عندما تصطدم المجرّات لن تكون النتيجة مشهدًا قصيرًا مذهلًا!. ففي حين يحصل هذا النوع من الأحداث مرةً واحدةً فقط كلّ مليار سنةٍ (ويحتاج ملايين السنوات للاكتمال) فإنّه في الواقع شائعٌ جدًا من منظورٍ كونيٍّ. ومن المثير للاهتمام أن من عواقب هذا الحدث الأكثر إثارةً هو تمزّق النجوم إلى أشلاءَ بواسطة ثقوبٍ سوداءَ فائقة الكتلة SMBHs وهو أمرٌ شائعٌ جدًا كذلك.
تُسمّى هذه العملية في المجتمع العلميّ بافتراس النجوم (stellar cannibalism) أو أحداث التمزيق المديّة (Tidal Disruption Events) وتُعرف اختصارًا بـ TDEs. وحتى وقتٍ قريبٍ، كان علماء الفلك يعتقدون أن هذا النوع من الأحداث نادرٌ جدًا. لكن وفقًا لدراسةٍ رائدةٍ أجراها كبار العلماء من جامعة شيفيلد، فإنّ احتمال حدوثها أكبر مئة مرّةٍ ممّا اعتقد علماء الفلك سابقًا.
اقتُرح هذا النوع من الدراسات TDEs للمرّة الأولى عام 1975 كنتيجةٍ حتميّةٍ لوجود الثقوب السوداء (black holes) في مركز المجرّات. فعندما يمرّ النجم ليصبح قريبًا كفايةً ليصبح خاضعًا للقوى المديّة لثقبٍ أسود فائق الكتلة فإنّه يُعاني حينها مما يعرف بـ "تأثير السباغيتي" (spaghetification) حيث تُسحب الأجسام بعيدًا لتأخذ شكلًا مستقيمًا حول الثقب الأسود. وتؤدّي هذه العملية إلى حدوث اشتعالٍ هائلٍ يمكن أن يكون أكثر إشراقًا بمليارات المرّات من نجوم المجرّة مجتمعةً.
ولأنّ قوة جذب الثقوب السوداء هائلةٌ جدًّا لدرجة أنه حتى الضوء لا يستطيع الهروب من أسطحها (ممّا يجعلها غير مرئيّةٍ للأدوات التقليديّة)، يمكن استخدام TDEs لتحديد موقع الثقوب السوداء فائقة الكتلة في مركز المجرّات ودراسة كيفيّة تجميعها للكتلة. في السابق، اعتمد علماء الفلك على مسوحات منطقةٍ واسعةٍ لتحديد معدّل حدوث TDEs وخلصوا إلى أنّها تحدث بمعدل مرّةٍ واحدةٍ كل 10,000 إلى 100,000 سنةٍ في المجرّة.
ومع ذلك، وباستخدام تلسكوب ويليام هيرشل في مرصد روك دي لوس موتشاكوس في جزيرة لا بالما، أجرى فريقٌ من العلماء، من قسم الفيزياء والفلك في شيفيلد، دراسةً استقصائيّةً لخمس عشرة مجرّةً ساطعةً جدًّا في المجال تحت الأحمر وتمّر بمرحلة اصطدام المجرّات. وعند مقارنة المعلومات الخاصة بمجرّةٍ واحدةٍ رُصدت مرّتين عبر عشر سنواتٍ، لاحظوا حدوث عملية TDEs.
وكانت النتائج التي توصّلوا إليها مفصّلةً في دراسة بعنوان: "حدث تمزّقٌ مديٌّ في الجوار عند مجرّة F01004-2237 تحت الحمراء فائقة الإضاءة"، والتي ظهرت مؤخرًا في مجلة nature. وكما قال عالم الفلك الدكتور جيمس مولاني James Mullaney، وهو محاضرٌ في علم الفلك في جامعة شيفيلد ومؤلفٌ مشاركٌ في الدراسة، في بيانٍ صحفيٍّ للجامعة: "تشهد كلٌ من هذه المجرّات الخمس عشرة تصادمًا كونيًّا مع مجرّةٍ مجاورةٍ. وتُظهر نتائجنا المذهلة أن معدل حدوث عملية TDEs يزداد بقوةٍ عند تصادم المجرّات، ويرجع ذلك إلى حقيقة أن التصادمات تؤدّي إلى تشكيل أعدادًا كبيرةً من النجوم بالقرب من الثقوب السوداء الهائلة المركزية في المجرّتين أثناء اندماجهما معًا".
رصد فريق شيفيلد لأوّل مرّةٍ هذه المجرّات المتصادمة الخمس عشرة في عام 2005 خلال مسحٍ سابقٍ. مع ذلك، حين رصدوها مرّةً أخرى في عام 2015، لاحظوا أن واحدةً من المجرّات في العيّنة، F01004-2237، بدا أنها شهدت بعض التغييرات. وقام الفريق بمراجعة البيانات من تلسكوب هابل الفضائيّ ومسح كاتالينا سكاي، اللذان يراقبان سطوع الأجسام الفلكيّة (وخاصّةً الأجسام القريبة من الأرض) بمرور الوقت. وما وجدوه هو أن سطوع مجرّة F01004-2237، التي تبعد حوالي 1.7 مليار سنةٍ ضوئيّةٍ من الأرض، قد تغيّر بشكلٍ كبيرٍ. وعادةً ما تُعزى هذه الإضاءة إلى المستعر الفائق (supernova) أو المادة المتراكمة على الثقوب السوداء فائقة الكتلة في المركز (ويُعرف أيضًا باسم نواة المجرّة النشطة AGN).
ومع ذلك، فإنّ طبيعة هذا الاشتعال (الذي أظهر خطوط إصدار هليوم قويّةً وغير عاديّةٍ على نطاقٍ واسعٍ في طيفه السابق) كان أكثر اتساقًا مع TDE. إن الكشف عن ظهور مثل هذا الحدث خلال الأرصاد الطيفيّة لعينةٍ من خمس عشرة مجرّةً على مدى فترة عشر سنواتٍ فقط يُشير إلى أنّ معدّل حدوث TDE كان أعلى بكثيرٍ ممّا اعتُقِد سابقًا بعاملٍ لا يقلّ عن مئةٍ.
يقول كلايف تادونتر Clive Tadhunter، أستاذ الفيزياء الفلكيّة في جامعة شيفيلد والمؤلّف الرئيسيّ للدراسة: "استنادًا إلى نتائجنا الخاصّة بـ F01004-2237، فإننا نتوقّع أن أحداث TDE ستصبح شائعةً في مجرّة درب التبّانة عندما تندمج في نهاية المطاف مع مجرّة المرأة المسلسلة (Andromeda) المجاورة في غضون خمسة مليارات سنةٍ. وبالنظر إلى مركز درب التبّانة في وقت الاندماج فإنّنا كنّا سنراها مضيئةً تقريبًا كلّ عشر إلى مئة سنةٍ. وستكون التوهّجات مرئيةً للعين المجرّدة وستظهر أكثر إشراقًا من أيّ نجمٍ آخر أو كوكبٍ في السماء ليلًا".
في هذه الأثناء، يمكننا أن نتوقّع رصد حدوث TDE في المجرّات الأخرى أثناء فترة حياتنا الخاصّة. وكانت آخر مرّةٍ شهدنا فيها هذا الحدث مباشرةً في عام 2015 عندما كشف مسح السماء الآلي عن المستعرات الفائقة (المعروفة أيضًا باسم ASAS-SN أو كما تلفظ الحشاشين Assassin)، والتي رُصدت في حدثٍ هائل الإضاءة على بعد أربعة مليارات سنةٍ ضوئيّةٍ والذي تبعته أبحاثٌ أظهرت أنه نجمٌ ابتُلِع بواسطة ثقبٍ أسود هائلٍ دوّار.
بطبيعة الحال، فإن أخبارًا كهذه يجري تلقّيها بإثارةٍ في المجتمع الفلكيّ لأنّها نادرة الحدوث. ولكن إذا كانت نتائج هذه الدراسة تُشير إلي شيءٍ ما، ينبغي حينها أن يرصد الفلكيون الكثير من النجوم التي تتمزّق ببطءٍ في المستقبل غير البعيد جدًّا. ومع التحسينات المستمرّة في الأجهزة، وأدوات الجيل القادم مثل تلسكوب جيمس ويب، التي سيجري تشغيلها في السنوات المقبلة، فإنّ هذه الأحداث النادرة والرائعة للغاية قد تصبح أكثر شيوعّا.