ما هو الوجود؟ وكيف نبني مجتمعات أفضل؟


"إن الحياة القائمة على التأمل لهي الحياة الفضلى"، هذا ما أشار إليه أرسطو بقوله إن سعادة الإنسان في يوم واحد أو في فترة قصيرة لا تعني أن حياته كلها سعادة (فالحياة السعيدة هي الحياة المكتملة). ولطالما كان السؤال عن ماهية الشيء الذي يعطي معنًى للحياة محوراً للاستفسارات الفلسفية لدهور من الزمن. ومع أنه من الصعب إيجاد إجابة حتمية توضح وتحل هذا السؤال الجوهري، إلا أن الكيمياء العصبية التي تحكم مشاعرنا وتفكيرنا وتصرفاتنا، ترسم لنا أُسُساً جديدة في مسعانا لإيجاد إجابةٍ لهذا السؤال. كما أن هذه الكيمياء العصبية تشير لنا إلى علاقة الارتضاء gratification بالمجتمع على وجه الخصوص، وبالعالم على وجه العموم.

مسيرة طويلة من الاستفسارات الفلسفية



يركّز مفكرو نظرية الوجود Existentialist thinkers على مقدرة الأفراد على إيجاد المعاني من خلال تصرفاتهم، إن فكرة سارتر Sartre التي تنص على أن الوجود يسبق الجوهر existence precedes essence (والتي تشير إلى أن الإنسان يوجد أولًا، ومن ثم يبني قيَمَه الخاصة، ويحدد معنى لحياته؛ ﻷن الإنسان لا يمتلك هوية فطرية، ولا قيَمًا فطرية منذ الولادة) هي رفض لإمكانية أن يكون هناك أي هدف مستمدٍّ من الخارج لحياة الإنسان. وهي في الوقت ذاته حجة تبرهن على أن تصرفات كل فرد هي التي تعطي لحياته معنى. وتنطوي فلسفة نيتشه Nietzsche على عقيدة مماثلة وهي أننا نستطيع أن نتعرف على هوية وحياة كل فرد من خلال التصرفات التي يختارها.

إن الأفكار التي تنص على وجوب عيشِ حياةٍ واقعية، وصنع الخيارات التي تنسجم مع الفهم السليم للذات الإنسانية هي أفكار قوية، ولكنها تترك سؤالًا غير مطروح، ألا وهو: "ما هو الشيء الذي يجعل من الحياة حياة واقعية؟". هنا تحديدًا يمكن للعلوم العصبية المعاصرة أن تقدم استبصارات إضافية؛ وهي تستطيع فعل ذلك ﻷن الكيمياء العصبية المشتركة بين الناس تعني وجود حاجات مشتركة للحصول على الارتضاء الذاتي.

ولشرح ذلك: الدماغ البشري منسّق تلقائياً لطلب السعادة وتجنب الألم، وتكرار الأفعال التي تبلغه حد الارتضاء والابتعاد عن تلك التي تسبب المضايقة. إن هذه العملية والتي أسميتها مسبقاً بـ "الارتضاء المنجز عن طريق الكيمياء العصبية" neurochemically mediated gratification توضح بأن كل البشر يبحثون عن الأشياء ذاتها على المستوى الأساسي. ولكن الصعوبة تكمن على المستوى الفردي؛ حيث يتمثل تحقيق هذا الارتضاء بالقيام بأفعال مدمرة كالإدمان أو التورط في عمل إجرامي. لذا فإنه من الضروري أن تُبنى السياسات الاجتماعية وتُطبَّق بحيث تأخذ هذه التحديات بالاعتبار.

 الارتضاء العصبي الحيوي وخلق الظروف المناسبة



مهما كان السبب الذي يحقق الارتضاء، فإننا سنعايش الارتضاء على المستوى الكيميائي العصبي. كما أن كلاً من مشاعرنا وعواطفنا وخبراتنا لها أساس فيزيائي؛ وذلك ﻷنها تتحقق عن طريق الكيمياء العصبية في الدماغ.

باستخدامنا لتقنيات المسح المتقدمة، صار بإمكاننا مشاهدة أن العمليات العقلية المختلفة تستطيع تغيير تدفق الدم الموضعي والتركيب الكيميائي في الدماغ. وبذلك يمكننا القول أننا نسعى ﻷن نغذي النواقل العصبية لدينا (وهي المراسيل الكيميائية التي تنقل الإشارات عبر الدماغ)، وأن نعزز الناقل العصبي (الدوبامين) المسؤول عن شعورنا بالسعادة. من المرجح أن نتعرف على نواقل عصبية أخرى لها علاقة بمختلف الوظائف الإدراكية وبمختلف أنواع الارتضاء، وأن نتعرف على أدوارها المحددة. ولكن حتى وقتنا هذا، نحن نعلم أن الدوبامين -والذي يرتبط بعمليات الثواب في الدماغ- يخبرنا عن أي العوامل يقود للارتضاء وأيها لا يقود إليه. ولكن، تختلف الأشياء التي تساهم في كل شكل من أشكال الارتضاء الشخصي ومستوى الدوبامين عن بعضها البعض بشكلٍ كبير، وتختلف من فرد لآخر.


إن شعورنا بالارتضاء لا يقتصر على المستوى الكيميائي العصبي للشخص نفسه فحسب، ولكنه ينسجم أيضًا مع عائلاتنا الشخصية والبيئات السياسية الاجتماعية التي نعيشها. ففي مثالي عن الأنانية اللاأخلاقية العاطفية  emotional amoral egoism (اللاأخلاقية هنا تعني أنه لا علاقة له بالأخلاق لا سلبًا ولا إيجابًا – مراجع الترجمة) ناقشتُ العلاقة بين كل من الأساسيات الكيميائية العصبية وبين دور الظروف والأخلاق والتحكُّم الجيد. إن الميزة الجوهرية المشفرة في جيناتنا هي "البقاء" وهذا يعني أن الدافع الأساسي لأفعالنا سيكون دائماً (تقريباً) معتمداً على هذه الغريزة. أما الأفعال التي تقودها دوافع أخرى، فإن لها نسبة من التقلب بحسب البيئة، وذلك يتضمن "بوصلة أخلاقنا" وميولنا للأفعال الأخلاقية.

وكما هو حال طبيعتنا الإنسانية ذاتها، فإن التركيب الكيميائي العصبي لدينا قابل للتعديل، وهذا يعني أن هناك حيّزاً كبير لتدخل البيئة وتشكيل كل من دوافع الارتضاء العصبي الكيميائي وسلوكنا. ولهذا نحاول في حياتنا معايشة العديد من التجارب، ولكننا على الأرجح سنختار تكرار الأفعال التي ترضينا بشكل ما، غير آبهين بعدم واقعية تلك الأفعال أو مدى تأثّرها بإدراكاتنا الشخصية. إن الارتضاء عندنا فردي جداً ونحن نعايشه على المستوى الشخصي (ما يعني أن معايشة الارتضاء تحوم حول ذات الشخص)، ولكنه أيضاً سلس؛ فقد توجهه البيئة والتجارب المعادة، والعوامل التي يتعرض لها المرء إلى حد ما. وبما أننا قادرون على اختيار السلوك المؤذي لنا أو للآخرين، كالعنف أو الإدمان؛ فهذا يعني أن الارتضاء الكيميائي العصبي لدينا ليس بنّاءً بشكل كامل. ولكن الجانب الجيد من قابلية التحول هذه هو أنه بإمكاننا أن نؤثر على أساسيات الارتضاء ونحوله إلى أشكال بنّاءة من السلوك التي ترضي التوقعات الاجتماعية. وفي حالات كهذه، فإن التحكم الجيد يلعب دوراً مهماً، فقد لا نكون مفطورين على أن نكون خلوقين وكريمين وغيورين، ولكن العيش في طبيعة تتواجد فيها الأسباب الأساسية للبقاء والكرامة سيعزز تفكيرنا وتأملنا، الأمر الذي يعد مطلوباً للأفعال الأخلاقية الضميرية.

وبالعكس، ففي معظم الأحيان يكون العيش في جو من الخوف والحرمان والظلم وعدم الأمان، يعيق الأخلاق "ويثير التصرفات التي تقودها الرغبة في البقاء". إن الأذى أياً كان نوعه يحثُّ على تشكل نوع من الارتضاء الشخصي، نوعٍ يكون من المحتمل أن يؤثر على الشخصية والمجتمع على حدٍّ سواء. ولكن في النهاية، إن معنى الوجود هو أمر فردي، وهذا المعنى ينتج عن أي شيء يجلب لنا ارتضاءً كيميائياً عصبياً مستداماً. نستطيع جميعنا أن نأمل ونناضل من أجل شيء وحيد، وهو خلق أجواء يكون فيها الحصول على الارتضاء الكيميائي العصبي المستدام نابعاً من نشاطات ومعتقدات تخلق التوازن بين أمنياتنا الشخصية والقيم المقبولة على الصعيدين المحلي والعالمي.

تعلِّمنا الكيمياء العصبية أننا مجهزون بشكل فطري للبقاء، وأننا مبرمجون مسبقاً للشعور بالرضى، ويكون ذلك غالباً بغض النظر عن العوامل التي تشكِّل مصادر الارتضاء، أو قبول هذه العوامل اجتماعياً أحياناً. فعلى كل من العائلة والتعليم والمجتمع أن يخلقوا أساليب تجعل الأفراد يربطون الارتضاء مع السلوك السوي والبنّاء للفرد والمجتمع. وبذلك فإن أي نوع من العادات الاجتماعية أو المتنفسات الإعلامية أو الأنظمة التعليمية أو الصناعات الترفيهية، كل ذلك يساهم في تعريف الارتضاء. ومن أجل ضمان وجود أنظمة اجتماعية فعالة، فإنه من المهم ربط الارتضاء بالمسؤولية الاجتماعية وأخلاق العمل والخضوع للقانون، والتعاطف والتحمل والاحترام المتبادل.


 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

اترك تعليقاً () تعليقات