تلسكوب هابل يُحقق اكتشافاً جديداً

في عمليات الرصد التي قاموا بها بواسطة تلسكوب هابل الفضائي Hubble Space Telescope التابع لوكالة ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية European Space Agency، أو اختصاراً إيسا (ESA)، اعتمد علماء الفلك على تقنية التعديس الثقالي (gravitational lensing) للكشف عن أكبر عينة من المجرات القديمة والأقل سطوعاً في الكون حتى الآن. تشكّلت بعض هذه المجرات خلال فترة زمنية لم تتجاوز 600 مليون سنة بعد حدوث الانفجار العظيم [1]، وهي أكثر خفوتاً من أي مجرةٍ أخرى رصدها تلسكوب هابل من قبل. كما أكّد فريق العلماء لأول مرة على أن هذه المجرات الصغيرة كانت مهمةً جداً وضرورية لتشكّل الكون كله.

قام فريقٌ دوليٌ من علماء الفلك بقيادة حكيم عاتق Hakim Atek، من المعهد الاتحادي السويسري للتكنولوجيا في لوزان Ecole Polytechnique Fédérale de Lausanne، في سويسرا، باكتشاف أكثر من 250 مجرةً صغيرة الحجم تشكّلت ووُجِدت بعد الانفجار العظيم بحوالي 600-900 مليون سنة. وتُعدّ هذه أكبر عينة تحتوي على مجرّاتٍ قزمة تم اكتشافها حتى الآن في مثل هذه الفترات الزمنية. هذا واستغرق الضوء القادم من تلك المجرّات حوالي 12 مليار سنة للوصول إلى التلسكوب، ما يعني أنه حين نظر علماء الفلك إلى تلك المجرّات فإنهم رأوا الكون عندما كان لا يزال في بداياته، وكأنهم عادوا بالزمن إلى الوراء.

وعلى الرغم من أن اكتشاف العلماء لهذا العدد من المجرات التي عاشت في تلك الحِقبة المُبكرة من عمر الكون كان إنجازاً مُذهلاً بحد ذاته إلا أنه لم يكن الوحيد، حسب ما أفاد به جوهان ريتشارد، Johan Richard، من مرصد ليون Observatoire de Lyon في فرنسا حيث قال: "أكثر المجرات خُفوتاً من بين كل المجرات التي رصدناها في هذه الدراسة بواسطة تلسكوب هابل هي في الواقع أكثر خفوتاً من أي مجرة أخرى رصدناها سابقاً بواسطة هذا التلسكوب".

ومن خلال مشاهدة الضوء القادم من تلك المجرات، اكتشف الفريق أن الضوء المُتراكم الصادر عن تلك المجرات ربما لعب دوراً مهماً ورئيسياً في واحدة من أكثر فترات تاريخ الكون المُبكّر غُموضاً، ألا وهي حِقبة عودة التأيّن (epoch of reionization). بدأت حقبة عودة التأيّن عندما شرعت غيمة الضباب الكثيفة المُكوّنة من غاز الهيدروجين والتي كانت تحجب الكون حديث التشكّل بالانقشاع. بعد ذلك، أصبح بإمكان الضوء ما فوق البنفسجي السفر عبر الفضاء وقطع مسافاتٍ أكبر من دون أن يُعيقه شيء وأصبح الكون مفتوحاً أمامه (أي أصبح شفافاً).[2]

ومن خلال مراقبة ورصد الضوء ما فوق البنفسجي القادم من المجرات التي اكتُشفت في هذه الدراسة، تمكن العلماء من معرفة فيما إذا كانت بعض تلك المجرات مُشاركة في هذه العملية. بهذا أكّد الفريق لأول مرة أن أصغر المجرات وأكثرها عدداً، وفق ما تم التوصّل إليه من خلال هذه الدراسة، يمكن أن تكون هي التي ساعدت في الإبقاء على الكون شفافاً أمام الضوء ما فوق البنفسجي. ومن خلال ما توصلوا إليه، أكّد العلماء أن حقبة عودة التأيّن – والتي انتهت عندما وصل الكون إلى المرحلة التي أصبح فيها كامل الشفافية – قد وصلت إلى نهايتها بعد حوالي 700 مليون سنة من حدوث الانفجار
العظيم. [3]


وبهذا الشأن يُوضح عاتق، المؤلف الرئيسي لهذه الدراسة: "عندما حصرنا تفكيرنا في المساهمات التي قدمتها المجرات الساطعة والضخمة فقط وجدنا أن مثل هذه المجرات لم تكن كافية لإعادة تأيين الكون. لذا كنا في حاجة إلى إضافة المساهمات التي قدمتها المجرات القزمة الخافتة المنتشرة بأعداد كبيرة في تلك الفترة".

ولتحقيق مثل هكذا اكتشافات، استخدم الفريق أكثر صور التعديس الثقالي التي تم إنتاجها عُمقاً حتى الآن في ثلاثة من عناقيد المجرات والتي التُقطت كجزءٍ من برنامج حقول هابل الحدودية [4] Hubble Frontier Fields Programme. تُنتج هذه العناقيد حقولاً مغناطيسية هائلة قادرة على تكبير الضوء القادم من المجرات الخافتة الواقعة وراء تلك العناقيد (المقصود أن هذه الحقول تعمل عمل العدسة المُكبّرة حيث تُكبّر الأجرام السماوية البعيدة مثل المجرات البعيدة، وتجعل من السهل على العلماء رؤيتها). من خلال هذه الطريقة، استطاع العلماء البحث عن أول جيل من المجرات في الكون ودراستها بسهولة كبيرة.

ويشرح جين بول نيب، Jean-Paul Kneib، المؤلف المشارك في الدراسة من المعهد الاتحادي السويسري للتكنولوجيا في لوزان في سويسرا هذا الموضوع بقوله: "تعمل العناقيد الموجودة في الحقول الحدودية كتلسكوبات طبيعية قوية تكشف عن وجود تلك المجرات القزمة الخافتة البعيدة، ولولا هذه الطريقة لما تمكّنّا من رؤيتها".

كما تُعلّق ماتيلديه جاوزاك، Mathilde Jauzac، المؤلفة المشاركة في الدراسة من جامعة دورام بالمملكة المتحدة وجامعة كوازولو- ناتال في جنوب إفريقيا على أهمية هذا الاكتشاف ودور تلسكوب هابل فيه بقولها: "لا يزال تلسكوب هابل الأفضل في هذا المجال نظراً لقدرته على رصد أكثر المجرات بُعداً عنا. العمق الهائل الذي تتمتع به بيانات برنامج حقل هابل الحدودي كفيل بتزويدنا بمعلومات دقيقة جداً حول قدرة العنقود على التكبير، ما يسمح لنا بتحقيق مثل هذه الاكتشافات العظيمة".

تُشير هذه النتائج إلى الاحتمالات الهائلة والمُذهلة المرتبطة ببرنامج الحقول الحدودية حيث بالإمكان الكشف عن المزيد من المجرات في مراحل زمنية أبكر من عمر الكون عندما يبدأ هابل برصد العناقيد الثلاثة في المستقبل.

ملاحظات:


[1] تتراوح نسبة الانزياح الأحمر أو الإزاحة الحمراء (redshift) لهذه الأجرام السماوية بين z=6 و z=8....(ملاحظة: يُشير مصطلح الإزاحة الحمراء إلى عملية قياس لون الجرم السماوي لمعرفة إن كان يبتعد أو يقترب منا، فالمعروف أن اللون الأحمر له أقل تردد، وبالتالي فإن كان الجرم السماوي يبتعد عنا فإن الموجات الضوئية تتمدد وتتحول إلى ترددات أقل وبالتالي تكتسب اللون الأحمر، أما المُقتربة فتتقلص وتتحول إلى ترددات أعلى وبالتالي تتخذ اللون الأزرق).

[2] يمتص غاز الهيدروجين المُحايد الضوء ما فوق البنفسجي ذي الطاقة العالية كله الصادر عن النجوم الساخنة حديثة التشكّل وبشكل فعّال جداً. في الوقت نفسه، يقوم الضوء ما فوق البنفسجي الذي تم امتصاصه بتأيين الهيدروجين. بعدها أصبح غاز الهيدروجين المُؤيّن منخفض الكثافة الذي يملأ الكون شفافاً بشكل كامل. في هذه المرحلة، شكّلت النجوم الساخنة فقاعات شفافة في الغاز، وما إن اندمجت تلك الفقاعات مع بعضها وملأت الفضاء كله كانت عملية عودة التأيّن قد اكتملت وأصبح الكون بعد ذلك شفافاً أمام الضوء ما فوق البنفسجي.

[3] ويُعادل هذا نسبة إزاحة حمراء هي z = 7.5.


[4] حقول هابل الحدودية هو برنامج يمتد على مدار ثلاث سنوات ويتضمن 840 مداراً، وستنتج عنه مشاهد للكون تُعد الأعمق حتى الآن. سيعتمد البرنامج على الجمع بين قوة تلسكوب هابل وتقنية التكبير الثقالي للضوء حول ستٍ من العناقيد المجرية من أجل استكشاف المناطق الأبعد من الفضاء والتي لا يمكن استكشافها بأي طريقة أخرى.



معلومات إضافية:


  • تلسكوب هابل الفضائي هو مشروع تعاون دولي بين وكالة الفضاء الأوروبية، إيسا، ووكالة الفضاء الأمريكية، ناسا
  • حقوق الصورة: ناسا، إيسا وفريق حقول تلسكوب هابل الفضائي الحدودية (STScl)
  • تم تقديم هذا البحث ضمن ورقة علمية بعنوان "هل المجرات فائقة الخفوت عند مستوى z= 6-8 مسؤولة عن عملية عودة التأيّن الكونية؟ القيود المجتمعة المرتبطة بعناقيد حقول هابل الحدودية والمتوازيات" للمؤلف أتش. عاتق وآخرون، والتي ستُنشر في مجلة أستروفيزيكال Astrophysical.
  • يتألف فريق علماء الفلك الدولي العامل على هذه الدراسة من: حكيم عاتق (من المعهد الاتحادي السويسري للتكنولوجيا في لوزان، سويسرا، قسم علم الفلك، جامعة ييل، الولايات المتحدة الأمريكية)، وجوهان ريتشارد (مركز أبحاث الفيزياء الفلكية في ليون Centre de Recherche Astrophysique de Lyon، أو اختصاراً CRAL، ومرصد ليون في فرنسا)، وماتيلديه جوازاك (معهد علم الكونيات الحاسوبية Institute for Computational Cosmology، جامعة دورام في المملكة المتحدة، ووحدة بحوث علم الكونيات والفيزياء الفلكية في جامعة كوازولو- ناتال في جنوب إفريقيا)، وجين-بول نيب (مختبر الفيزياء الفلكية في المعهد الاتحادي السويسري للتكنولوجيا في لوزان، سويسرا، وجامعة إيكس مرسيليا، المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي Centre national de la recherche scientifique، أو اختصاراً CNRS، أل إيه أم يو أم أر 7326، فرنسا)، وبريامفادا ناتاراجان (قسم علم الفلك، جامعة ييل، الولايات المتحدة الأمريكية)، ومارسياو ليموسين (جامعة إيكس مرسيليا، المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، أل إيه أم يو أم أر 7326، فرنسا)، ودانييل شارير (مرصد جينيف، سويسرا، المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، ومعهد بحوث الفيزياء الفلكية في فرنسا)، وإيريك جولو (جامعة إيكس مرسيليا، المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، أل إيه أم يو أم أر 7326، فرنسا)، وهيرالد إيبلينغ (معهد علم الفلك، جامعة هاواي، الولايات المتحدة الأمريكية)، إيتشي إيغامي (مرصد ستيوارد، جامعة أريزونا، الولايات المتحدة الأمريكية)، وبينجامين كليمينت (مركز أبحاث الفيزياء الفلكية في ليون، ومرصد ليون في فرنسا).

 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • المفعول العدسي التثاقلي (gravitational lensing): المفعول العدسي التثاقلي: يُشير إلى توزع مادة (مثل العناقيد المجرية) موجودة بين مصدر بعيد والراصد، وهذه المادة قادرة على حرف الضوء القادم من المصدر أثناء تحركه نحو الراصد. ويُترجم أحياناً بالتعديس الثقالي أيضاً.

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات