفهوم (ISRU)، وجودُ ربويوت متجوّل سيصنعُ خريطةً للمواد القمرية المتطايرة، ويحفر السطحَ لاستخراجِ ومعالجةُ عيّناتِ المياه، والموادِّ المتطايرةِ الأخرى.
في علمِ الكواكب، الموادُّ المتطايرة (volatiles) هي عبارةٌ عن عناصرَ ومركباتٍ كيميائيةٍ ذات نقطةِ غليانٍ منخفضة تترافقُ مع قشرة الكوكب، أو القمر، أو الغلافِ الجويّ.
يقول فوكس: "تُمثل (RESOLVE) خطوةً أولى مهمة في إطالة مدةِ الاستكشاف البشريِّ عن طريقِ استخراجِ المياهِ الواقعةِ تحتَ سطح القمر".
الهيدروجين والأكسجين أكثرُ العناصرِ الكيميائيةِ كفاءةً للاستعمال كمواد دافعة في الصواريخ. ولذلك، فإنّ استخراجَ هذه العناصر من موارد القمر الخاصة قد يسمح باستخدام القمر كـ"محطةِ وقود" للمركبة الفضائية لاستكشاف المزيد في النظام الشمسي. ومن الواضح أيضاً أنّ الأوكسجين والماء يُمثلان أكثر المواد قيمةً في دعم الحياة.
منذُ عامِ 1965، دار أسطولٌ من المركباتِ الفضائيةِ الآليّةِ حولَ المريخ وهبَطت على سطحِه، ولدى تلك المُهماتِ زيادةٌ تراكميّةٌ في قاعدةِ البياناتِ المتعلقةِ بالكوكبِ الأحمرِ، مما يساعدُ في تمهيدِ الطريقِ للاستكشافِ البشريّ.
يجري تطويرُ الروبوتات المتجوّلةِ العلمية (Robotic scientific rovers) لاستخدامها في معرفةِ الموادِّ الخام المتوفرة وكمياتها. ويُسمى النموذج الأولي للمتجول (RASSOR)، وهو اختصارٌ لروبوت العمليات المتطورة لنظام الثرى السطحي (Regolith Advanced Surface System Operations Robot)، وقد تمَّ اختبارُه في مستنقعِ أشغال كينيدي، الذي أنُشئ لتقديمِ حلولٍ سريعةٍ ومبتكرةٍ وفعالة من حيث الكلفة للمهام الاستكشافية، ويعزز مستنقع الأشغال من الشراكة بين ناسا والصناعة والأوساط الأكاديمية.
يقول فوكس: "تم تصميم (RASSOR) لتسلق التضاريس الصعبة. فهو يملك عجلاتٍ بمجارف لالتقاط الثرى، ويمكن استخدامُه لجمع العيناتِ، أو حفر مهبط للمسبارات المستقبليّة. في الوقت الذي كان فيه أول جيل من (RASSOR) ناجح جدا، نعمل الآن على (RASSOR 2)، الذي سيكون أخفّ وزنًا، ويستخدم كمياتٍ أقل من الطاقة".
يبدو الثَّرى مُبشرا كمورد للبناء، ويرجع ذلك جُزئيًّا إلى وجودِ البازلت البركاني بشكل واسع في التربةِ السطحيةِ. ويُعلق فوكس قائلاً: "إنّ موادَّ البناء، التي تحتوي على البازلت وعامل رابط، أقوى بمرّتين أو ثلاثِ مرات، من حيثُ الضغط، من الخرسانة المسلحة العادية التي تستخدم عادةً هنا على الأرض"، ويُضيف: "سيكون مادةَ خامٍ ممتازةً للبناء على سطح القمر، أو المريخ."
وأشارَ فوكس إلى أنَّ قوة البازلت في البناء تتجلى في عمارةِ القرن الثاني الرومانية، التي صَمَدَت أمامَ الظروفِ البيئيةِ لعدَّةِ قرون، وأضاف: "تعاونَّا مؤخراً مع باحثين من مركز مارشال لرحلات الفضاء وجيش الولايات المتحدّة لدراسة كيفيّة استخدام الثَّرى لبناءِ هياكلَ لدعمِ استكشافِ المريخ".
تشملُ مهامُّ البناءِ السَّطحي والتنقيب الكوكبي، التي من الممكن استخدامُ ثرى الكواكب فيها: منصات الانطلاق، والهبوط، وملاجئ المعدات، والتنقيبُ عن الثرى لإنتاج الأوكسجين، والتنقيبُ عن جليدِ الماءِ في الفوهات المظللة.
وفي حينِ تُطوّر ناسا طرُقًا لاستخدامِ الموارد المتاحة في رحلاتِ الفضاء السَّحيق، تجري طواقمُ محطةِ الفضاء الدولية (ISS) تجاربَ بحثيةٍ بشرية، ويختبرون نُظُم دعمِ البيئةِ والحياةِ. قد تكونُ القدرةُ على زراعةِ المحاصيل الغذائيّة، وتدوير ثاني أكسيدِ الكربون إلى أكسجين نتنفّسُه، أمراً حاسما بالنسبةِ لروّادِ الفضاءِ، إضافةً إلى مجموعةِ المعارفِ التي تُضيفها أثناء أثناءَ عَيشِهم في الفضاءِ لمدةِ شهورٍ، أو سنواتٍ بصورة مستمرة.
تجري كذلك دراسةُ قابليّةِ نموّ النباتاتِ في حُجرة نموٍّ كبيرة من قِبَل المهندسين في كينيدي، ويهدف الأمر إلى تحديدِ أثر التعرُّض لجاذبيةٍ ميكروية (microgravity) لمدةٍ طويلةٍ على النباتاتِ في الفضاء. وبالمثل، تُمهّدُ مشاريع أخرى الطريقَ لتنميةِ وتناولِ الطعام في الفضاء، مثل مشروع خضروات ناسا.
والآن، يتمُّ استخدامُ تجربةِ الخضرواتِ على متنٍ المحطة الفضائية الدولية (ISS) لدراسةِ الوظيفةِ المدارية وأداء منشأة نموّ النباتِ الجديدة في المدار. واستمراراً لنجاحِ مهمةِ كريوسيتي، تخطط وكالة ناسا لمهمة المريخ 2020 لمواصلةِ البحث عن الموادِّ الخامِ اللازمة لاستكشاف الإنسان للمريخ، ودراسة سهولة الحصول عليها.
من بين أهداف مهمةِ المسبار، المقرر إطلاقه عام 2020: كشفُ وتمييزُ البيئات القديمة التي يمكن أن تؤوي الحياة، والتخزينُ المؤقت للعينات لتعود بها إلى الأرض بعثات مستقبلية، واختبارُ القدرةِ على استخراج الأوكسجين من الغلافِ الجوي للكوكب الأحمر المشبع بثاني أكسيد الكربون، والإعدادُ للاستكشاف البشريِّ في المستقبل.
ستختبرُ تجربةُ أكسجين المريخ (MOXIE) تكنولوجيا التحليل الكهربائي للأكاسيد الصلبة (solid oxide electrolysis technology) التي يمكن زيادتها لتلبية احتياجات البعثات البشرية، في حين أن محلل البيئة الحيوية للمريخ (MEDA) سيحسن من فهمنا للغبار الجوي.
بالإضافةِ إلى وكالةِ ناسا ووكالات فضاء من دول أخرى، يَعتقدُ فوكس أنه سيكون هناك اهتماماتٌ تجاريةٌ مستقبليةٌ حول استخدام الموارد على سطح القمر، أو الكواكب. ويُعلق: "هناك احتمالاتٌ كثيرةٌ فيما يتعلق بالتنقيبِ عن الموادِّ الخام، ووضع تلك الموارد قيد العمل، وقد يجد الصناعيون أنه من المفيد اقتصادياً الانضمامُ إلى هذا الجهد". باختصار، قد تفتحُ الاستثمارات التكنولوجية في الفضاء أسواقاً جديدة، وبالتالي تُحفّز نموَّ اقتصادِ البلاد.
يُضيفُ فوكس: "نعرفُ بوجودِ تحدياتٍ أمام البعثاتِ البشرية إلى المريخِ وهي قابلةٌ للحل، ولدينا برامجُ متعددة تستمر بالتقدم، ستسمحُ لنا بالتغلب على المجاهيل، وتحقيق الاستخدام الأفضل لما نحتاجه، ومعرفة ما سنجده عندما نصل إلى هناك".