إذا كانت النظريات العلمية تتغير باستمرار فأين الحقيقة؟

اقترح إسحاق نيوتن Isaac Newton في عام 1666 نظرية الجاذبية، وكان ذلك من أعظم المآثر الفكرية على مر العصور. فشرحت النظرية كل الحقائق المدركة ووضعت تنبؤات فُحصت لاحقًا وأُثبتت صحتها ضمن حدود دقة المعدات التي استخدمت. وبقدر ما يمكن لأي شخص أن يرى، نظرية نيوتن كانت "الحقيقة".

خلال القرن التاسع عشر، استُخدمت معدات ذات دقة أكبر لفحص نظرية نيوتن، وكشفت النتائج عن بعض التناقضات الطفيفة. قدم ألبرت أينشتاين Albert Einstein نظرياته النسبية التي شرحت الحقائق المدركة الجديدة ووضعت المزيد من التنبؤات، وفُحصت هذه التنبؤات وأُثبتت صحتها ضمن حدود دقة المعدات التي استخدمت. وبقدر ما يمكن لأي شخص أن يرى، نظرية أينشتاين كانت "الحقيقة".

إذًا، كيف يمكن للحقيقة أن تتغير؟ حسنًا، الجواب هو أنها لم تفعل.


ما زال الكون كما كان منذ الأبد. عندما يتم الحكم على نظرية بأنها صحيحة فيعني ذلك أنها تتفق مع الأدلة التجريبية المعروفة. لكن حتى أفضل النظريات ثبت عدم اكتمالها مرارًا ومرارًا: بالرغم من أنها قد تفسر العديد من الظواهر باستخدام عدد قليل من المبادئ، وحتى قد تتنبأ بالعديد من النتائج الجديدة والمثيرة.

 

في النهاية التجارب الجديدة (أو التجارب الأكثر دقة) تظهر تناقضًا بين أعمال الطبيعة وتنبؤات النظرية. بالمعنى الدقيق، النظرية لم تكن صحيحة بعد كل ذلك؛ لكن تبقى الحقيقة التي جاءت بها قريبة جدًا للحقيقة على أرض الواقع، على الأقل حين نكون معنيين بظاهرة معينة.

عندما تعجز نظرية متفق عليها عن تفسير معلومات جديدة تم التحقق من صحتها، يسعى الباحثون في ذلك المجال إلى وضع نظرية جديدة. وتزداد هذه المهمة صعوبة كلما ازدادت معرفتنا، فليس على النظرية الجديدة تفسير البيانات الجديدة فحسب، لكن أيضًا البيانات القديمة: فيجب على النظرية الجديدة كمهمة أولى أن تلتهم ثم تستوعب النظريات السابقة.

ملاحظة أخرى حول الحقيقة: العلم لا يصدر أحكامًا أخلاقية. أي شخص يحاول سحب دروس أخلاقية من قوانين الطبيعة يعتبر في زاوية الخطر. ويبدو أن نظرية التطور بالتحديد تعاني من ذلك. في وقت أو آخر يبدو أنها استُخدمت لتبرير النازية والشيوعية وكل التوجهات المتطرفة الأخرى. هذه التبريرات كلها مزيفة. وبالمثل، أي شخص يقول "التطور شرير لأنه استُخدم لدعم الشيوعية" (أو أي توجه متطرف آخر) أيضًا ضل عن مسار المنطق (ولن يعيش حياته ولن يزدهر).

ما هو موس أوكام؟


عندما تحتاج مجموعة جديدة من الحقائق إلى خلق نظرية جديدة فالأسلوب المتبع بعيد جدًا عن الصورة النظامية التي تقدم بها النظرية عادة في الكتب. فالكثير من الفرضيات المقترحة رُفضت بعد دراستها. حيث يناقش الباحثون مصداقيتها (بجسامة في بعض الأحيان) عبر اقتراح تجارب ستصادق على إحداها وترفض أخرى، ما سيظهر العيوب في تلك الأقل تماسكًا، إلخ. ومع ذلك، حتى عندما تُتجاهل الفرضية غير المناسبة، ستبقى هناك عدة خيارات بعضها يقدم التنبؤات نفسها، مع افتراضات ضمنية إضافية. ومن أجل اختيار نظرية من هذه النظريات المحتملة من المفيد جدًا استعمال أداة تدعى "موس أوكام" (Ockham's Razor). 

وموس أوكام هو مبدأ اقترحه ويليام أوكام William of Ockham في القرن الرابع عشر "Pluralitas non est ponenda sine neccesitate" مما يترجم كالآتي: "ينبغي علينا أن لا نكثر الموجودات بغير مسوغ". 

يمكن تأويلها في كثير من الحالات بـ "أبقها بسيطة"، ولكن في الحقيقة لدى موس أوكام معنى مشوق وأعمق من ذلك. لتفترض بأن لديك نظريتان تتنافسان على شرح النظام نفسه، إن كان لدى هذه النظريات تنبؤات مختلفة إذًا المسألة بسيطة نسبيًا لمعرفة أيهما أفضل: يتم اختبارهما بالدقة اللازمة لتحديد أيهما يعطي توقعات أدق.

 

على سبيل المثال، في نظرية كوبرنيكوس للنظام الشمسي، تتحرك الكواكب بشكل دائري حول الشمس، وفي نظرية كبلر تتحرك بشكل إهليجي. عبر قياس مسار الكواكب بشكل دقيق تم تحديد بأنها تتحرك بشكل إهليجي، وعندها تم استبدلت نظرية كبلر بنظرية كوبرنيكوس. 

ولكن هناك نظريات متشابهة من حيث التوقعات وهنا يكون مبدأ موس أوكام مفيدًا. ولنأخذ على سبيل المثال هاتين النظريتين الموجهتين لوصف حركة الكواكب حول الشمس: 
 

  •  الكواكب تتحرك حول الشمس بشكل بيضاوي لوجود قوة بين أي منها وبين الشمس وتقل هذه القوة مع مربع المسافة.
  • الكواكب تدور حول الشمس بشكل بيضاوي بسبب وجود قوة بين أي منها وبين الشمس وتقل مع مربع المسافة. وهذه القوة تولدها إحدى الكائنات الفضائية بقوة الإرادة. 


بما أن القوة بين الكواكب والشمس تحدد حركتها وكلا النظريتين تفترضان نفس نوع القوة، فإن الحركة المُتنبأ بها بين الكواكب ستكون متطابقة في كلا النظريتين. ولكن لدى النظرية الثانية حقيبة إضافية (إرادة الكائنات الفضائية) غير الضرورية لوصف النظام. 

في حال قبل أحدهم النظرية الثانية فقط بناءً على قدرتها على التنبؤ بشكل صحيح بحركة الكواكب فهذا الشخص يقبل أيضًا وجود الكائنات الفضائية القادرة على التأثير في تصرف الأشياء، على الرغم من أن وجود هكذا كائن من عدمه لا يؤثر على حركة الكواكب (العنصر المهم الوحيد هو نوع القوة). في هذه الحالة سيرفض موس أوكام النظرية الثانية بشكل قطعي.

 

رفض هذا النوع من الفرضيات الإضافية التي ليس لها علاقة يحمي من استعمال أدلة مادية علمية (كالتنبؤ بحركة الكواكب) لتبرير تصريح غير مرتبط (كوجود الكائنات الفضائية) والذي يمكن أن يكون له تأثيرات دراماتيكية. في هذه الحالة العاقبة هي أن آلية حركة الكواكب، وسبب سقوطنا نحو الأرض عندما نتعثر... إلخ، هو بسبب مخلوقات فضائية ذات قوة ذهنية، وهذه القوى الذهنية تتحكم بكامل نظامنا الشمسي، وهذه القوة معنا الآن أيضًا ... ومن هنا سيظهر عدد لا يحصى من الاشتقاقات الخارقة.

بناءً على المعلومات التي لدينا، لا نعلم ما إذا كانت القوى الذهنية لمخلوقات فضائية اخترقت نظامنا الشمسي، ولكن حركة الكواكب التي يُمكن تفسيرها عبر فكرة بسيطة وهي قوة بينها والشمس، لا تقدم أي دليل على وجود كائنات فضائية ولا تقدم أيضًا دليلًا على عدم وجودها. 

تطبيق أوضح لموس أوكام هو عندما نواجه نظريتين مختلفتين بتنبؤ موحد والبيانات المتاحة لا تستطيع التمييز بينهما. في هذه الحالة يوجهنا مبدأ موس أوكام لدراسة بعمق أبسط النظريات. المبدأ لا يضمن أن النظرية الأبسط هي نظرية صحيحة، ولكنه مجرد تحديد للأولويات. 


وهناك قاعدة ذات صلة، يمكن استعمالها لتشريح نظريات المؤامرة المفتوحة، وهي "موس هانلون" وتقول: "لا تنسب إلى المؤامرة ما يمكن تفسيره كما ينبغي على أنه غباء".

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات