صورة فنية لبلازار blazar متوهج الذي تبين مؤخراً أنّه يُسارع جسيمات النيوترينو neutrino والأشعة الكونية إلى سرعات هائلة. يُرسل الثقب الأسود فائق الكتلة الموجود في مركز القرص المتنامي نفاثاتٍ ضيقة عالية الطاقة من المادة إلى الفضاء، بشكلٍ عموديٍّ على القرص. حقوق الصورة: DESY, Science Communication Lab
لأول مرةٍ على الإطلاق، تتبع علماء الفلك جسيمات النيوترينو عالية الطاقة وصولاً إلى مصدرها الكوني، ليعثروا بذلك على حل لغزٍ عمره قرن من الزمن.
النيوترينوات عبارةٌ عن جسيمات دون ذرية عديمة الكتلة تقريباً لا تمتلك شحنةً كهربائية وبالتالي فهي تتفاعل في حالات نادرة مع محيطها. في الواقع، تتدفق تريليونات من "جسيمات الأشباح" هذه عبر جسمك في كل ثانية دون أن تلاحظ ودون أن يواجهها عائق. تأتي معظم هذه النيوترينوات من الشمس، لكن نسبة صغيرة منها، والتي تتمتع بدورها بطاقةٍ أعلى بكثير، تأتي من الفضاء العميق. لقد منعت طبيعة هذه الجسيمات المراوغة علماء الفلك من تتبع أصل هذه الجسيمات الكونية الرحالة حتى الآن.
سمحت عمليات الرصد التي قام بها مرصد آيسكيوب نيوترينو IceCube Neutrino في القطب الجنوبي ومجموعة من الأدوات الأخرى للباحثين بتتبع جسيمات النيوترينو الكونية إلى بلازار بعيد، وهو عبارةٌ عن مجرةٍ إهليلجيةٍ ضخمة تمتلك ثقبًا أسودَ فائق الكتلة supermassive black يدور بسرعةٍ في مركزها.
وهناك المزيد. تنتقل النيوترينوات الكونية جنباً إلى جنب مع الأشعة الكونية، والتي هي جسيماتٌ مشحونةٌ نشطةٌ للغاية تصطدم بكوكبنا باستمرار. لذا، فإن الاكتشاف الجديد يعني أنّ البلازارات تعمل كمُسارعاتٍ لبعضٍ من الأشعة الكونية ذات السرعة العالية.
تساءل علماء الفلك عن هذا الأمر منذ اكتشاف الأشعة الكونية لأول مرة، وذلك في عام 1912. ولكن، أُحبط العلماء بسبب طبيعة الجسيمات المشحونة، والتي تعني تغير مسارها نتيجة سحبها من قبل أجسامٍ مختلفة أثناء انتقالها في الفضاء. وقد جاء النجاح أخيراً عن طريق رصد رحلة الخط المباشر لرفيقاتها، ألا وهي النيوترينوات الشبحية.
يقول فرانسيس هالزين Francis Halzen، عالمٌ رئيسي في مرصد آيسكوب نيوترينو وبروفيسور في الفيزياء في جامعة ويسكونسن ماديسون في حديثه مع موقع Space.com: "نحن نبحث عن مصادر الأشعة الكونية منذ أكثر من قرن، وقد وجدنا واحداً أخيراً".
جهد الفريق
صُمِّم مرصد آيسكيوب، الذي تديره مؤسسة العلوم الوطنية الأمريكية NSF، ليكون صياداً مخصصاً لجسيمات النيوترينو. يتألف المرفق من 86 كابل، والتي تستقر داخل حفرٍ تمتد مسافة 1.5 ميل تقريباً (2.5 كيلومتر) داخل جليد القطب الجنوبي. يحتوي كل كابل بدوره على 60 "وحدة ضوئية رقمية" بحجم كرة السلة مجهزةٌ بكاشفات حساسة للضوء.
صُمّمت هذه الكاشفات لرصد الضوء الأزرق المميز المنبعث بعد تفاعل جسيمات النيوترينو مع النوى الذرية. (يصدر هذا الضوء بواسطة جسيم ثانوي ينتج عن التفاعل. وفي حالة ما كنت تتساءل: يمنع كل هذا الجليد الجسيمات الأخرى غير النيوترينوات من الوصول إلى أجهزة الكشف وتخريب البيانات). يُعتبر رصد هذه الجسيمات الشبحية حدثاً نادراً، فوفقاً لهالزين، يرصد آيسكيوب 200 جسيم تقريباً كل سنة.
لقد قدم المرصد بالفعل مساهماتٍ كبيرة في علم الفلك. ففي عام 2013، على سبيل المثال، قام آيسكيوب بأول اكتشاف مؤكد على الإطلاق للنيوترينوات من مصدرٍ خارج مجرة درب التبانة. لكن الباحثين لم يتمكنوا من تحديد مصدر الجسيمات الشبحية هذه عالية الطاقة في ذلك الوقت.
ولكن في 22 أيلول/سبتمبر عام 2017، رصد آيسكيوب نيوترينوات كونيةً آخرى. لقد كانت ذات طاقةٍ عاليةٍ جداً، حيث تمتعت بطاقةٍ تعادل 300 تيرا إلكترون فولت – أعلى بـ 50 مرةٍ تقريباً من طاقة البروتونات التي تتدفق عبر أقوى مُسارع جسيمات على الأرض، ألا وهو مصادم الهادرونات الكبير LHC.
في غضون دقيقة واحدة من عملية الرصد، أرسل المرصد إشعاراً تلقائياً، لتنبيه علماء الفلك الآخرين عن الاكتشاف، مرسلاً أيضاً إحداثيات رقعة السماء التي يبدو أنها تستضيف مصدر الجسيمات.
وبالفعل، استجاب المجتمع العلمي: فقد بدأ ما يقارب الـ 20 تلسكوباً على الأرض وفي الفضاء برصد هذه الرقعة عبر الطيف الكهرومغناطيسي، من موجات الراديو منخفضة الطاقة إلى أشعة غاما عالية الطاقة. تتبعت عمليات الرصد المشتركة أصل النيوترينوات إلى بلازار معروف بالفعل باسم TXS 0506+056، والذي يقع على بعد نحو 4 مليارات سنةٍ ضوئيةٍ من الأرض.
فعلى سبيل المثال، كشفت عمليات الرصد اللاحقة التي قامت بها عدة أدوات مختلفة، بما في ذلك تليسكوب فيرمي لأشعة غاما الذي يدور حول الأرض والتابع لوكالة ناسا، وتلسكوب شيرينك الرئيسي الجوي لتصوير أشعة غاما (MAGIC) في جزر الكناري، كشفت عن موجةٍ قويةٍ من أشعة غاما من TXS 0506+056.
كما بحث فريق آيسكيوب في بيانات الأرشيف الخاصة به، ووجدوا أكثر من اثني عشر كشفاً لنيوترينوات كونية أخرى بدا أنها قادمة من نفس البلازار. رُصِدت هذه الجسيمات الإضافية بواسطة أجهزة الكشف من أواخر عام 2014 وحتى أوائل عام 2015. يقول ألبريخت كارل Albrecht Karle، وهو عالمٌ بارز في آيسكيوب وأستاذ في الفيزياء في جامعة ويسكونسن ماديسون في بيان: "كل القطع تناسب بين بعضها البعض. شكل كشف النيوترينوات في بياناتنا الأرشيفية تأكيداً مستقلاً. جنباً إلى جنب مع عمليات رصد المراصد الأخرى، فإنّ هذا دليلٌ قاطع على أن هذا البلازر هو مصدرٌ لنيوترينوات ذات طاقةٍ عاليةٍ جداً، وبالتالي أشعة كونية عالية الطاقة".
نُشرت النتائج في دراستين يوم 12 تموز/يوليو 2018 في مجلة Scince. يمكنك الاطلاع عليهما هنــا و هنــا.
بزوغ عصر الفيزياء الفلكية متعددة المصادر
البلازارات هي نوعٌ خاص من المجرات النشطة فائقة اللمعان التي تصدر نفاثاتٍ مزدوجةٍ من الضوء والجسيمات، أحدها موجهٌ مباشرةً إلى الأرض. (وهذا جزئياً سبب السطوع العالي للبلازارات، لأننا نقع على نفس خط انبعاث النفاثات).
حدد علماء الفلك آلاف البلازارات في جميع أنحاء الكون، ولم يُعثر على أيّ واحدٍ منها حتى الآن يقوم بإصدار النيوترينوات باتجاهنا مثل TXS 0506+056. وقد صرح هالزين لموقع Space.com: "هناك شيء خاص حول هذا المصدر، وعلينا أن نعرف ما هو".
هذا مجرد واحدٌ من العديد من الأسئلة التي أثارتها النتائج الجديدة. على سبيل المثال، قد يرغب هالزين في معرفة آلية التسارع: كيف بالضبط تعمل البلازارات على تسريع النيوترينوات والأشعة الكونية إلى مثل هذه السرعات الهائلة؟
أعرب هالزين عن تفاؤله بشأن الإجابة عن مثل هذه الأسئلة في المستقبل القريب نسبياً، مشيراً إلى قوة "الفيزياء الفلكية متعددة المصادر multimessenger astrophysics"، والتي تُعبّر عن استخدام نوعين مختلفين على الأقل من الإشارات لدراسة الكون، في الدراستين الجديدتين.
أتى هذا الاكتشاف في أعقاب اكتشافٍ آخر متعدد المصادر: ففي تشرين الأول/أكتوبر 2017، أعلن باحثون أنهم حللوا بيانات تصادمٍ بين نجمين نيوترونيين فائقين من خلال رصد كل من الإشعاع الكهرومغناطيسي والموجات الثقالية المنبعثة أثناء الحدث الدرامي.
قالت فرانس كوردوفا France Cordova، مديرة مؤسسة العلوم الوطنية الأمريكية في نفس البيان: "بدأ عصر الفيزياء الفلكية متعددة المصادر. حيث يعطينا كل مصدر، من الإشعاع الكهرومغناطيسي، والموجات الثقالية والآن النيوترينوات، فهماً أكثر اكتمالاً للكون ورؤى جديدةً مهمة عن الأجسام والأحداث الأكثر قوةً في السماء".