تحديد مجموعة خلايا الدماغ التي تستجيب للتأمُّل

رابط جسدي بين التنفس العميق واسترخاء الفكر. فيونا ماكدونالد FIONA MACDONALD. التاريخ: 1 نيسان/أبريل 2017

يلجأ الناس منذ قرون عديدة للتنفس ببطء بهدف تهدئة عقولهم.

بالنسبة لبعضنا، فهذه الوسيلة هي أحد أشكال التأمل أو اليوغا. وبالنسبة للبعض الآخر، فهي طريقة لدرء حدوث هجمة الذعر panic attack عبر أخذ عشرة أنفُسٍ عميقة.

وبغض النظر عن الاسم، فقد دعم الدليل العلمي الحقيقة القائلة أنّه يمكن لعملية أخذ النَفَس أن تحفّز الشعور بالسكينة على الرغم من عدم تمكّن أيّ شخصٍ من معرفة كيفية حدوث ذلك، إلّا أنّ الباحثون يعتقدون أنهم قد وجدوا الجواب أخيرًا، وتمكّنوا من تحديد مجموعة صغيرة من الخلايا العصبية توجد في جذع الدماغ brain stems عند الفئران، وهي التي تربط عملية التنفس بالإحساس بالسكينة.

ولِنكون واضحين فإنّ البحث يقتصر حتى الآن على الفئران، حيث لم يتمكن العلماء بعد من تطبيق النتائج التي توصلوا إليها على البشر. ولكن بما أنّ دماغ الفأر يمتلك العديد من نقاط التشابه مع الدماغ البشري، فهذه الدراسة تعدّ نقطة انطلاق جيدة في تفسير -على المستوى البدني- كيف يمكن لممارساتٍ مثل التأمل واليوغا pranayama yoga أن تَجلُب مشاعر الهدوء والنشوة.

يقول قائد هذا البحث مارك كراسنو Mark Krasnow من كلية الطب في جامعة ستانفورد Stanford University School of Medicine: "هذه الدراسة مثيرة للاهتمام لأنّها تمدّنا بفهم الآلية الحاصلة على المستوى الخلوي والجزيئي".

تنتمي مجموعة الخلايا المعنية إلى مركب يدعى ما قبل بوتزنجر pre-Bötzinger، وهو عبارة عن منطقة من الخلايا العصبية الواقعة في عمق جذع الدماغ، والتي تُعرف لِدورها في العمل في كل مرةٍ نأخذ شهيقًا أو نطلق زفيرًا، وكأنّها جهاز لتنظيم حركات التنفس breathing pacemaker.

اكتشفت هذه البنية الدماغية لأول مرة عند الفئران في عام 1991، وعُثر على بنية مماثلة لها عند البشر أيضًا.

يقول كراسنو: "إنّ جهاز تنظيم حركات التنفس يمتلك في بعض النواحي وظيفةً أكثر تعقيدًا من نظيره الموجود في القلب. وعلى عكس سلسلة القلب ذات البعد الواحد في الاستمرارية من بطيءٍ إلى سريع، فإنّه توجد العديد من الأنماط المميزة للتنفس: منتظم، ومتحمس، ومتنهد، ومتثائب، ولاهث، ونائم، وضاحك، وباكي.

وتساءلنا عمّا إذا كانت هناك أنواع فرعية مختلفة من الخلايا العصبية داخل مركز التحكم بالجهاز التنفسي قد تكون مسؤولة عن توليد هذه الأنواع المختلفة من التنفس".

وقد وجد كراسنو وفريقه في العام الماضي أدلة على وجود مجموعة صغيرة من الخلايا العصبية داخل المركب pre-Bötzinger، والتي كانت وحدها مسؤولة عن توليد التنهدات، وبدونها لم تتمكن الفئران أبدًا من أن تتنهد، وعندما حُفِّزت هذه الخلايا لم تتمكن الحيوانات من التوقف عن التنهد.

في هذه الدراسة الأخيرة، اكتشف الباحثون وجود مجموعة أخرى منفصلة من الخلايا العصبية في المركب تمتلك وظيفة تنظيم حالات الهدوء والإثارة كردة فعل على الأنفاس التي نأخذها. وللتحقق من صحة ذلك، حدّد الفريق نقطتي علّام وراثيتين هما Cdh9 و Dbx1، والتي لاحظوا أنّهما كانتا نَشِطتين في المركب pre-Bötzinger، ويبدو أن لهما علاقة بالتنفس.

ثم قاموا بإجراء هندسة وراثية للفئران، حيث قاموا بإزالة الخلايا العصبية التي تعبّر عن الجينين السابقين وبذلك استُبعدت مجموعة فرعية مكوّنة من نحو 175 خلية عصبية في جذع الدماغ. ومن المثير للاهتمام أنّ الفئران التي فقدت هذه الخلايا العصبية بقيت تتنفس بشكل طبيعي، ولكن مع فارق واحد رئيسي هو أنّها أصبحت تتنفس بسرعة أبطأ من الفئران العادية التي لا تزال تمتلك الخلايا العصبية السابقة.

ويقول كيفن ياكل Kevin Yackle، أحد أعضاء فريق البحث في جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو University of California San Francisco: "لقد شعرت بخيبة أمل في البداية". ولكن بعد بضعة أيام لاحظ الفريق حدوث شيءٍ غريب حيث كانت الفئران التي فقدت الخلايا العصبية Cdh9 وDbx1 هادئةً للغاية مقارنةً مع أقرانها الطبيعيين. فلا تزال هذه الفئران تمتلك أنماطًا متنوّعة من التنفس، لكنّ وتيرة التنفس لديهم أصبحت أبطأ بكثير.

ويضيف ياكل: "وإذا ما وضعت هذه الفئران في بيئة جديدة، والتي عادةً ما تحفّز لديهم الاستنشاق والاستكشاف فسيكتفون بمجرد الجلوس ساكنين". وإنَّ ذلك يعتبر بالنسبة للفئران دليلاً على دخولهم في حالةٍ من زنّة العقل.

يقول ياكل لديانا كون Diana Kwon من دورية cientific American: "لقد فوجئنا تمامًا، فذلك بالتأكيد ليس أمرًا كنّا نتوقع العثور عليه". وبعد مزيد من التحقيقات وجد الفريق دليلًا على أنّ الخلايا العصبية التي أزالوها كانت تشكل ارتباطات مع المكان المسمّى الموضع الأزرق locus coeruleus، وهو منطقة في جذع الدماغ وظيفتها تحفيز الإثارة والعاطفة، وهي مسؤولة كذلك عن إيقاظنا ليلًا وإثارة القلق والضيق.

استخلص الفريق أنّ هذه المجموعة الصغيرة من الخلايا العصبية، فضلًا عن تنظيم التنفس، كانت تستجيب لحركات التنفس، وترسل النتائج التي تتوصل إليها إلى الموضع الأزرق، وهذا ما يمكّننا نحن البشر من القدرة على تنظيم مزاجنا كردة فعل على حركات التنفس.

يقول كراسنو: "عند وجود شيء ما يفضي إلى إبطاء أو تسريع تَنَفُسك، فعليك أن تعرف ما هو على الفور. وهذه الخلايا العصبية التي يبلغ عددها 175 تُخبِر بقية أجزاء الدماغ بما يحدث لذلك فهي مهمة للغاية".

يمكنك أن ترى في الصورة في الأسفل المسار (باللون الأخضر) الذي يربط مركز التنفس في الدماغ بمركز الإثارة وببقية الدماغ بشكلٍ مباشر.

من مخبر Krasnow
من مخبر Krasnow


يعدّ هذا العمل بالتأكيد خطوة واعدة إلى الأمام، ولكن علينا أن نضع في الاعتبار أنّه لا يزال هناك الكثير لدينا لمعرفته عن كيفية عمل المركب pre-Bötzinger، وعلى الأخصّ عند البشر.

يقول أنطوان لوتز Antoine Lutz، عالم أعصاب من المعهد الوطني الفرنسي للصحة والبحوث الطبية National Institute of Health and Medical Research لم يشارك في هذا البحث، لدورية Scientific American: "ومع ذلك، توجد دراسة جديدة تثير احتمال أنّ أي شكلٍ من أشكال الممارسة ابتداءً من اليوغا pranayama وانتهاءً بالتأمّل والتي تتلاعب بحركات التنفس قد تستخدم كوسيلة لتنظيم بعض جوانب الإثارة".

في حين أنّ الفرق الأخرى ستحتاج الآن للسعي خلف هذا البحث بشكل أكبر عند الفئران والبشر في نهاية المطاف، يواصل كراسنو وفريقه الآن عملهم آملين كشفَ الأسرار الأخرى المختبئة في مركب pre-Bötzinger.

ويقول فيلدمان Feldman: "يبدو أن مركب ما قبل بوتزنجر يلعب دورًا رئيسيًا في الآثار المترتبة عن حركات التنفس على الإثارة والعاطفة، كما يُلاحظ خلال القيام بالتأمّل. وإننا نأمل أن يؤدي فهمنا لوظيفة هذا المركز الى تطوير علاجٍ لأمراضٍ كالشدة النفسية والاكتئاب والمشاعر السلبية الأخرى".

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

اترك تعليقاً () تعليقات